أزمة مالية تخنق الموازنة الفلسطينية.. الأسباب والتداعيات والحلول

طارق الشال | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

يواجه الاقتصاد الفلسطيني أزمات متتالية منذ سنوات في ظل اقتطاع الاحتلال جزءا من أموال الضرائب الفلسطينية وتحكمه في دخول المواد الأولية المستخدمة في الصناعة المحلية.

وقال رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إن السلطة الفلسطينية تواجه وضعا ماليا هو الأصعب منذ سنوات في ظل تراجع الدعم المالي الدولي والعربي.

وأضاف اشتية: "ما وصل من مساعدات حتى نهاية العام لم يتجاوز 10 بالمئة مما كان يصل عادة إلى الخزينة وهذا الأمر سينعكس على المصاريف التشغيلية للسلطة".

وتوقع البنك الدولي بعد حساب الدفعة المقدمة من إيرادات المقاصة التي قدمتها الحكومة الإسرائيلية للسلطة الفلسطينية، والتمويل المقدم من المانحين، أن يصل عجز موازنة السلطة إلى 1.36 مليار دولار في 2021.

وأوضح رئيس الوزراء، "رغم أن الولايات المتحدة استأنفت بعض مساعدتها للأونروا (وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) إلا أن قوانين الكونغرس تمنع الإدارة الأميركية من مساعدة السلطة بشكل مباشر".

وتابع: "خلال الأسبوع القادم (نوفمبر/تشرين الثاني) سنشارك في اجتماع الدول المانحة، في أوسلو، وسوف نطلب من الدول الصديقة لفلسطين الضغط على إسرائيل لوقف خصوماتها من أموال الضرائب الفلسطينية، وكذلك زيادة هذه الدول مساعداتها لكي نتمكن من الإيفاء بالتزاماتنا".

وتخصم إسرائيل من أموال الضرائب التي تجبيها نيابة عن السلطة الفلسطينية مقابل عمولة ثلاثة بالمئة عن البضائع التي تمر عبرها إلى السوق الفلسطيني.

وتقول تل أبيب إن السلطة الفلسطينية تدفع تلك الأموال إلى الأسرى الفلسطينيين في سجونها وإلى عائلات شهداء سقطوا خلال المواجهات أو تنفيذ عمليات ضد إسرائيل.

بينما جاء تقرير البنك الدولي، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، مغايرا نسبيا لما تناوله رئيس الوزراء الفلسطيني، حيث ذكر أن الاقتصاد بدأ يظهر بعض "علامات التعافي"، بسبب التحسن في النشاط الاقتصادي في الضفة الغربية".

وأشار التقرير إلى أن قطاع غزة ما زال يعاني أوضاعا اقتصادية بالغة الشدة، مع الارتفاع الكبير في معدلات البطالة وتدهور الأحوال الاجتماعية.

توقف المنح

أحد أهم أسباب الأزمة المالية التي تعيشها فلسطين هو تراجع حجم الأموال المقدمة من قبل المانحين والداعمين الدوليين لتمويل إيرادات الموازنة للدولة، والتي توقعت الحكومة الفلسطينية أن تبلغ نحو 683 مليون دولار أي 12.2 بالمئة من قيمة موازنة عام 2021.

وتبلغ قيمة إجمالي الإيرادات المتوقعة في موازنة 2021 نحو 3.9 مليار دولار، بينما يبلغ إجمالي النفقات نحو 5.6 مليار دولار، وبعجز قدره 1.7 مليار دولار قبل المساعدات الخارجية و1.57 مليار دولار بعد المساعدات.

وشهدت المساعدات الدولية للفلسطينيين تراجعا حادا في السنوات الأخيرة، لتصل إلى 400 مليون دولار في 2020، انخفاضا بمعدل سنوي بمقدار 1.1 مليار دولار قبل عام 2013.

وبحسب الباحث الاقتصادي، محمد خبيصة، فإن هناك عمقا في الأزمة المالية التي تشهدها فلسطين والتي تعود بشكل رئيس لتوقف المنح والمساعدات المالية والخارجية.

 فالدعم الأميركي للسلطة الفلسطينية متوقف منذ عام 2017 وكان يبلغ في المتوسط سنويا ما بين 150 إلى 300 مليون دولار والذي يخصص للموازنة.

