تآكل "قوة الردع الإسرائيلية" في الشرق الأوسط.. ما أسبابه وآثاره؟
أكد السياسي الإسرائيلي مايكل أورين "تزايد القوى المعادية بشكل كبير" لتل أبيب على مدار التاريخ خاصة مع تراجع قوة الردع الخاصة بها.
ونقل معهد التفكير الإستراتيجي التركي تصريحات (لم يحدد تاريخها) لأورين عضو الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) قال فيها: "يطلقون آلاف الصواريخ داخل حدودنا (من قطاع غزة) ويعرضون حياة الإسرائيليين للخطر وهم يعلمون موقف الرأي العام العالمي".
أما إيران، فتهاجمنا بأذرعها في المنطقة اعتقادا منها بعدم قدرة إسرائيل على الرد للانتقام، كما قال متسائلا: كيف يمكن للدولة أن تؤسس قوة ردعها؟
وأجاب أن "الطريقة الوحيدة لذلك هي العودة إلى الوقت التي لم تكن فيه العمليات العسكرية الإسرائيلية متوقعة (العقود الأولى لقيامها)، بالطبع".
وواصل: "أصبحت تحركات إسرائيل متنبأ بها، ما سمح لأعدائنا بمهاجمتنا وحساب رد فعلنا بدقة".
ورأى أنه "من الضروري كسر هذا القالب واستبداله بسياسة تغرس الخوف وعدم اليقين في قلوب جميع الأعداء"، وفق تعبيره.
وفي تحليله لتصريحان أورين، قال معهد التفكير الإستراتيجي التركي في مقال بحثي للكاتب إلياس سوبورغيجي: "القضية الرئيسة هنا تتمثل في فشل السياسات السياسية والأمنية القائمة على أسس غير شرعية وغير قانونية".
وبين أن تلك السياسات "أعدت لتحقيق حلم الصهيونية في فلسطين رغم مرور حوالي 100 عام على بدء تطبيقها، وعدم وجود حتى بارقة أمل صغيرة في تحققها، الأمر الذي يدفع بالصهاينة إلى البحث عن إستراتيجيات مختلفة".
وتابع موضحا: فهم لم يتمكنوا من إخماد النيران التي أشعلوها بأنفسهم حتى في الوقت الذي كان فيه الجيش الصهيوني هو الأقوى في العالم وكانت اليهودية التي تسيطر على الولايات المتحدة، في أوج قوتها.
لذلك، نجد الصهاينة في سعي دائم لوضع إستراتيجيات جديدة، خاصة مع فشل مشروع الشرق الأوسط الكبير والتغير في موازين القوى العالمي، وفق قوله.
ونوه: غير أنهم لا يتخلون عن موقفهم وأيديولوجيتهم أيضا مهما كان. فمثلا لا يسمحون لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون كلاجئين في الدول العربية المجاورة، بالعودة إلى أراضيهم.
فالصهاينة لا يرغبون في سلام يكون عادلا، بل هم يريدون أن يستسلم الشعب الفلسطيني الذي يقاوم منذ حوالي قرن، دفاعا عن حقوقه وأرضه.
ولتحقيق ذلك، يسعون جاهدين لعزل الشعب الفلسطيني عن العالم الخارجي تماما، وقطع المساعدات عنهم، وجرهم إلى حرب أهلية عن طريق تفريق شوكتهم، بحسب الكاتب.
وأضاف: "في هذا، يتبع الصهاينة سياسة أمنية عدوانية توسعية ضد دول المنطقة التي تدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني".
وتساءل: ما هي العوامل التي يمكن أن تجبر إسرائيل على أن تكون متنبأ بها من حيث قوتها الرادعة؟
العامل الأول
ويكمن في طيات الأسئلة التالية: كيف يمكن التوفيق بين خطط الحرب التي تستهدف المدنيين الأبرياء وتسبب دمارا كبيرا بالتذرع بالردع والترهيب والعقاب مع كل من الضمير والقانون؟ ما مدى شرعية هيكل سياسي ينخرط في جرائم الحرب باستمرار؟
دولة لا أحد يعلم متى وأين وماذا ستفعل تنشر الخوف والرعب حولها باستمرار، ألن تقدم عن نفسها صورة "دولة همجية" (كما حدث في سفينة مافي مرمرة التركية التي توجهت إلى غزة وواجهت عنفا إسرائيليا أدى إلى مقتل عدد من أفرادها)؟
وأردف: "الإجابة على مثل هذه الأسئلة المهمة أعلاه في إطار القيم الإنسانية والقانون، ترسم لوحة تقلق وتهدد الشعب الإسرائيلي ومستقبله باستمرار".
