عودة تركيا للتنقيب عن الغاز.. هل تشعل صراع شرق المتوسط مع اليونان؟
بعد هدوء عاشته مدة عامين، عادت مياه شرق البحر الأبيض المتوسط إلى السخونة من جديد مع إطلاق تركيا سفينتها الرابعة للتنقيب عن الثروات التي تحمل اسم "عبد الحميد خان".
وهدأت الأمور بالفعل بعد إظهار تركيا حسن نيتها ورغبتها في التوصل إلى حل للأزمة، بإعلانها سحب سفينة البحوث التركية "أروش رئيس" من البحر المتوسط في 13 سبتمبر/أيلول 2020.
لكن التغيرات المحيطة، زادت من تأجج الأوضاع مجددا، لا سيما تجاهل اليونان جميع الحلول المقدمة من تركيا منذ سحب سفينتها.
الخطوة التركية أعلنت معها اليونان حالة التأهب القصوى في مياه البحر المتوسط؛ بل وصل الأمر لتكليف رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس وزارة الدفاع لاتخاذ اللازم لمواجهة الخطوات التركية في شرق المتوسط.
وحسب صحيفة "تانيا" اليونانية، أعلنت أثينا في 14 أغسطس/آب 2022، حالة التأهب لمدة 72 ساعة لمعرفة خط سير حركة السفينة التركية عبد الحميد خان الأضخم والأحدث في أسطول التنقيب التركي.
وكان وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز قد كشف في تغريدة عبر حسابه على تويتر في 10 أغسطس عن وصول سفينة "عبد الحميد خان" إلى منطقة التنقيب "يوركلر-1" في البحر الأبيض المتوسط.
Abdülhamid Han, milletimizin duaları ve umutlarını da yüklenerek Akdeniz’deki ilk görev yeri Yörükler-1'de... pic.twitter.com/KH1jxFM2ar
— Fatih Dönmez (@fatih_donmez) August 10, 2022
بدء العمل
وأبحرت سفينة التنقيب التركية في 9 أغسطس من ميناء مرسين جنوب تركيا للتنقيب عن الطاقة في البحر المتوسط وسط مراسم حضرها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وفي الكلمة التي ألقاها أردوغان في الحفل بميناء طاش أوجو بولاية مرسين (جنوبي تركيا)، قال: "في مجال البحث عن الطاقة نحن موجودون بـ4 سفن تنقيب وسفينتي مسح جيولوجي".
وأضاف: "نخطط لوضع الغاز الطبيعي الذي نعمل على استخراجه من الآبار العشر بالبحر الأسود في خدمة مواطنينا عام 2023".
وأكد أردوغان أنّ "عمليات التنقيب التي أجريناها في البحر المتوسط كانت ضمن مناطق سيادتنا، لهذا لسنا بحاجة إلى إذن من أحد".
وأردف: "سنودع سفينة عبد الحميد خان لتتوجه إلى بئر يوروكلر-1 على بعد 55 كيلو مترا قبالة سواحل مدينة غازي باشا بأنطاليا".
وأوضح الرئيس التركي أن بئر "يوروكلر-1" هو الخطوة الأولى ضمن خطة أعمال تركية شاملة في شرق المتوسط".
وبين أن سفينة "عبد الحميد خان" للتنقيب رمز لرؤية تركيا الجديدة في مجال الطاقة.
في سياق متصل، أعلنت تركيا إخطار "نافتكس" بشأن المنطقة التي ستعمل فيها سفينة التنقيب عبد الحميد خان.
وبموجب الإعلان، ستواصل السفينة مهامها في المنطقة التي أعلن عنها أردوغان، حتى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2022
و"نافتكس"، اختصار لمصطلح "الرسائل النصية البحرية"، وهو جهاز يرسل إشعارات دولية للبحارة من أجل التنبيه والتواصل مع السفن في عرض البحر.
ويبلغ طول السفينة 238 مترا وعرضها 42 مترا ومزودة بنظام أمان مزدوج، وستعمل على تعزيز جهود تركيا في التنقيب عن الهيدروكربونات.
