"غزو ناعم".. هذه ملامح المرحلة الثانية من التغلغل الإيراني في حلب
بشكل فعلي، بدأت إيران الانتقال للمرحلة الثانية من التأسيس للتغلغل الاجتماعي والثقافي في محافظة حلب عاصمة الاقتصاد السوري، بعد افتتاح قنصلية لها بالمدينة في 22 مايو/أيار 2021.
وبدا لافتا توجه طهران نحو ابتلاع المجتمع الحلبي وإعادة ربط جميع نشاطاته بمختلف المستويات المدنية تبعا للمد الأيديولوجي الإيراني طويل الأمد.
تقارب اجتماعي
هذا "الابتلاع"، تجلى خلال الأسابيع الماضية، في تكثيف قائد فيلق "المدافعين عن حلب"، الحاج صابر رامين، اللقاءات والزيارات للفعاليات الاجتماعية بـ"هدف خبيث" عنوانه، النهوض بالواقع الثقافي والتربوي والاجتماعي وحتى الإعلامي في حلب.
اللافت أن رامين إلى جانب القنصل العام "الحاج سلمان" كانا يسيران في مشروع التقارب أكثر مع جميع فعاليات حلب، لدرجة أن قنصلية طهران نظمت في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 على مسرح نقابة الفنانين في حلب وبحضور عدد من مثقفي وفناني المدينة، حفل تكريم للمخرج حسام حمود وفريق العمل للفيلم القصير "أبناء المستحيل".
وحصل الفيلم السوري المذكور على جائزة أفضل فيلم في مهرجان "الأمل" السينمائي الذي استضافته العاصمة السويدية ستوكهولم.
والفيلم ينتمي إلى نوعية الأعمال الروائية القصيرة، ويسلط الضوء على تجربة واقعية حدثت مع شاب مصاب بمتلازمة داون، وفتاة مصابة بالتوحد ضمن دعوة المجتمع لتغيير نظرته السلبية نحو ذوي الاحتياجات الخاصة وتقديم الرعاية لهم وعدم الشعور بالخجل منهم.
وتأسس فيلق "المدافعين عن حلب"، في فبراير/شباط 2017، من مليشيات محلية كانت تقاتل إلى جانب إيران وبدعم منها في الريف الجنوبي، ويعد أول خطوة أقامتها طهران في المدينة عقب إحكام قوات النظام السوري بدعم بري إيراني وجوي روسي السيطرة على جزئها الشرقي نهاية عام 2016.
ومنذ عام 2014، كانت عين إيران مسمرة نحو حلب، خاصة مع زج فصائل شيعية قادمة من العراق وأفغانستان وباكستان قبل إطلاق حملة عسكرية تحت اسم "دبيب النمل" انتهت بالسيطرة عليها وتهجير مئات الآلاف من السكان من تلك الأحياء نحو مناطق المعارضة بالشمال السوري.
وتنتشر حاليا مليشيات شيعية أجنبية ومحلية تابعة لإيران، خاصة في الأحياء الشرقية من حلب التي هجر منها السكان، إضافة لسيطرة طهران على مواقع إستراتيجية كبيرة في المحافظة.
وعلى رأس هذه المواقع، مطار حلب الدولي ومطار النيرب العسكري، وجعلت من منطقة "مخيم النيرب" نقطة لتجمع مليشياتها السورية، فيما توجد بعض النقاط العسكرية للقوات الروسية.
سياسة ناعمة
نجحت إيران في فتح أبواب قنصليتها الجديدة التي تولت تنفيذ سياساتها الناعمة، كـ"دار ضيافة" لكل شخصيات حلب الاجتماعية والثقافية والعشائرية، فمن أراد أن يخطب ود طهران فباب القنصلية مفتوح أمامه.
وباشرت القنصلية منذ افتتاحها في التركيز على الشق المدني المتصل بالوجود الإيراني الكبير والخطير في سوريا، عبر رعاية مختلف النشاطات الدينية والتعليمية والثقافية والاقتصادية في حلب.
ومطلع ديسمبر/كانون الأول 2021، أكد مركز "جسور للدراسات" (مقره إسطنبول)، وجود أكثر من 111 مركزا غير عسكري للنفوذ الإيراني في سوريا، والذي تعتقد طهران أنه يحظى بفرص الاستدامة والتقبل الإقليمي والدولي أكثر من الوجود العسكري المباشر.
وهذه المراكز هي عبارة عن مؤسسات اقتصادية وحوزات ومراقد وحسينيات ينطلق منها التشيع في المحافظات السورية، إلى جانب المؤسسات التعليمية والثقافية الداعمة للمد الأيديولوجي الإيراني.
إضافة إلى مراكز النشاط الإغاثي التي بدورها تخدم المشروع الإيراني برعاية القائمين عليه وأسرهم، وإغراء عناصر مجتمعية أخرى بالتفاعل الإيجابي مع المشروع الإيراني من خلال استغلال الظروف المعيشية الصعبة التي تعيشها المجتمعات السورية.
وفي هذا الإطار، أكد المحلل المختص في الشأن الإيراني، معن الشريف، أن "طهران تعمل على محاولة تغيير عبر الاستثمار الطويل في حلب من أجل ترسيخ وجودها، وهذا ما يجعلها تركز على عاصمة الاقتصاد السوري، في ظل غياب الاهتمام الروسي بالمدينة، وبنفس الوقت قطع الطريق على تركيا".
وأوضح الشريف لـ"الاستقلال"، أن "التغلغل الاجتماعي الإيراني يبدأ من المجتمعات الهشة والفقيرة، وهذا ما يجري في حلب من خلال تبني طهران لدعم النشاطات المجتمعية والسيطرة على البنية الذهنية الناشئة للشباب هناك".