لذلك، فإن المشكلة الحقيقية هي الشرعية. وإلى جانب المشاكل الداخلية الأخرى، أصبح هذا الأمر بذاته مسألة بقاء.
غير أن الصهاينة حاولوا فرض "صفقة القرن" المزعومة على دول المنطقة بدلا من اتخاذ خطوات لتحقيق سلام عادل.
وسجل التاريخ هذه الصفقة كخطة تتجاهل الشعب الفلسطيني وحقوقه الطبيعية، وتحاول إضفاء الشرعية على الاحتلال الغاصب والمضطهد.
وضمن الخطة المذكورة، اتخذت إسرائيل خطوات للتطبيع مع دول الخليج وبعض الدول العربية باسم "اتفاقيات أبراهام" بوعود فارغة.
والهدف منها عزل الشعب الفلسطيني قلبا وقالبا وكسر إرادة المقاومة وعزمها، بحسب ما يراه الكاتب التركي.
العامل الثاني
ويتمثل في تغير موازين القوى الإقليمية والعالمية.
وشرح سوبورغيجي ذلك بالقول: يبدو أن الاضطرابات العالمية، خاصة تلك التي حدثت داخل الولايات المتحدة، أجبرت إسرائيل على أن تكون متنبأ بتحركاتها لبعض الوقت.
ورأت إسرائيل، وللمرة الأولى في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، أن الإدارات الأميركية التي لطالما حمت الصهاينة باستخدام الفيتو، تراجعت عن موقفها وأن دعم واشنطن لم يعد مضمونا كما في السابق.
وأضاف: أصبح الانقسام بين الصهاينة في إسرائيل والشتات اليهودي الأميركي من حيث الخطط المستقبلية وتضارب المصالح والمقاربات الأيديولوجية، واضحا أكثر من أي وقت مضى.
وهو ما أجبر تل أبيب على أن تكون أكثر حذرا ويمكن التنبؤ بتحركاتها.
وفي هذا يقيم الصهاينة الأزمات وكذلك الفرص التي قد تخلقها التطورات في المنطقة وحول العالم، ويحاولون تنفيذ خطوات من شأنها أن تحول تدفق الأحداث لصالحهم.
ولفت قائلا: في هذا، تبرز خطواتهم ضد تركيا وإيران بشكل خاص. فقد عرض الصهاينة على دول المنطقة، التعاون في القوتين العسكرية والناعمة (الابتكار والتكنولوجيا العالية والمياه والطاقة والاستثمار والسياحة والتجارة والأمن وأنشطة الضغط).
والهدف من هذا التعاون هو الدفاع المشترك ضد "تهديدات وضغوط" الدولتين غير العربيتين القويتين في المنطقة (تركيا وإيران)، وفق الكاتب.
وفي الواقع يرغب الصهاينة في اكتساب الشرعية مستغلين مخاوف دول الخليج من التوسع الشيعي لإيران التي تملك برنامجا نوويا.
وهم بهذه الطريقة يحاولون إقامة نظام إقليمي جديد يتماشى ومصالحهم الخاصة. وهم إلى جانب كل هذا، يواصلون جهودهم لتحسين علاقاتهم السياسية والاقتصادية مع القوى العظمى خارج المنطقة، بحسب الكاتب.
العامل الثالث
تغير ظروف المعارك وطبيعة التهديدات وعدم استعداد الجيش الإسرائيلي لذلك بشكل كاف.
ويعتبر سوبورغيجي أن هذا بدا واضحا في حرب لبنان الثانية.
فلما كان الجيش الإسرائيلي قد انسحب بالكامل من جنوب لبنان أواخر مايو/أيار 2000، حاول دخولها مرة أخرى في يوليو/تموز 2006، ليقع في كمين نصبه مسلحو حزب الله في لبنان ويقتل بعض أفراده، وتجد إسرائيل نفسها في مواجهة معركة غير متوقعة استمرت شهرا.
