صراع "الرئاسات الثلاث".. ماذا بعد انقلاب سعيّد على الغنوشي والمشيشي؟

12

طباعة

مشاركة

وسط أجواء غامضة تمثلت في حرق مقرات حزب "النهضة" الإسلامي، ورئيس وزراء مختف في منزله، ورئيس برلمان يتعافى من كورونا، خرج الرئيس التونسي قيس سعيد محاطا بالجنرالات في 25 يوليو/تموز 2021، ليعلن انقلابا "دستوريا" شكلا وإماراتيا تنفيذا.

تهديد الرئيس باستخدام السلاح، وإذاعة التلفزيون أغاني وطنية تمجد الجيش، وعسكرة مباني التلفزيون والحكومة، وإغلاق مكتب قناة الجزيرة، وصمت أحزاب ليبرالية ويسارية، أكمل صورة مشابهة لما شهدته مصر في انقلاب 2013.

تحرك سعيد جاء ضمن صراعات "الرئاسات الثلاث" (رئاسة الجمهورية، والحكومة، والبرلمان)، إذ عطل عمل البرلمان والحكومة، بمبرر تفعيل المادة 80 من الدستور، بدعوى أنها تدابير لوجود "حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها".

لكن الرئيس التونسي وظف الدستور بصورة خاطئة لصالح هيمنته الكاملة على كل السلطات، ليصبح أول رئيس مدني وأستاذ قانون دستوري يقوم بانقلاب، يخشى أن يستغله الجيش وقوى إقليمية ودولية معادية للربيع العربي، للتخلص من "سعيد" نفسه.

إضافة إلى أن قرارات سعيد ستضعه في صدام مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي وحركته "النهضة"، ومع رئيس الحكومة هشام المشيشي وقوى ثورة 2011، وقد تدفع نوابا لسحب الثقة منه كما ينص الدستور في مادته رقم 88، ما قد يدخل البلاد في نفق مظلم.

واعتمدت تونس في دستور 2014 نظاما تشاركيا يتميز بتوزيع النفوذ بين رئيسي الجمهورية والحكومة، لتحقيق التوازن والحد من هيمنة رئيس الجمهورية على السلطة، لكن سعيد خرقه بالاستحواذ على كل السلطات.

ثلاثة سيناريوهات

ومع نزول فريقي معارضي ومؤيدي الانقلاب للشارع، واعتصام رئيس البرلمان ونوابه على أبواب البرلمان، وانقسام الأحزاب ودعم تيارات "مدنية" للانقلاب على غرار حالة مصر 2013، ينتظر الجميع "لحظة الحسم".

ويبدو الحسم أنه سيكون وفق ثلاثة سيناريوهات: 

الأول، تعزيز الانقلاب مكاسبه باعتقال المعارضين وعلى رأسهم رئيسا البرلمان والحكومة، وقمع عسكري وأمني على الطريقة المصرية.

وربما يعزز هذا دعم "الاتحاد العام التونسي للشغل" اليساري، أكبر القوى القادرة على الحشد، لانقلاب الرئيس، رغم إعلانه في بيان 26 يوليو/تموز 2021 "حرصه على ضرورة التمسك بالشرعية الدستورية"، وتحديد وقت للتدابير الاستثنائية.

والثاني، اضطرار سعيد للتراجع وسحب قراراته، في حالة ثورة الشعب مرة أخرى ونزوله للشارع كما حدث عام 2011، وانحياز الجيش للشعب لا الرئيس، خاصة أن الأحزاب الكبرى مثل "نداء تونس" عارضت الانقلاب.

والثالث، بقاء التدابير الاستثنائية لمدة شهر (كما ينص الدستور) أو مدها، ثم الدعوة لانتخابات عامة جديدة وبرلمان جديد، أملا في إزاحة "النهضة" للمرة الثالثة منذ ثورة 2011.

مادتا الحسم 80 و88 

يمكن القول إن مصير تونس معلق بين المادتين 80 و88 من الدستور.

ورغم أن الرئيس التونسي استند لتفسير خاص به للمادة 80 تسمح له باتخاذ "تدابير استثنائية"، وجمد عمل البرلمان والحكومة، تمتلك المعارضة ونواب البرلمان الذين ألغى حصانتهم، سلطة عزله بالمادة 88 من نفس الدستور.