والسفينة قادرة على الحفر حتى عمق 12 ألفا و200 متر، وتضم طاقما مكونا من 200 شخص.
ونجح أسطول السفن التركي للتنقيب عن الثروات في حفر 14 بئرا منذ عام 2018؛ كان من بينها الاكتشافات التي أعلن عنها أردوغان نهاية عام 2020 وكانت الأضخم التي يجرى اكتشافها في تاريخ الجمهورية بمقدار 540 مليار متر مكعب من الغاز
من جانبه أكد المدير العام لمؤسسة البترول التركية "مليح خان بليغن" أن تركيا مستمرة في الحفاظ على حقوقها وحماية مقدراتها في محاولة للوصول إلى الاكتفاء الذاتي من الطاقة في خلال عام 2030 على أقصى تقدير.
وكشف بليغن لـ"الاستقلال" أن تركيا حاليا تستورد معظم حاجاتها من الطاقة؛ ولكن مع وجود سفن الفاتح ويافوز والقانوني وأخيرا عبد الحميد خان ستتخلى تركيا تدريجيا عن استيراد الطاقة التي تصل إلى 55 مليار دولار أميركي سنويا.
المدير العام لمؤسسة البترول التركية مليح خان بلغين لـTRT عربي: تركيا تتجه نحو تحقيق استقلالها في قطاع الطاقة عام 2030 pic.twitter.com/3QoKmPTUmh
— TRT عربي (@TRTArabi) August 9, 2022
غضب يوناني
من جانبها وصفت وسائل الإعلام اليونانية، تحرك سفينة التنقيب عن النفط والغاز التركية "عبد الحميد خان" من سواحل مدينة مرسين جنوبي تركيا، إلى البحر المتوسط، أنها "خطوة خطيرة".
وذكرت صحيفة كاثمريني، في 10 أغسطس 2022 أن سفينة التنقيب التركية الرابعة أبحرت من ميناء "طاش أوجو” وتوقفت في الوقت الحالي في منطقة تقع بين تركيا والسواحل الشمالية لجزيرة قبرص، وينتظر أن تبدأ أعمال البحث بعد أيام.
ونقلت صحيفة صباح التركية (مقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم) في 12 أغسطس 2022 عن وسائل إعلام يونانية أخرى قولها إن "الخطوة التركية الأخيرة أدت إلى استنفار الجيش اليوناني ومراقبة السفينة عن كثب".
وأشارت الصحيفة اليونانية إلى أن "حكومة أثينا مستعدة لجميع الخيارات"، واصفة الخطوة التركية بأنها "خطيرة".
وفي وقت سابق، استضافت قناة "ERT" اليونانية الرسمية، عالم الآثار اليوناني ديميتريس ستاثاكوبولوس، الذي أشار إلى أن "تركيا ستبدأ أعمال التنقيب في البحر المتوسط عاجلا أم أجلا.. وأتمنى ألا نرى صيفا ساخنا".
وفي السياق ذاته، قالت صحيفة Ta Nea اليونانية، إن "تركيا واليونان تدخلان مسار توتر جديد، لذلك فإن الاتفاق الليبي وجهود أنقرة لخلق (فترة ساخنة) هو وضع تدركه اليونان"، حسب الصحيفة اليونانية.
ووقعت تركيا مع ليبيا اتفاقية تحديد مناطق النفوذ الاقتصادي البحري نهاية عام 2019، مع اتفاقية تعاون عسكري، مهدت لتقديم أنقرة الدعم لحكومة الوفاق الوطني (سابقا) الشرعية في طرابلس.
ورافق ذلك بدء أعمال التنقيب، وهي الخطوة التي رافقها رفض يوناني وأوروبي، ولكن الاتفاقية وُثّقت لدى الأمم المتحدة.
وتتهم اليونان تركيا بانتهاك القانون البحري الدولي عبر التنقيب في المنطقة التي تعدها خاصة بها، بينما تؤكد تركيا أن لديها الحق في إجراء عمليات تنقيب عن موارد الطاقة في هذه المنطقة من شرق المتوسط.