وأشار إلى أن "إيران تلعب على وتر عدم وجود مقاومة لمنع تحكمها بالمجتمع السوري ثقافيا واجتماعيا وصولا إلى تشييع ثقافي وقد يكون غير مذهبي في البداية".
وأردف الشريف قائلا:" إيران تريد تحقيق الانتماء المجتمعي لها، وخلق جيل جديد يكون مواليا لها على الأقل ثقافيا، وهذا ضمن الهدف الديني وهو الأهم لطهران، وكل ما عدا ذلك هو مكمل؛ سواء من الناحية الاقتصادية أو العسكرية".
غياب المنافسين
وتنظر إيران إلى حلب على أنها مركز وصل تصلها بمدينة اللاذقية الساحلية على البحر المتوسط التي بدأت طهران بتثبيت قدمها هناك كنقطة اقتصادية متقدمة، لا سيما في حال اكتمال مد سكة حديد من منفذ" شلمجه" الحدودي إلى مدينة البصرة في العراق وصولا إلى ميناء اللاذقية، أهم مرفأ تجاري في سوريا.
وتواترت المعلومات الصحفية حول نقل النظام السوري إدارة مرفأ اللاذقية إلى إيران، وذلك بعد الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس النظام بشار الأسد إلى طهران نهاية مايو/أيار 2019.
ومما يدل على مركزية حلب في المخطط الإيراني، هو سرعة طهران عقب السيطرة عليها في عمليات التبشير الثقافي الشيعي وبناء الحسينيات وتحويل عدد من المساجد لعقد الندوات الدينية والاهتمام بالأطفال وعمليات تجنيد الشباب في صفوف المليشيات المحلية، وفق متابعين لـ"الاستقلال".
وأكد الباحث الاجتماعي السوري حسام عبد الغني، أن "إيران تسير في طريق الغزو الناعم لحلب عبر مد اليد البيضاء إلى النسيج الاجتماعي هناك، نظرا لغياب المنافسين لها بشكل شبه كامل في مدينة حلب".
وأضاف عبد الغني لـ"الاستقلال": "لذا تمهد طهران إلى ترميم العلاقة بينها وبين المجتمع عبر الدخول من ثغرات ثقافية من دعم لأنشطة مادي وإقامة ندوات وتبني حفلات للطلاب وتقديم مساعدات مالية للعوائل المحتاجة ورعاية الأيتام مما يعني أن خطة المشروع الطائفي تسير على قدم وساق بتواطؤ مباشر من الأسد".
واعتبر الباحث أن "عملية القضم الثقافي الحاصلة في حلب حاليا باتت إيران تحصد نتائجه بشكل مباشر من التفاف فعاليات حزبية وثقافية حولها، وذلك من خلال اللعب على وتر غياب الاهتمام الاقتصادي الحكومي شبه كامل عن المدينة بما يمكن طهران من أن تقدم نفسها كبديل واقعي".
وذهب عبد الغني للقول إن "عملية محو الهوية السورية في بعض أحياء حلب تكاد تكون وصلت إلى نقاط متقدمة، وخاصة في أحياء المشهد والإذاعة وبعض الأحياء الشرقية التي أصبحت الطقوس الشيعة فيها روتينية".
ولفت الباحث إلى أن "إيران استفادت من حالة العوز الاقتصادي لدى الأهالي، وظهرت بمظهر صاحب النفوذ فتوسعت في شراء العقارات عبر قادة مليشياتها في حلب، وهذا ما يجعل حالة الجذب والميل إليها على الأقل من الكفاءات والاقتصاديين والتجار أكثر".
واستدرك عبد الغني قائلا: "بالنهاية إيران تريد خلق بيئة اجتماعية حاضنة لها بحلب التي فتحت فيها قنصلية وأسست مليشيات محلية، ولم يبق سوى العمل على تثبيت الغزو الثقافي، وهذا طويل وبطيء ويحتاج لوقت بخلاف التكوين والهيمنة العسكرية".
ووفق تقديرات أهلية، فإن إيران تمكنت في حلب من افتتاح أكثر من 30 حسينية ونحو 10 مراكز ثقافية، بدعم مالي مباشر من مليشيا "الحرس الثوري"، فيما بلغت عناصر المليشيات المحلية والأجنبية التابعة لإيران نحو 40 ألفا.
وتعول إيران على جذب السياح الإيرانيين إلى "مسجد النقطة" الواقع في حي الإذاعة الذي تحول حاليا لبقعة إيرانية خالصة على غرار حي السيدة زينب في دمشق، إذ يوجد فيه صخرة تزعم الرواية الشيعية أن "نقطة" من دم الحسين بن علي سقطت عليها.
وحول هذه الجزئية نوه الباحث حسام عبد الغني إلى أن "إيران تريد تهيئة المجتمع الحلبي لتقبل السياحة الدينية التي توليها طهران أهمية كبيرة، وعقدت اتفاقيات مع نظام الأسد في هذا الشأن".
واستطرد: "المسؤولون الإيرانيون تحدثوا في أكثر من موقف للعمل مع النظام السوري على حل مشكلة الحوالات المالية ودراسة إمكانية التبادل بالعملات المحلية والتشجيع على السياحة الطبية والبيئية والترفيهية وزيادة عدد الرحلات الجوية بين البلدين".
وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، اتفقت إيران مع النظام السوري على استئناف السياحة الدينية، على أن ترسل طهران في المرحلة الأولى من الاتفاق 100 ألف إيراني إلى سوريا لزيارة المواقع الدينية.