دعوة الفاتيكان كنائس العالم للصلاة من أجل لبنان.. إنقاذ للبلاد أم المسيحيين؟

12

طباعة

مشاركة

فساد مالي وإداري وتحزب سياسي وانحياز كل فريق إلى طائفته وأطماع إقليمية ودولية، أزمات أصابت لبنان، البلد العربي السياحي الذي ارتبط في أذهان عاشقيه بالجمال والحضارة، لكن وبفعل أزماته أصبحت "بلاد الأرز" على شفا الانهيار.

رفع بابا الفاتيكان، فرنسيس، مطلع يوليو/ تموز 2021، صلاة "من أجل السلام والاستقرار في لبنان"، الغارق في أزمة اقتصادية صنفها البنك الدولي، واحدة من أشد ثلاث أزمات يشهدها العالم منذ عام 1850.

البابا، دعا عموم المسيحيين حول العالم للمشاركة في الصلاة كي "ينهض لبنان من الأزمة الخطيرة، وأن يظهر مجددا وجهه، وجه السلام والرجاء". 

شارك في الصلاة ممثلو الكنائس المسيحية التسعة في لبنان، خمسة منهم يمثلون الكنائس الكاثوليكية، وثلاثة للأرثوذكسية، وواحد يمثل الإنجيلية (البروتستانت).

يوم الصلاة من أجل لبنان، تضمن ثلاث جلسات مغلقة في القصر الرسولي بالفاتيكان، واختتم بصلاة مسكونية "من أجل السلام" في بازيليك "القديس بطرس"، تخللها تلاوة نصوص بالعربية والسريانية والأرمينية والكلدانية.

لن نتركه

"الحبر الأعظم"، وجه رسالة إلى اللبنانيين وقادتهم، وكذلك "الأسرة الدولية"، قائلا: "اجتمعنا لنصلي ولنفكر معا، يدفعنا القلق الشديد على لبنان، إذ نرى هذا البلد، الذي أحمله في قلبي وأرغب في زيارته، يتعرض لأزمة خطيرة".

وأضاف: "لا يمكن أن يترك لبنان رهينة الأقدار أو الذين يسعون بدون رادع ضمير وراء مصالحهم الخاصة".

كما ناشد السياسيين اللبنانيين "إيجاد حلول عاجلة ومستقرة للأزمة السياسية والمالية والاجتماعية الحالية"، مذكرا إياهم بأنه: "لا سلام من دون عدل".

وانتقد أصحاب السلطة في بيروت بشكل مباشر، ودعاهم إلى أن يضعوا أنفسهم "نهائيا وبشكل قاطع في خدمة السلام، لا في خدمة مصالحهم الخاصة".

ثم ناشد العالم قائلا: "كفى استخدام لبنان والشرق الأوسط لمصالح ومكاسب سياسية"، مطالبا المجتمع الدولي "بتوفير الظروف المناسبة للبنان حتى لا يغرق".

علاقات تاريخية

حديث البابا، دفع البعض للتساؤل: هل يؤشر كلام الحبر الأعظم على مضي الفاتيكان لقيادة مبادرة إنقاذ لبنان؟

وتعود جذور العلاقة الرسمية بين لبنان والفاتيكان إلى عام 1584، بحسب الأستاذ الجامعي والخبير في شؤون الكرسي الرسولي "ناجي القزعلي".

البابا "غريغوريوس الثالث عشر"، أنشأ المدرسة المارونية، عقب توحيد العقيدة المارونية بالديانة الكاثوليكية، كمعهد لدراسة اللاهوت الكاثوليكي، تخرج منه أبرز أعلام الطائفة المارونية.

ودعم الفاتيكان مطلب الكنيسة المارونية إنشاء دولة لبنان الكبير.

دليل ذلك، ما خطه البابا "بينيديكتوس الـ15" قبيل إعلان دولة لبنان الكبير، على خريطة لبنان، والتي لا تزال موجودة في أرشيف البطريركية المارونية في بكركي، التي حملت جملة: "لقد تحققت أماني وتطلعات اللبنانيين بوطن لهم، ونحن نباركهم".

وخلال الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990)، بذل الحبر الأعظم وقتها البابا "يوحنا بطرس الثاني" جهودا مكثفة لإيقاف نزيف الدم اللبناني. 

وبحسب "القزعلي"، خصص البابا 340 خطابا من أجل لبنان، وكان يردد في هذه الخطابات "أنا لبناني أكثر منكم". 

رئيس الجمهورية الأسبق "أمين الجميل" في مذكراته، أكد أن الفاتيكان كان في صلب الدول التي ساهمت في التوصل إلى "اتفاق الطائف" 30 سبتمبر/ أيلول 1989، الذي أوقف الحرب الأهلية في لبنان.