وتنص المادة 80 على أن يقوم الرئيس بتدابير (لم تحددها) "وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية".

لكن ما جرى هو أن الرئيس أقال رئيس الحكومة وجمد رئيس البرلمان ولم يقم باستشارتهما، بدعوى أن الدستور يمنع حل البرلمان، فقرر تجميده!.

والطريف أن حساب رئاسة الجمهورية التونسية علي موقع "فيسبوك" أكد أن الرئيس قام بـ"استشارة كل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب" في القرارات التي اتخذها، وكأنهما وافقا على "فصلهما وتجميد عملهما!".

خالف الرئيس أيضا الفقرة الثانية من المادة 80 وهي: "يعتبر مجلس نواب الشعب (البرلمان) في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة، وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب".

مأزق دستوري

بمغامرة الرئيس بخرق الدستور وتفسير المادة 80 "وفق هواه"، يغامر باحتمال تطبيق مجلس النواب المادة 88 من الدستور ضده، وعزله لمخالفته الدستور.

وتنص المادة 88 على أنه "يمكن لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور".

و"يوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه، وفي هذه الصورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك بأغلبية الثلثين من أعضائها".

وهذا يعني أنه في يد البرلمان – بأغلبية الثلثين- أن يقيل الرئيس خاصة بعدما أعلنت ثاني كتلة في البرلمان (قلب تونس)، وأحزاب أخرى رفضها انقلاب "سعيد" باعتباره "خرقا جسيما" للدستور.

وسبق حين رفض سعيد في 26 يناير/ كانون الثاني 2021 قبول أداء بعض الوزراء اليمين الدستورية، أن هدد نائب حزب "قلب تونس" عياض اللومي بأنه سيتم البدء في إجراءات عزل سعيد عبر تفعيل الفصل 88 من الدستور.

هناك مأزق قد يمنع البرلمان من عزل سعيد، وهو غياب "المحكمة الدستورية" التي لم يتم تشكيلها حتى الآن بسبب الخلافات بين الرئيس والبرلمان.

فالفقرة الثالثة من الفصل 80 تنص على أنه "بعد مضي 30 يوما على سريان هذه التدابير، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس النواب أو 30 من أعضائه البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه".

ويشير ذات الفصل في فقرته الأخيرة إلى أن "المحكمة تصرح بقرارها علانية في أجل أقصاه 15 يوما، وينهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها".

لكن ما يعرقل تنفيذ هذه الفقرات، هو غياب المحكمة الدستورية التي يعود إليها تأويل النصوص الدستورية، وهو ما يدركه الرئيس "سعيد" وربما استغله لصالحه.

والمحكمة الدستورية من بين الخلافات الرئيسة بين الرئيس والبرلمان، ويقفان على طرفي نقيض في تأويل النص الدستوري بشأن وضعها.

وينص دستور تونس 2014 على ضرورة تأسيس المحكمة في مدة أقصاها عام من تاريخ الانتخابات التشريعية التي أجريت في نفس العام.

وتتكون المحكمة من 12 عضوا، ينتخبهم البرلمان بأغلبية الثلثين، ما عرقل اختيار مرشحي المحكمة، وفاز عضو واحد بالأغلبية المطلوبة، وفشل باقي المرشحين.

وفي 4 مايو/أيار 2021، صادق برلمان تونس على مشروع تعديل لقانون المحكمة الدستورية يقلص أغلبية الثلثين المطلوبة لتزكية المرشحين، إلى أغلبية ثلاثة أخماس فقط.

وتسبب غياب المحكمة في عدة مآزق قانونية ودستورية سابقة، بينها التعديل الحكومي المعطل منذ يناير/ كانون الثاني 2021، والخلاف حول قيادة الرئيس للقوات المسلحة والأمنية معا.

الإمارات والانقلاب

بعد سلسلة تغريدات عن تونس والهجوم على "الإخوان"، كتب نائب رئيس شرطة دبي السابق ضاحي خلفان يفضح دور الإمارات في انقلاب تونس.

تحدث عبر حسابه على تويتر في  22 يوليو/ تموز 2021 عن "ضربة جديدة للإخوان"، ما يثبت ضلوع الإمارات في انقلاب تونس.