وأضاف خبيصة لـ"الاستقلال"، أن الدعم العربي متوقف أيضا منذ يونيو/حزيران 2020 والذي يبلغ في المتوسط ما بين 250 إلى 280 مليون دولار سنويا بينهم 240 مليون دولار من السعودية فقط، كذلك هناك توقف شبه كامل للمنح المالية الأوروبية في 2021.

وترى أوساط رسمية فلسطينية، أن الضغوطات المالية التي تظهر على شكل تراجع في المنح الخارجية، تعتبر إحدى أدوات الضغط للقبول بـ"صفقة القرن" الأميركية المزعومة لحل القضية الفلسطينية، وقبول علاقات التطبيع العربية مع إسرائيل.

وأشار إلى أن هذا كله أدى إلى تراجع السيولة النقدية لدى السلطة الفلسطينية.

"فاليوم السلطة الفلسطينية مصدر دخلها شبه الوحيد قائم على الضرائب من جيب المواطن من ضريبة الدخل والقيمة المضافة والجمارك"، وفق قوله.

واحتلت الضرائب في موازنة 2020 الصدارة في إيرادات الدولة بنحو 3.23 مليار دولار وبنسبة بلغت 80.2 بالمئة من إجمالي الإيرادات البالغة 4 مليارات و39 مليون دولار، بينما جاءت المنح في المرتبة الثانية بنحو 510.4 مليون دولار.

وجاء المصدر الأكبر للمكون الضريبي بموازنة 2020 في الضرائب على السلع والخدمات بنحو 1.70 مليار دولار، تلاه الضرائب على التجارة والمعاملات الدولية بنحو 1.31 مليار دولار، وفق بيانات الموازنة لعام 2020 المنشورة على موقع وزارة المالية.

ثم الضرائب على الدخل والأرباح والمكاسب الرأسمالية بنحو 152.9 مليون دولار، وأخيرا الضرائب على مجموع الرواتب والأجور والقوة العاملة بنحو 66.2 مليون دولار.

وأوضح الباحث الاقتصادي، أن منع السلطات الإسرائيلية الفلسطينيين من استغلال مواردهم تتسبب في الأزمة الحاصلة أيضا.

 فهناك حقل غزة والذي يعد مرنا وهو غير مستغل، بالإضافة إلى وجود مناطق مصنفة (ج) وهي أراض خصبة مليئة بالمياه الجوفية يمنع على الفلسطينيين استغلالها.

ويحتوي حقل غزة الذي سمي "غزة مارين" منذ نحو 20 عاما، على كميات كبيرة من الغاز الطبيعي تقدر بنحو 33 مليار متر مكعب، والتي تكفي لسد احتياجات الضفة الغربية والقطاع لأكثر من 25 عاما، إضافة لإمكانية تصدير كميات منه.

وينظر إلى حقل الغاز منذ فترة طويلة على أنه فرصة ذهبية أمام السلطة الفلسطينية التي تعاني شحا في السيولة المالية للانضمام إلى المستفيدين من طفرة الغاز في البحر المتوسط، وهو ما يوفر لها مصدرا رئيسا للدخل لتقليص اعتمادها على المساعدات الأجنبية.

من جهته، قال نصر عبد الكريم أستاذ العلوم المالية والاقتصادية في كلية الدراسات العليا بالجامعة العربية الأميركية برام الله، إن المجتمع الفلسطيني يعاني من أزمات اقتصادية مركبة وبنيوية في معظمها كونه يخضع لهيمنة الاحتلال وما يفرض عليه من قيود في التجارة واستغلاله لموارده الطبيعية.

وأشار عبد الكريم لـ"الاستقلال"، إلى أن تلك المعطيات تجعل الأزمة الاقتصادية تخف أحيانا وتشتد حدتها أحيانا أخرى تبعا للعلاقة مع الكيان الصهيوني وتبعا لعلاقة السلطة الفلسطينية مع المجتمع الدولي، فعندما تنقطع المساعدات الدولية تدخل فلسطين في أزمة مالية.

إضافة إلى أن أوروبا توقفت نهائيا هذا العام عن تقديم المساعدات لأسباب ادعت أنها فنية وقانونية وإدارية وبالتالي لم يصل السلطة إلا 60 مليون دولار.

وهو الأمر الذي صاحبه خصم الكيان الصهيوني 250 مليون شيكل (80.8 مليون دولار) شهريا من أموال المقاصة العائدة لفلسطين مقابل خدمات تقدمها.

