رغم الرشاوى والدعم.. كيف انتهى حلم القاعدة الروسية بالسودان قبل أن يبدأ؟

12

طباعة

مشاركة

تحلم روسيا منذ عام 2017 بالحصول على قاعدة عسكرية بحرية في مدينة بورتسودان المطلة على البحر الأحمر أحد أكثر الممرات المائية ازدحاما في العالم، ضمن مساعيها لترسيخ وجودها بالمياه الدافئة في الشرق الأوسط.

لكن يبدو أن هذا الحلم لن يتحقق بسهولة، وقد يكون تبدد بالفعل في ظل المشهد السياسي والأمني المعقد حاليا بالسودان، رغم الاستثمارات الاقتصادية والأمنية الكبيرة التي أقدمت عليها روسيا هناك خلال السنوات الأخيرة.

حلم بعيد

وذكرت مجلة فورين بوليسي الأميركية في 15 يوليو/تموز 2022، أنه رغم رشوتها الحكم العسكري في السودان باتفاقيات حول الذهب وتقديم الدعم له بمرتزقة فاغنر، إلا أن هذا الحلم يبدو أنه لن يتحقق لأسباب عدة.

المجلة نقلت عن مسؤولين لم تسمهم بالاستخبارات الأميركية تأكيدهم أن آمال روسيا في إنشاء هذه القاعدة البحرية في بورتسودان، قد تبددت.

أوضحوا أن خلافات داخل المؤسسة العسكرية السودانية أوقفت مسألة القاعدة البحرية الروسية في بورتسودان.

وأشاروا إلى تزايد الضغوط الأميركية في هذا السياق، لا سيما مع تأكيد الرئيس جو بايدن في قمة جدة بالسعودية في 17 يوليو، أن الولايات المتحدة لن تعطي روسيا والصين وإيران الفرصة للسيطرة على الشرق الأوسط.

وأكد المسؤولون الاستخباريون أن "العسكر في السودان مترددون في منح منفذ للروس بالميناء ويتبعون أسلوب المماطلة والتأجيل، ومن غير المحتمل تمرير صفقة بورتسودان في أي وقت أو بالمستقبل القريب".

وبحسب فورين بوليسي فإن هذه "الانتكاسة" ربما تمثل نصرا محدودا للولايات المتحدة في الوقت الذي تسعى فيه إلى الحد من تأثير أكبر منافسيها الجيوسياسيين في إفريقيا، حيث تسعى روسيا والصين إلى توسيع نفوذهما من خلال تعميق التعاون الأمني مع الحكومات هناك.

وبدأ التفاوض حول القاعدة البحرية في عام 2017 بين الرئيس المعزول عمر البشير ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في محاولة للرد على حصار أميركا الاقتصادي للسودان وفرض عقوبات عليها.

لكن المفاوضات توقفت بعد ثورة شعبية أطاحت بالبشير عام 2019، حيث ركز قادة الحكومة الانتقالية على إخراج السودان من عزلته الدولية عبر أميركا وسعي المجلس العسكري لإرضائها بتجميد فكرة القاعدة.

لاحقا حاولت موسكو توريط السودان بإعلانها نص مرسوم صادر عن رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 يزعم أن مشروع الاتفاق تم بحثه مبدئيا مع الجانب السوداني، حسب قناة روسيا اليوم الحكومية.

وبين المرسوم أن الاتفاقية مدتها 25 سنة، وتسمح للبحرية الروسية بالاحتفاظ بما يصل إلى أربع سفن في وقت واحد في القاعدة، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية. 

إلا أنه في 29 أبريل/نيسان 2021 جمدت الخرطوم الاتفاق مع روسيا، بدعوى أن الاتفاق وقعه نظام الرئيس السابق عمر البشير ويحتاج لمراجعة.

وحين عاد الحديث عن حلحلة اتفاق القاعدة البحرية مع روسيا على لسان نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو "حميدتي" خلال زيارته إلى موسكو (23 فبراير/ شباط 2022-2 مارس/ آذار 2022)، تعرقل مرة أخرى.