كما تتهم تركيا اليونان بمحاولة استبعادها من عوائد اكتشافات النفط والغاز في بحر إيجة وشرق البحر المتوسط، مشددة على ضرورة تقسيم الحدود البحرية للاستغلال التجاري بين البر الرئيس لكلا البلدين، وعدم تضمين الجزر اليونانية على قدم المساواة.
وتصر أثينا على أن موقف تركيا هو انتهاك للقانون الدولي.
لكن الخلاف التركي اليوناني زاد بصورة كبيرة بعد تقدير هيئة المسح الجيولوجي الأميركية في العام 2010 احتمال وجود ما يقرب من 122 تريليون مترا مكعبا من مصادر الغاز غير المكتشفة في حوض شرق المتوسط قبالة سواحل سوريا ولبنان وإسرائيل وغزة وقبرص بالإضافة إلى ما يقارب 107 مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج.
وعلى الرغم من أن هذه الأرقام تبقى في إطار التقديرات ولا تشمل أيضا الأرقام المتعلقة بحوض دلتا النيل، فإنها تتعزز بالاكتشافات العديدة من الغاز التي ظهرت أخيرا في منطقة شرق البحر المتوسط.
وبدأت عمليات الاستكشاف بالازدياد بعد نجاح الكونسورتيوم (التحالف التجاري الذي تقوده شركة نوبل إنرجي الأميركية) في اكتشاف حقل تمار في العام 2009 قبالة سواحل فلسطين المحتلة.
ومع توالي الاكتشافات أصبحت دول المنطقة أكثر اهتماما بتكليف الشركات الأجنبية بإجراء أعمال الاستكشاف.
خريطة وقانون
وفي سبيل تعزيز سيطرة اليونان ومن خلفها الاتحاد الأوروبي على كل تلك الثروات، برزت في الفترة الأخيرة ضمن هذا التوتر القائم بين تركيا واليونان اسم "خريطة إشبيلية".
وترى أنقرة أن اليونان وقبرص (الجنوبية) تستخدمان الخريطة المذكورة لحبس تركيا ضمن شريط ساحلي ضيق في بحر إيجة وشرق المتوسط.
وبحسب الجنرال السابق في البحرية التركية جيم جوردينيز؛ نُشرت خريطة إشبيلية ضمن دراسة أعدها الأستاذ في جامعة إشبيلية الإسبانية خوان لويس سواريز دي فيفيرو برفقة زميله خوان كارلوس رودريغز ماتيوس في العام 2004.
ويضيف جوردينيز لـ"الاستقلال" أن الدراسة حملت عنوان "أوروبا البحرية وتوسيع عضوية الاتحاد: آفاق جيوسياسية"، وتطرقت إلى تبعات الانضمام المحتمل حينها لدول مثل رومانيا وبلغاريا وكرواتيا وتركيا إلى عضوية الاتحاد على الوضع البحري للتكتل الأوروبي.
وتمنح الخريطة التي كانت بطلب من المفوضية الأوروبية، لكل جزيرة من الجزر اليونانية الكثيرة مهما كان صغر حجمها، مثل كاستيلوريزو (ميس) منطقة اقتصادية خالصة بطول 200 عقدة بحرية (370 كلم)، بحسب الجنرال التركي.
في المقابل تُبقي خريطة إشبيلية لتركيا منطقة بحرية محصورة في سواحلها رغم أنها صاحبة أطول شريط ساحلي من بين كل دول حوض المتوسط.وحسب الدراسة فإن حدود المنطقة التي تقول اليونان إنها الجرف القاري التابع لها في بحر إيجة والمتوسط، وكذلك المنطقة الاقتصادية الخالصة التي أعلنتها قبرص عام 2004، تشكلان الحدود الرسمية للاتحاد الأوروبي.
ووفقا للخريطة فإن حدود اليونان (التي هي حدود الاتحاد الأوروبي) وجرفها القاري يبدأ من جزيرة كاستيلوريزو (ميس)، ويمتد جنوبا حتى منتصف البحر المتوسط، بما لا يدع لتركيا متنفسا سوى خليج أنطاليا.