ويوم الانقلاب كتب يقول: "القادم.. سيكون ما فشل عن تحقيقه الإخوان".

وفي وقت مبكر، عام 2013، كتب خلفان، عن قرب استنساخ التجربة المصرية (الانقلاب) في تونس.

ونقل موقع "مجتهد" السعودي القريب من دوائر الحكم، عن "مصادر مقربة من ولي العهد محمد بن سلمان ونظيره الإماراتي محمد بن زايد" أنهما وعدا سعيد بـ5 مليارات دولار وديعة في تونس إذا نجح الانقلاب، ودعم اقتصاد البلاد، على غرار وعدهم للسيسي.

فيما اتهم الغنوشي علنا في لقاء مع التلفزيون التركي 26 يوليو/تموز 2021 إعلام الإمارات بأنه "وراء الدفع لهذا الانقلاب واستهداف حركة النهضة"، وقال: "الأطراف التي تدعم ما يجري في تونس واضحة".

وبخلاف حفاوة إعلام الإمارات بانقلاب تونس، تدعم عدة صفحات موالية للذباب الإلكتروني الإماراتي الانقلاب وتهاجم "النهضة" وجماعة "الإخوان المسلمين"، منها صفحة "شؤون تركية".

وأبرزها صفحة موالية للقيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان مستشار ابن زايد، توجه منشورات ممولة "sponsoring" موجهة للشعب التونسي، تحرض على ما يحدث وتدعو المواطنين في غزة لطرد من أسمتهم بـ"الظلمة".

وأشار ناشطون وحقوقيون لدور الإمارات في إشعال الأزمة التونسية، تمهيدا للانقلاب عبر حسابات أمنية على مواقع التواصل الاجتماعي ورفع عدة هاشتاجات مناهضة لإرادة الشعب التونسي.

وقالوا: إن سعيد "مجرد واجهة لانقلاب عسكري تم ترتيبه بتنسيق بين فرنسا والإمارات".

ومرت مساعي الإمارات لإجهاض ثورة تونس، ضمن خطتها لإفشال الربيع العربي ككل، بعدة محطات هامة.

تقويض الثورة

في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2015، كشف موقع "ميدل إيست آي" عن "مخطط إماراتي لضرب الاستقرار في تونس"، كان من ضمن بنوده "التخلص نهائيا من حركة النهضة"، بعدما حلت أولا في الانتخابات التشريعية والمحلية.

وفي 1 يونيو/حزيران 2017، نشرت وثيقة مسربة من "مركز الإمارات للسياسات"، بعنوان (الإستراتيجية الإماراتية المقترحة تجاه تونس) كشفت عن خطة إماراتية للإطاحة بحركة "النهضة" وتقويض الثورة التونسية.

وتضمنت التسريبات عبارات: "هيجوا الوضع في تونس، ونحن ندعمكم ماليا وندعمكم إعلاميا، هذه فرصتنا الآن لإسقاط جماعة الإخوان المسلمين في تونس!"، وهو ما تتبعه النائبة عبير موسي، أبرز من يتهمها التونسيون بتمويل الإمارات لها.

وفي 13 ديسمبر/ كانون أول 2018 حذر الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، في مقال بموقع "ميدل إيست آي" أن "تونس تواجه خطر انقلاب محتمل بدعم خليجي ومصري، وتواطؤ أطراف داخلية" للتخلص من حزب النهضة.

وقال "هيرست" في مقاله: إن "وجود حركة إسلامية سلمية ممثلة بحركة النهضة في تونس تعتبره بعض الديكتاتوريات في الخليج ومصر شوكة في جنبها، وتسعى للقضاء على التجربة الديمقراطية الهشة هناك".

وفضح الرئيس التونسي السابق، منصف المرزوقي، عام 2019، دور الإمارات في ضخ أموال طائلة لإفشال الثورة التونسية، على غرار ما فعلته في مصر، ودعا الشعب للتيقظ وعدم السماح بنجاح هذه المخططات.

التحذير الأهم والأخير من انقلاب تونس، كشفه موقع "Middle East Eye" البريطاني، في 24 مايو/أيار 2021 عبر صورة وثيقة مسربة وصفها بـ"السرية للغاية".