وأبلغت مصادر سودانية "الاستقلال" أن التجميد الثاني جاء بعد ضغوط الغرب وخلاف بين قادة الحكم العسكري، مشيرة إلى أن الاتفاقية لم يتم المصادقة عليها من قبل المجلس التشريعي السوداني (غير الموجود أصلا بالوقت الحالي). 

أسباب حقيقية

مسؤول دبلوماسي سوداني سابق أبلغ "الاستقلال" أن سبب رفض المجلس العسكري في السودان إعطاء الضوء الأخضر لروسيا لبدء استغلال قاعدة بورتسودان هو ضغوط أميركية على طرفي السلطة: الفريق عبد الفتاح البرهان وحميدتي.

أوضح أن واشنطن وعدت المجلس العسكري الحاكم باستئناف مساعداتها وتخفيف الضغوط عليه، لو توقف عن إبرام اتفاق نهائي مع روسيا بهذا الشأن، وأن خلافات ظهرت بين طرفي الحكم العسكري أدت لتوقف تنفيذ الفكرة.

أشار إلى أن زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركية "مولي فيي" إلى السودان في 10 يونيو/ حزيران 2022 بدعوى محاولة إيجاد حل للخلافات بين العسكريين والتيار المدني جزء من الدعم الأميركي للنظام، وأثيرت خلاله مسألة القاعدة الروسية أيضا.

وعن سبب الخلاف بين البرهان وحميدتي، شرح المسؤول الدبلوماسي أن الأول، كممثل للجيش، يفكر بطريقة سياسية أكثر في معادلة التوازن بين روسيا وأميركا في السودان وأنه مقتنع أن الغرب أفضل للسودان من روسيا.

لكن حميدتي بالمقابل، المنتمي لمليشيات قبلية، يفكر بطريقة تجارية وخصوصا في صفقات ذهب مع روسيا، التي تسعى لاحتكار ذهب السودان الذي تسيطر مليشيات حميدتي على مناطق استخراجه، عبر مرتزقة فاغنر.

ما زاد الأزمة، تحفظ مصر التي تعد وجود قاعدة عسكرية بحرية روسية في البحر الأحمر يضر بأمنها القومي، رغم العلاقات القوية بين مصر وروسيا، لأنه يقرب الصراع بين القوى الدولية في إفريقيا من أراضيها، بحسب المصدر السوداني.

وكان موقف روسيا من انقلاب السودان في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 مختلفا عن باقي دول العالم، إذ رفضت وصفه بـ"الانقلاب" وقدمت دعما مفتوحا للعسكر، ويعتقد أن هذا الموقف له علاقة مباشرة بموضوع القاعدة البحرية.

وقال نائب الممثل الروسي بالأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي للصحفيين عقب الانقلاب بيوم: "من الصعب القول إن كان ذلك انقلابا أم لا، أحيانا يسمى ذلك تغييرا في السلطة، والأمر متروك للشعب السوداني كي يقرر ما إذا كان ذلك انقلابا أم لا".

وبعد زيارة حميدتي الأخيرة إلى روسيا، أعلن أنه بحث مع القادة الروس المضي قدما في اتفاقية لاستضافة قاعدة بحرية روسية، وإحياء اتفاقية 2020 المعلقة التي من شأنها أن تمنح موسكو عقد إيجار لمدة 25 عاما.

وهو ما أثار حينها غضب البرهان الذي كان قد وعد الأميركان بوقف الفكرة، وفق الدبلوماسي السوداني.

ضغوط كبيرة

وكان المسؤولون الأميركيون يراقبون عن كثب صفقة إنشاء القاعدة البحرية بين موسكو والخرطوم، لأنها لو تمت ستمنح روسيا موطئ قدم إستراتيجي في البحر الأحمر، الذي يمر به 30 بالمئة من حاويات العالم سنويا.