ويتطرق الاتفاق الذي شهدته الأراضي السعودية إلى النقاشات التي شهدتها أروقة الفاتيكان مع المرجعيات المسيحية اللبنانية، والتي شددت على الوقوف ضد تقسيم لبنان تحت أي شكل أو مسمى.

كما رفض الفاتيكان، أن يتحول المسيحيون إلى دولة محصورة في القرى والمدن المسيحية فقط، مؤكدا أهمية النظام التشاركي بين المسيحيين والمسلمين.

عميد الكنائس الشرقية الكاردينال "ليوناردو ساندري" ألقى مداخلة في المؤتمر الصحفي الذي عقد في دار الصحافة في الفاتيكان للإعلان عن "يوم الصلاة والتأمل من أجل لبنان".

ذكر في مستهلها بالإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" الذي تحدث فيه البابا الراحل "يوحنا بولس الثاني" في العام 1991 عن دعوته إلى عقد "سينودس" خاص ببلاد الأرز، عندما كانت الأوضاع مأساوية.

 وكلمة "سينودس" ذات أصل يوناني تعني الاجتماع، وهو حدث كنسي، حيث يلتقي الأساقفة الكاثوليك مع الأب الأقدس (البابا) ويبحثون عن حلول لمسائل رعوية على الصعيد العالمي.

 والتأم "السينودس" الخاص بلبنان عام 1995، قبل أن يقوم البابا "يوحنا بولس الثاني" بزيارة تاريخية إلى لبنان عام 1997، ويوقع على الإرشاد الرسولي المذكور. 

كما أن خلفه البابا "بينيديكتوس الـ16" اختار بلاد الأرز ليوقع على الإرشاد الرسولي ما بعد السينودس الخاص بالشرق الأوسط في عام 2012.

مداولات الصلاة

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، الكاردينال "مار بشارة بطرس الراعي"، كشف أن العناوين التي نوقشت في اللقاءات، شملت "حياد لبنان عن نزاعات المنطقة، والمؤتمر الدولي، وموضوع حزب الله وسلاحه".

وفي حديث لتلفزيون "أم تي في" قال: إن "اللقاء في الفاتيكان جاء ليستمع البابا للتفاصيل، فهو لم يتدخل أثناء المداولات في الاجتماعات الثلاثة التي عقدت، بل جلس مستمعا إلى الحاضرين".

في المقابل، نشرت وكالة الأنباء "المركزية" تقريرا عن مجريات اليوم اللبناني – الفاتيكاني الطويل، وصف فيه الأجواء بـ"الجيدة جدا".

إذ تم طرح ومناقشة مجمل الأفكار الواردة في أوراق العمل التي حملها رؤساء الكنائس اللبنانية معهم إلى الفاتيكان، وانعكاس الخلافات بين المسؤولين من الطائفة نفسها سلبا على الأوضاع العامة.

كما تم التداول في وجوب متابعة اللقاء عبر لجنة أو أي وسيلة أخرى لعدم تركه يتيما.

المحادثات المكثفة بين البابا والقادة الروحيين اشتملت على عرض مسهب لتفاصيل الواقع اللبناني المنهار وأسباب هذا الانهيار، مع عرض ما يمكن فعله لإنقاذ البلاد وأهلها.

تقرير الوكالة شدد على أن النقاش لم يحصل من زاوية مسيحية ضيقة، حيث كان هناك إجماع على أن إنقاذ الوطن وقيام الدولة فيهما خلاص اللبنانيين مسلمين ومسيحيين على حد سواء.

وختم بالحديث عن خطة رسمتها دولة الفاتيكان، للتخفيف من وطأة الانهيار على اللبنانيين، وليكون العالم إلى جانبهم في معاناتهم، في انتظار الخروج من الأزمة الاقتصادية والمعيشية من دون التطرق إلى تفاصيلها.

لكن وللمفارقة، فإن عميد الكنائس الشرقية الكاردينال "ليوناردو ساندري"، قال قبيل إحدى الاجتماعات الثلاثة، أن "الله وحده قادر على مساعدة لبنان للخروج من الأزمة الخطيرة التي هو فيها".

وعلمت "الاستقلال"، من مصادر كنسية متابعة، أن المداولات شملت أيضا البحث في كيفية تعزيز الخدمة الاجتماعية، وضرورة المحافظة على القطاعات الفاعلة، خاصة تلك التي تحظى بحضور مسيحي وازن كالصحة والتربية.

كما تم التطرق إلى كيفية حث المغتربين اللبنانيين على تقديم العون للمقيمين، والسعي مع الدوائر الغربية على تجنيب لبنان السقوط الكبير.

أضف إلى ذلك، التركيز على إشراك قوى الاحتجاج والثورة أكثر فأكثر في العملية السياسية الداخلية، لتكون بديلا عن السلطة الحاكمة.