من بين تلك الأموال 150 مليون شيكل (48.5 مليون دولار) تخصم مقابل خدمات يقدمها الكيان من كهرباء ومياه والنفايات، فضلا عن 100 مليون شيكل (32.3 مليون دولار) الذي بدأ بخصمه أخيرا مقابل مخصصات الأسرى والشهداء، وفق تعبير عبدالكريم.

صعوبات اجتماعية

وتأتي تلك الأزمة في وقت يقف العالم على أعتاب تضخم عالمي سيلمسه الجميع، بالإضافة إلى أن الواقع الاقتصادي يفرض مزيدا من التقشف لمواجهة العجز المالي الذي تشهده البلاد، وسط تزايد معدلات البطالة والفقر ما يعني مزيدا من الصعوبات الاجتماعية.

ويرى خبيصة، أن أحدث تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعيشها فلسطين هو أن السلطة تريد إعادة النظر في صرف رواتب الموظفين العموميين من صرف 100 بالمئة إلى نسب أقل ربما تتبعها إجراءات تقشفية أخرى تنال الموظفين والإنفاق التطويري في الأراضي الفلسطينية بالإضافة إلى تجميد التعيينات.

وبالتالي هذا من شأنه أن يبطئ من تدفق السيولة النقدية في الأسواق المحلية وخلق وظائف وفرص عمل جديدة، وسط أزمة بطالة يعيشها المجتمع الفلسطيني بلغت 27 بالمئة والتي تعد ما بين خامس أو سادس أعلى نسبة بطالة في العالم، وفق تعبير خبيصة.

وأشار إلى أن ثلث الفلسطينيين فقراء بنحو 30 بالمئة من إجمالي الشعب، بينما الفقر المدقع بحدود 15 بالمئة، ما يعني أن هذه النسب قد تشهد ارتفاعا في ظل تراجع وفرة السيولة النقدية لدى الحكومة والقطاع الخاص أيضا الذي متوقع أن يتوقف عن ضخ أي استثمارات جديدة أو توسيع استثماراته القائمة.

ويستحوذ بند الأجور والرواتب نسبة قد تصل إلى النصف من إجمالي المصروفات، فوفق موازنة عام 2020 بلغ بند الأجور والرواتب فقط نحو 2 مليار و77 مليون دولار والتي مثلت نحو 45.8 بالمئة من إجمالي مصروفات الموازنة.

ووفق تقديرات البنك الدولي، نشرت في 22 فبراير/شباط، فإن معدل الفقر في فلسطين ارتفع إلى 30 بالمئة، حيث يعاني نحو 1.4 مليون شخص من الفقر.

وبحسب أحدث البيانات صعد معدل البطالة في فلسطين إلى 26.6 بالمئة خلال الربع الثاني 2020، مقارنة مع 25 بالمئة في الربع الأول، وتمثلت النسبة الأكبر من بين هذه البطالة في قطاع غزة بنحو 49 بالمئة.

بدوره، توقع عبد الكريم، أن تصل هذه البطالة ما بين 50 إلى 55 بالمئة خصوصا بين خريجي الجامعات، ما يعني مزيدا من الفقر المتوقع، خاصة وأن من يعملون بالأساس يتلقون رواتب متدنية دون الخط الوطني للفقر.

وأشار إلى أن الأزمة المالية التي تعيشها السلطة تؤثر بالسلب على عجز الموازنة للبلاد، وعلى النمو الاقتصادي للبلاد.

وتوقع البنك الدولي أن يصل عجز موازنة السلطة الفلسطينية إلى 1.36 مليار دولار في 2021.

خيارات محدودة

في خضم تلك المعطيات تبقى الحلول في إطار ضيق، فالخيارات أمام السلطة الفلسطينية ليست كبيرة، في ظل تفاقم الدين العام وخاصة المحلي مع استمرار العجز بالميزانية العامة للبلاد.

وأوضح خبيصة، أنه لا يوجد خيارات أمام الحكومة الفلسطينية إلا البحث التقليدي عن السيولة النقدية إما من خلال الاقتراض أو تفعيل شبكة الأمان المالية العربية التي تبلغ قيمتها 100 مليون دولار شهريا.