صحيفة "وول ستريت جورنال" أكدت في 2 مارس/آذار 2022 أن أميركا خائفة من إنشاء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر لأن هذا سوف "يجدد بصورة أكبر المنافسة بين القوى العظمى على النفوذ والموقع العسكري في إفريقيا وحول العالم".

وقال المسؤول البارز في وزارة الدفاع الأميركية للشؤون الإفريقية تشيدي بلايدن، أمام لجنة بمجلس الشيوخ خلال جلسة استماع في 12 يوليو 2022: "يدرك خصومنا تمام الإدراك الإمكانات الإستراتيجية لإفريقيا".

وأضاف بلايدن: "لذا يكرسون المال والوقت لتعزيز نشاطهم في القارة، وتقدم روسيا والصين مواد تدريبية ودفاعية للدول الإفريقية بانتظام لهذا الغرض".

لذا هدد المتحدث باسم الخارجية الأميركية "نيد بريس" الخرطوم بالقول: "إتمام اتفاقية بحرية أو أي شكل من أشكال التعاون الأمني مع روسيا سيعزل النظام العسكري السوداني ويقوض الاستقرار في القرن الإفريقي ومنطقة البحر الأحمر ككل"، وفق فورين بوليسي.

وفي 21 مارس/ آذار 2022 أصدر القائم بالأعمال الأميركي وسفيرا المملكة المتحدة والنرويج في الخرطوم بيانا غير معتاد شديد اللهجة ينتقد وجود روسيا في السودان.

وأدان سفراء ما يسمى دول الترويكا (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج)، في بيانهم "أنشطة مجموعة فاغنر العسكرية الروسية في السودان"، وعدوها نموذجا محليا للتهديد العالمي الذي تشكله موسكو في القارة الإفريقية.

واتهموا "المقاول الروسي (فاغنر) بالتورط في أنشطة غير مشروعة في السودان مرتبطة بتعدين الذهب، منذ الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021، وانتقدوا تعزيز العلاقات بين موسكو والخرطوم".

تبع هذا في 5 يونيو/ حزيران 2022، تركيز الإعلام الغربي على أن الروس يسعون لإغراء السودان باستخراج الذهب عبر شركات تابعة لمرتزقة فاغنر بما يحسن الوضع الاقتصادي ويحمي النظام المهدد بالسقوط بفعل الغضب الشعبي.

وتأكيد أن فاغنر المعروفة بمساعدتها الأنظمة الديكتاتورية للبقاء في الحكم، تسعى من خلال شبكة مرتزقتها الغامضة لإيهام حكام الخرطوم بحمايتهم من أي ثورة شعبية على غرار ما فعلوا بقمع احتجاجات سوريا ودول إفريقية.

وفي 5 يونيو 2022، استوردت شركة "ميروي للذهب" التابعة لفاغنر، 13 طنا من دروع مكافحة الشغب، فضلا عن الخوذات والهراوات لشركة تسيطر عليها عائلة حميدتي كما تظهر الجمارك ووثائق الشركة، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".

ورصدت الصحيفة الأميركية هذا الوجود لمرتزقة روسيا في منطقة غنية بالذهب، على بعد 320 كيلومترا شمال العاصمة السودانية، تسمى "العبيدية، في أعماق الصحراء، والذي يبدو أنها معلومات استخبارية مسربة لها.

ذكرت أن تلك المنطقة، تضم مصنعا يخضع لحراسة مشددة محاطا بأبراج، يسميه السودانيون "الشركة الروسية"، بينما هو في الحقيقة واجهة للمنظمة شبه العسكرية، فاغنر، وطيدة العلاقة بالكرملين.

ويعالج المصنع أكوام الخام من سبائك الذهب، حيث حصلت "فاغنر" على امتيازات تعدين مربحة تنتج سيلا متدفقا من الذهب بغرض تعزيز مخزون الكرملين من الذهب، البالغ 130 مليار دولار.