الوثيقة كشفت عن مخطط كان يعده كبار مستشاري سعيد، من أجل إعلان الانقلاب على الحكومة المنتخبة الحالية، ومجلس النواب.

بحسب الخطة، التي يعود تاريخها إلى 13 مايو/أيار 2021، كان سيتم دعوة خصوم الرئيس السياسيين إلى القصر الرئاسي، واحتجازهم، وإلقاء القبض على عدد من كبار السياسيين الآخرين ورجال الأعمال.

حينئذ ردت "نقابة أعوان وإطارات أمن رئيس الجمهورية والشخصيات الرسمية" في بيان رسمي نافية "وثيقة الانقلاب" التي نشرها "ميدل إيست آي"، قائله إن "عهد الانقلابات والديكتاتورية ولى وانتهى"!.

وعقب الانقلاب الفعلي 25 يوليو/تموز 2021، عادت "ميدل إيست آي" لتؤكد وثيقتها وأن "قرارات الرئيس التونسي ذهبت أبعد من خطة مايو المسربة".

وقالت: إن "سعيد أقدم على خطوات غير دستورية كإقالة رئيس الوزراء وتعليق البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه".

ووفقا للموقع البريطاني، اضطر الرئيس التونسي وقتها إلى الاعتراف بتلقيه رسالة الانقلاب، لكنه نفى أن يكون لديه أي نية لما كان يسمى في ذلك الوقت "انقلابا دستوريا". 

وعلقت "ميدل إيست آي": "نتفهم أن خطة الاستيلاء على السلطة انهارت في ذلك الوقت عندما فشل سعيد في الحصول على دعم قوات الأمن التونسية التي أصدرت بيانا قالت فيه: إنها لن تشارك في العملية السياسية".

محاكاة السيسي

في 23 يناير/كانون الثاني 2016، كان أول تدخل مصري فعلي في شؤون تونس حين وجه رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي رسالة إلى الشعب التونسي قائلا لهم: "حافظوا على بلادكم.. ما تضيعوش بلادكم".

حينئذ أثارت رسالة السيسي تساؤلات حول قلق مصري من تكرار نموذج ثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس ثم مصر، ورغبة في وضع حد لسيطرة حركة "النهضة" على المشهد في تونس.

وحين دعا السيسي الرئيس التونسي إلى القاهرة 9 أبريل/نيسان 2021 في زيارة رسمية لمدة 3 أيام، اعترض عليها الكثير من الأحزاب والقوى التونسية، بسبب تدخل مصر في شؤون تونس وتحريضها الرئيس علي فصيل منتخب (النهضة).

لهذا اتهم موقع "euro news" ووكالة "رويترز" 26 يوليو/تموز 2021 الرئيس التونسي أنه في انقلابه سار "بمحاكاة السيسي".

وقد اتهم ناشطون، أفرادا ممولين من الإمارات (على غرار حركة تمرد) باتباع نفس تكتيكات انقلاب سيسي مصر في تونس استعدادا لانقلاب الرئيس سعيد.

حيث تم تحويل يوم الاحتفال بالجمهورية 25 يوليو/ تموز 2021 ليوم لحركة "تمرد" مشابهه على الديمقراطية، وحرق مقرات الحزب الإسلامي، لإظهار أن هناك ثورة شعبية ضد "الإخوان".

تبع هذا ترحيب صحف مصرية، تدار بـ"ريموت" المخابرات بالانقلاب، ونشرها عناوين معادية للنهضة والإخوان.

جريدة "الأهرام" الحكومية قالت: "أنصار حركة النهضة الإخوانية يعتدون على مواطنين تونسيين بالحجارة أمام مبنى البرلمان".

وصحيفة الوطن المملوكة لشركة المخابرات (المتحدة) كتبت تقول: "الرئيس والشعب ينتفضون ضد الإخوان في تونس".

وزعم موقع "القاهرة 24" الاستخباري أن "قيادات بحركة النهضة تهرب للخارج".

فيما نشر موقع "مبتدأ" التابع للجيش المصري ملفا بعنوان: "إنقاذ تونس!"، وتحدثت صحيفة "المصري اليوم" عن "قيس سعيد.. العصفور النادر الذي حرر تونس من الإخوان!".