وأشار إلى أنه في آخر مرتين طلبت فلسطين تفعيل شبكة الأمان المالية العربية كان هناك تجاهل من قبل جامعة الدول العربية، وبالتالي لا أعتقد أن يكون هذا الخيار مقبولا.

أما فيما يتعلق الأمر بالاقتراض الخارجي، فيرى خبيصة، أن فلسطين هي دولة عالية المخاطر وبالتالي أي جهة خارجية تريد إقراض فلسطين ستفرض نسب فائدة مرتفعة، لافتا إلى أنه لا يوجد ديون كبيرة على الحكومة الفلسطينية خارجيا.

فمعظم الديون داخلية لصالح القطاع المصرفي الفلسطيني، ولكن هذا القطاع وصل لمرحلة أنه أصبح غير قادر على إقراض الحكومة، ولا توجد أدوات أخرى في الأفق سوى مطالبة المجتمع الدولي والمانحين لاستئناف دعمهم للحكومة، وأي خيارات أخرى ستكون تكلفتها أكبر، وفق تعبير خبيصة.

وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء الفلسطيني، بقوله "لم تعد السلطة الفلسطينية قادرة على الاقتراض من البنوك المحلية، ولذلك قد تضطر إلى زيادة تراكم المتأخرات المستحقة للقطاع الخاص، الأمر الذي يؤدي إلى سحب مزيد من السيولة في السوق".

وتشير أحدث بيانات وزارة المالية إلي أن الدين العام على السلطة الفلسطينية بلغ في نهاية شهر أغسطس/آب 2021، نحو 12.337 مليار شيكل (3.9 مليار دولار) منها 8.072 مليار شيكل (2.61 مليار دولار) دين محلي وتبلغ حصة البنوك من الدين المحلي 5.039 مليار شيكل (1.63 مليار دولار).

فيما يقول عبد الكريم، إن الدين العام للسلطة بجميع تفرعاته وصل إلى تسعة مليارات دولار أي 60 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، والذي يشمل الدين المحلي بـ 2 مليار و700 مليون دولار، والبنوك والمؤسسات الخارجية بحوالي 1 مليار و200 مليون دولار.

وتابع: "بالإضافة إلى متأخرات القطاع الخاص بحوالي مليار دولار، ومتأخرات لهيئة التقاعد التي تقدمها السلطة لها بحوالي ثلاثة مليارات دولار، وهذا الحجم من الدين العام مقلق خصوصا في الظروف الحالية".

أما فيما يتعلق بالخيارات أمام السلطة، ألمح أستاذ الاقتصاد، أنه ليس هناك سوى خيارين عليها أن تعمل عليهما "قد لا يحلان المشكلة لكن على الأقل يخففان من حدة الأزمة" وهما، أولا، وضع خطة تقشف لتقليل نفقاتها غير الضرورية دون التعدي على حقوق الفقراء والموظفين.

ثانيا، تحسين الجباية الضريبية نظرا لوجود تهرب ضريبي وأن تكون هناك عدالة أكبر في فرض الضرائب لتشجيع الأفراد على دفع ما عليهم من ضرائب، خلاف ذلك ليس أمامها سوى انتظار المساعدات التي قد لا تأتي.

وزاد، عبد الكريم: "الأمر المبشر أن أوروبا وعدت باستئناف المفاوضات ودفع المساعدات المخطط لها في عام 2022 خلال الربع الأول من العام القادم والمقدر بنحو 300 مليون يورو، بالإضافة إلى 300 مليون يورو أخرى خاصة في عام 2021 ما يعني أن أوروبا ستدفع إجمالا 600 مليون يورو".

إلا أن هذا المبلغ لن يتم توجيهه كاملا لدعم ميزانية السلطة، وفقط 100 مليون يورو ستكون مخصصة للميزانية، بينما الباقي يذهب للأونروا والمجتمع الدولي ومشاريع البنية التحتية التي تقوم بإدارتها بعض المؤسسات الدولية والمحلية.

وبالتالي السلطة في أزمة بلا شك شأنها شأن دول العالم ولكن الفارق أنها لا تملك هامش تحرك نظرا للاحتلال وتصرفاته.

وهو ما جاء جليا في تصريحات وزير الاقتصاد الفلسطيني، خالد العسيلي، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أن إسرائيل تمثل عائقا حقيقيا أمام تطوير الاقتصاد الفلسطيني وتسبب له خسائر سنوية بقيمة بنحو 3.4 مليار دولار.