ذهب السودان

وأوضحت الصحيفة أن ما يخشاه المسؤولون الأميركيون هو أن يتم استخدام ذهب السودان لتخفيف تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو بعد غزو أوكرانيا.

وحذرت من أن فاغنر تعمل، تحت ستار، في السودان على التمدد والتوسع في شرق وغرب السودان، ففي الشرق تدعم فاغنر مساعي الكرملين لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر لاستضافة سفنها الحربية التي تعمل بالطاقة النووية.

وفي غرب السودان، تعد فاغنر هذه المنطقة مصدرا محتملا لليورانيوم، ومنصة لمرتزقتها للانطلاق في عمليات عسكرية في البلدان المجاورة أيضا.

وأكد مسؤولان غربيان كبيران للصحيفة أن فاغنر هي التي نظمت زيارة حميدتي الأخيرة إلى موسكو في 23 فبراير 2022، وأنه وصل مع سبائك الذهب على طائرته. 

وبعد عودته إلى السودان أعلن أنه "ليس لديه مشكلة" في افتتاح روسيا لقاعدة على البحر الأحمر.

ويعد السودان ثالث دولة في إفريقيا بعد غانا وجنوب إفريقيا في إنتاج الذهب، حيث ينتج سنويا (93 – 100) طن سنويا، لكن جزءا منها يجري تهريبه للخارج عبر مجموعات متخصصة ولا يدخل سوى 30 – 40 طنا إلى خزينة الدولة.

وأعلنت وزارة المعادن في السودان رسميا أنها صدرت 26.4 طنا من الذهب في الأشهر التسعة الأولى من عام 2021 و25.2 طنا في 2020، بينما تم تهريب أربعة أمثال هذه الكميات للخارج، بحسب وكالة رويترز في 24 يناير/كانون الثاني 2022.

وسبق لموقع المونيتور الأميركي أن عد في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2021 أن "انقلاب السودان نعمة لموسكو"، مؤكدا أنه من الطبيعي أن تكون روسيا سعيدة تماما بعودة العسكر للانفراد بالسلطة في الخرطوم لأنهم الأقرب لإبرام اتفاق قاعدة بحرية.

برر هذا بأن روسيا تفضل وجود نظام حكم عسكري في السودان أكثر انفتاحا على تطوير العلاقات أكثر مع موسكو مما أظهرته حكومة "حمدوك" المدنية، التي كانت أقرب لواشنطن والغرب، بحسب وجهة نظر موسكو.

وتسببت الشروط الجديدة التي وضعتها الحكومة المدنية، التي انقلب عليها البرهان في إطالة أمد المفاوضات وبدأ السؤال بشأن ما إذا كانت القاعدة الروسية قد ترى النور يوما من الأساس، وهو ما سبب إحباطا لموسكو بالطبع.

ورأت موسكو هذا التغيير في الموقف السوداني، وتحديدا موقف السلطة المدنية، نابعا، ضمن أسباب أخرى، من رفض واشنطن لوجود منشآت عسكرية روسية في السودان، بحسب تقرير المونيتور.

ولخص مدير الأبحاث في مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية جوزيف سيغل لفورين بوليسي، الخلافات القائمة بين العسكر حول القاعدة البحرية الروسية بقوله، إن ما يحاول أطراف الجيش السوداني فعله هو اللعب مع جميع الأطراف.

وأضاف: "فهم يحاولون مغازلة الروس (عبر حميدتي)، ولكن في الوقت نفسه يدرك الجيش السوداني أن الروس لن يجلبوا الكثير من الدعم الاقتصادي للسودان، وأن أي أموال، وأي رأس مال استثماري، ستأتي من المانحين الغربيين".

من جانبه استبعد المصدر الدبلوماسي السوداني الذي تحدث لـ"الاستقلال"، أن تتخلى روسيا عن حلمها في قاعدة بورتسودان وأن تسعى للضغط مستغله علاقاتها مع حميدتي عبر فاغنر واستخراجهما المشترك للذهب الذي يشكل مصالح مشتركة.