وتابع قائلا: حينها أدرك الصهاينة أنهم يحتاجون لبناء قوة عسكرية تعتمد على مقاربات جديدة.
وفي هذا، من اللافت ما ذهبت إليه إسرائيل من تركيز على اكتساب قوة أكبر وقدرة مناورة أرضية متعددة الأبعاد، بدلا من معاقبة الناس من خلال إحداث دمار كبير والاعتماد فقط على القوة الهجومية الجوية التي تمتلكها.
ويمكن القول إن أولى هدفي هذه المساعي كانت خلق وضع غير متوقع ولا متنبأ به بشكل يفاجئ الطرف الآخر مما سيزيد خياراته العملياتية.
أما ثانيها، فتحقيق الأهداف المتوقعة من العملية بأقل تكلفة وفي أقصر وقت ممكن.
وبعبارة أخرى، تحقيق التفوق النوعي لينعكس بشكل كامل على المعركة بجميع أبعادها، خاصة وأن تحقيق الأهداف على المدى الطويل، يتطلب قدرا كبيرا من الموارد، يؤكد الكاتب التركي.
ويضيف: "هنا تبرز ضرورة الحفاظ على الأنشطة الأمنية والعملياتية الروتينية، كأحد العوامل التي تعقد هذا التحول".
لذلك، ولتغطية الاحتياجات الأمنية وكسب الوقت، جرى تفعيل مبدأ "النزاعات بين الحروب"، والذي يتوخى تحديد التهديد وتدميره بسلسلة من العمليات التي تشارك فيها القوات الجوية والمخابرات، قبل أن يتفاقم ويؤدي إلى حرب.
تقييمات وخلاصة
ويرى سوبورغيجي أن الدول التي تقوم على أسس شرعية وقانونية، تكتسب قوتها ومكانتها من شرعيتها في العالم المتحضر.
أما الأيديولوجيات التي تفتقر إلى هذه الأرضية، فهي في الواقع ضعيفة جدا ولا تملك مكانا في العالم المتحضر، بغض النظر عن مدى قوتها.
وحيثما توجد مثل هذه الهياكل والبنى السياسية، فإنها تصبح بؤرة للمشاكل وتهديدا لكل من شعبها والإنسانية جمعاء.
وقال: على الناحية الأخرى، يعد إمكانية التنبؤ بالعلاقات الدولية والسياسة الخارجية أمرا إيجابيا بشكل عام.
وينبغي على الدول الشرعية والمتحضرة أن ترغب بصدق في أن تكون تحركاتها قابلة للتنبؤ بها، وهي ميزة مهمة لتحقيق التعاون، ولا يمكن اعتبارها نقطة ضعف.
بل الضعف الحقيقي أن يكون للدولة صورة همجية لا يمكن التنبؤ بها وتنشر الخوف والرعب من حولها.
واستطرد: في هذا، من الملاحظ أن القوة العسكرية البحتة والعنف هما ما كانت إسرائيل تستخدمهما منذ عقود لتحقيق أهدافها.
أما مستوى العنف والقوة العسكرية التي تستخدمها فيلاحظ أنها تختلف بحسب العوامل الداخلية والخارجية ووفق الظروف.
وشدد الكاتب على أن "القضية الفلسطينية من أبرز القضايا التي تهدد السلام الإقليمي والعالمي، وتجاهل ذلك أمر يشكل خطرا على مستقبل البشرية".
إذ إن إضفاء الشرعية على القسوة واللا إنسانية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ عقود، هو تجاهل للقيم الإنسانية المشتركة وتشجيع للأيديولوجيات الخطرة على البشرية.
وقال الكاتب: "من الواضح أنه لا يوجد سلام صادق وعادل على أجندة الصهيونية".
وبما أن هناك شريحة معتبرة من الشعب الإسرائيلي تدرك ذلك، فهي تشعر بالقلق من عدم تمكنها رؤية حتى بارقة أمل صغيرة في تحقق السلام.
لكن، هل سيكون من الممكن تحقيق سلام عادل دون جهود صادقة وشجاعة من قبل اليهود المدركين لحقيقة الأمر؟ هذا هو السؤال.