ووفقا لمعلومات "الاستقلال"، فإن شبه خارطة طريق وضعت لتحقيق هذه الأهداف، لكن غابت الآلية النهائية وأدوات ترجمة ذلك على أرض الواقع.

مبادرة إنقاذ

محللون لبنانيون، لم يروا في صلاة الفاتيكان "مبادرة إنقاذ قابلة للتنفيذ"، لأسباب شتى منها ما هو مرتبط بشخص البابا الحالي القادم من خلفية لم تكن على تماس دائم مع مشاكل الشرق الأوسط.

الصحفي داوود رمال يقول لـ"الاستقلال" إن "عددا كبيرا من الدعاوى المقدمة في حاضرة الفاتيكان من قبل رجال دين مسيحيين ضد مسؤولين كنسيين (دعاوى فساد مالي وعقاري وأخلاقي.. إلخ)". 

وعندما أوفد البابا فرنسيس، إلى لبنان أمين سر الدولة الكاردينال بيترو بارولين، الرجل الثاني في الفاتيكان، في أغسطس/ آب 2020، فوجئ الزائر البابوي "بابتعاد الكنيسة في لبنان عن آلام ومعاناة اللبنانيين من مسيحيين ومسلمين".

ولم يجد إلا "مؤسسة كاريتاس" تحاول قدر المستطاع وفوق طاقتها بذل جهود الإغاثة ومساعدة المتضررين من انفجار مرفأ بيروت، بينما بدت معظم المؤسسات الكنسية "في حالة غيبوبة". 

وفي الوقت ذاته، يضيف رمال: "لاحظ عدم وجود أي نظرة سياسية لمستقبل الوجود المسيحي في لبنان عند معظم قادة المسيحيين في لبنان، كما لاحظ أن الشعب اللبناني "متروك لمصيره ولا أحد يلتفت إليه".

وهذا ما جعل البعض يعتقد أنه السبب وراء تأجيل البابا زيارته إلى لبنان بعد أن زار العراق، لوجود عتب على الكنيسة المارونية وبرودة مع البطريرك اللبناني بشارة الراعي.

ويعتقد رمال، أن "صلاة البابا جاءت غداة اللقاء الذي جمعه بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن".

 وكان لافتا للانتباه، استضافة ماتيرا الإيطالية من بعده اجتماعا ثلاثيا أميركيا،ـ فرنسيا، سعوديا، هو الأول من نوعه، وذلك على هامش محادثات مجموعة الدول الاقتصادية الـ20.

وقتها أعلن بلينكن، أنه بحث مع نظيريه الفرنسي جان إيف لودريان، والسعودي فيصل بن فرحان، "ضرورة إبداء القادة السياسيين اللبنانيين مزايا القيادة الحقيقية عبر تطبيق إصلاحات طال انتظارها، لإيجاد استقرار اقتصادي وتوفير الدعم الذي يحتاج إليه الشعب اللبناني بشدة". 

ولكن حتى اليوم لم يظهر ما إذا كان تمخض عن الصلاة مبادرة فاتيكانية أم أن الفاتيكان سيترك خبز السياسة لغيره من الخبازين السياسيين.

من جهة ثانية، يرى الكاتب الصحفي منير الربيع، أن دخول الفاتيكان على خط الأزمة اللبنانية له طابع معنوي وتأثير سياسي، لأنه منسق مع واشنطن وفرنسا.

ويقول لـ"الاستقلال": إن "الصلاة هدفها إعادة الاهتمام الدولي بالملف اللبناني، والتركيز على ضرورة إنقاذ لبنان وكل اللبنانيين وليس فقط المسيحيين".

ذلك تطبيقا لقاعدة انغماس المسيحيين في مجتمعاتهم مع أبناء الطوائف الأخرى وليس على قاعدة الحلول التقسيمية أو الفيدرالية، بل الحفاظ على الدولة الوطنية والدولة المركزية.

وفي رد غير مباشر عن طبيعة العلاقة بين الراعي والفاتيكان، يقول الربيع: "حركة البطريرك الراعي كانت متماهية ومنسقة مع الفاتيكان بكل تفاصيلها".

وإذ يرى الربيع، أن تدخل الفاتيكان يعيدنا بالأذهان إلى مرحلة ما قبل توقيع اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية، (وقتذاك كانت حركة الفاتيكان لافتة ونشطة، وهي عندما تكون كذلك تعني وضع لبنان، على جدول الاهتمامات الدولية).

ويشير في نهاية حديثه إلى أن الحصول على نتائج من اللقاء يحتاج إلى وقت، حيث لن يكون له تأثير فوري، إنما يحتاج إلى مسار طويل.