وترفض تركيا الخريطة لأن مساحة جزيرة ميس تبلغ 10 كيلومترات ولا تبعد سوى كيلومترين عن حدودها البرية، فيما تبعد عن بر اليونان الرئيس نحو 580 كيلومترا.
وتمنح اليونان جزيرة كاستيلوريزو بموجب الخريطة جرفا قاريا بمساحة 40 ألف كيلومتر مربع.
وتقول المادة 76 من قانون البحار لعام 1982: "يشمل الجرف القاري لأي دولة ساحلية قاع وباطن أرض المساحات المغمورة التي تمتد إلى ما وراء بحرها الإقليمي (المياه الإقليمية) في جميع أنحاء الامتداد الطبيعي لإقليم تلك الدولة البري حتى الطرف الخارجي للحافة القارية".أو إلى مسافة 200 ميل بحري من خطوط الأساس التي يقاس منها عرض البحر الإقليمي إذا لم يكن الطرف الخارجي للحافة القارية يمتد إلى تلك المسافة.
وإذا كانت الحافة القارية للدولة الساحلية تمتد إلى أبعد من 200 ميل بحري، تحدد المعاهدة مسافة الجرف القاري في هذه الحالة في 350 ميلا (648 كيلومترا).
حصر تركيا
من جانبه يرى الباحث في شؤون الطاقة ياسر هلال أن اليونان تحاول حصر تركيا في شريط ساحلي ضيق لا يتجاوز كيلو مترين في بعض النقاط.
ويضيف هلال لـ"الاستقلال" أن ذلك يرجع لسببين، الأول سيطرة اليونان على جزر بحر إيجة حتى تلك المحاذية للبر التركي، والاستناد إلى هذه السيطرة لترسيم حدودها البحرية مع تركيا وقبرص ومصر وليبيا.
والسبب الثاني بحسب هلال هو الوضع الملتبس لجزيرة قبرص، وترسيم قبرص اليونانية حدودها البحرية من جانب واحد بدون إقامة أي وزن لحقوق تركيا ولا لوضع جمهورية شمال قبرص أو حقوق القبارصة الأتراك.
ومن ثم اتجاهها إلى إيداع الترسيم والاتفاقيات الموقعة لدى الأمم المتحدة لإضفاء البعد القانوني عليها لكن تركيا ردت بترسيم حدودها البحرية من جانب واحد، وإيداعه لدى الأمم المتحدة أيضا.
وكان الرئيس التركي قد اقترح في سبتمبر 2019 عقد مؤتمر دولي لحل النزاع في شرق المتوسط وأيده كذلك ودعا إليه رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال في ذات الشهر من عام 2020 لكن اليونان لم تعلق على أي من المقترحين حتى اللحظة.
ويكشف اقتراح تركيا بعقد هذا المؤتمر عن أنها تريد حل القضية بالطرق الدبلوماسية والسلمية وليس باستخدام القوة العسكرية فقط، بحسب البروفيسور سنجر إيمر، رئيس قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة أفق التركية.
وتابع سنغر قائلا: إن لم يكن ممكنا إقامة علاقات دبلوماسية مع الدول المطلة سواحلها على شرقي المتوسط في الوقت الحالي، فإن دعوة هذه الدول لعقد مؤتمر كهذا سيعمل على تحقيق ذلك، وفق ما نقلت وكالة الأناضول التركية.
المصادر
- إنذار من 72 ساعة.. سفينة عبد الحميد خان تطرد النوم من رؤوس اليونانيين
- الخلاف بين تركيا واليونان يثير التوتر في شرق المتوسط
- خريطة إشبيلية ومخطط عزل تركيا عن بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط
- دراسة أوروبا البحرية وتوسيع عضوية الاتحاد: آفاق جيوسياسية" الاتحاد الأوروبي"
- تركيا والطاقة في شرق المتوسط" مركز سيتا للدراسات"
- تقارب مفعم بالطاقة.. مركز كارنيجي