دينغ بوبو فاربا.. سنغالي شارك بتأسيس موريتانيا وقاد اقتصادها وشرع قوانينها
لم يكن أكثر الخبراء السياسيين أو الاقصاديين أو التشريعيين البارزين على مستوى العالم ليحلم بقيادة بلد غير بلده أو يقود أمة غير التي ينتمي لها بحب وعطاء، إلا أن السنغالي دينغ بوبو فاربا، حقق تلك المعادلة الصعبة في موريتانيا.
في هدوء، رحل بالعاصمة نواكشوط، في 2 يوليو/ تموز 2021، السياسي المخضرم وأحد مؤسسي موريتانيا، دينغ بوبو فاربا، عن عمر ناهز 83 سنة، وبعد أن كان أول رئيس لمجلس الشيوخ بالبلاد، في منصب استمر به طيلة 13 عاما.
بداية المسار
ولد الرجل القادم من ضفاف نهر السنغال، عام 1942، بمدينة بابابي، في أسرة عريقة حرصت على أن يكون سليلها من أوائل رواد المدرسة، فدخل الابتدائية في مدينة "بوغي"، ثم الثانوية في مدينة "روصو"، ليحصل على الإجازة في الفلسفة عام 1963، ثلاث سنوات بعد استقلال البلاد.
أكمل فاربا، دراسته الجامعية في العاصمة السنغالية دكار، ليتخرج في جامعة الشيخ "أنتا ديوب" عام 1968، حاصلا على شهادة في العلوم الاقتصادية، لينتقل في نفس العام إلى العاصمة الفرنسية باريس، إذ حصل على شهادة عليا في الاقتصاد.
درس بوبو فاربا، في فرنسا ضمن دفعة الرئيس الموريتاني الأسبق، سيدي ولد الشيخ عبدالله، ورئيس حزب التكتل، أحمد ولد داداه.
عاد الراحل مطلع سبعينيات القرن الـ20، إلى موريتانيا التي كانت تعيش أوضاعا سياسية واقتصادية صعبة، كما كانت تعرف صراعا محتدما بين نظام الرئيس الراحل، المختار ولد داداه ومعارضيه.
في تلك الفترة، احتاج النظام في البلاد إلى كوادر شابة لتأسيس موريتانيا جديدة، حينها، عين ولد داداه "فاربا" مديرا للتجارة عام 1970، وهو المنصب الذي بقي فيه حتى عام 1972.
أصبح القادم من الجارة السنغال، بعدها عضوا في لجنة كلفت بالتحضير لإطلاق أول عملة وطنية، والخروج من عملة "الفرنك" الغرب إفريقي، ليكون أحد المساهمين في إنشاء "الأوقية" عام 1973.
كانت تلك هي بداية مسار "فاربا" في البنك المركزي الموريتاني، الذي وصل ذروته عام 1978، حين عينه العسكريون محافظا للبنك.
دخل ابن السنغال، إلى الحكومة الموريتانية وزيرا للاقتصاد والمالية عام 1981 وحتى عام 1982، ثم وزيرا للطاقة والمعادن عام 1983، قبل أن يعود في العام نفسه محافظا للبنك المركزي.
بقي دينغ بوبو فاربا، على رأس البنك المركزي حتى 1987، لتتم إقالته بالتزامن مع توتر سياسي عصف بالبلاد، ما بين النظام والمثقفين الزنوج.
عاد فاربا، عام 1991 إلى المناصب الرسمية، حين عينه الرئيس، معاوية ولد سيد أحمد الطايع، مديرا عاما لشركة الخطوط الجوية الموريتانية، وهو المنصب الذي بقي فيه لمدة عام.
انتخب عام 1992، عضوا في مجلس الشيوخ عن مقاطعة الميناء بنواكشوط، ورئيسا للمجلس في أول جلسة، وظل في المنصب حتى أطيح بنظام ولد الطايع عام 2005.
ثقافتين متكاملتين
كان الطايع، أحد الذين شاركوا بانقلاب عام 1978، وإطاحة الرئيس المختار ولد داداه، في نفس العام، ثم عين الطايع على إثر ذلك الانقلاب وزيرا للدفاع، تقلد مناصب عديدة منها قيادة أركان الجيش، والدرك، ورئاسة الوزراء.
بعد سنوات من توليه مقاليد الحكم أعلنت موريتانيا عبر دستور يوليو/ تموز 1991، عن نظام تعددي أجريت بموجبه أول انتخابات رئاسية في ديسمبر/ كانون الأول 1992، فاز فيها الرئيس معاوية بنسبة 62.65 بالمئة.
أعيد انتخاب الطايع، في ديسمبر/كانون الأول 1997، عبر انتخابات رئاسية قاطعتها المعارضة بنسبة زادت على 73.25 بالمئة، وعاد لاحقا للفوز مجددا بالرئاسة في الانتخابات التي أجريت في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2003، بنسبة 66.69 بالمئة، بعيد المحاولة الانقلابية الفاشلة (يونيو 2003).
اعتبرت المعارضة الانتخابات باطلة، وطالبت بإجراءات ثانية جديدة، مجمعة على حدوث "أعمال تزوير" بالعملية الانتخابية.
حكم ولد الطايع البلاد 21 سنة، بنظام تعددي قريب من نظام الحزب الواحد، بواسطة الحزب "الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي" الذي ظل الحزب الأقوى حتى بعد سقوط الطايع.
أمضى الرئيس ولد الطايع، أيام الانقلاب الأولى في النيجر، ومن هناك وجه نداء عبر قناة "العربية" إلى الضباط وضباط الصف والجنود لوقف ما أسماه "الوضعية الإجرامية" في نواكشوط.
ثم غادر إلى غامبيا في 8 أغسطس/ آب 2005، ثم انتقل مع عائلته إلى قطر في 20 من الشهر نفسه، التي يقيم فيها حتى الآن، ويزداد الحديث على نطاق واسع عن احتمال عودته.
وداع فاربا
نشر القاضي فضيلي ولد الرايس، المستشار القانوني السابق للراحل دينغ بوبو فاربا نعيا بصفته أحد أقرب الموظفين منه ومرافقه في العديد من المناسبات، مؤكدا حب الراحل لموريتانيا وتشبثه بوحدتها، وبعده عن الخطاب المتطرف.
وقال: "عملت مع الراحل دينغ بوبو فاربا لمدة 18 عاما، كنت مستشاره القانوني ومدير الخدمات التشريعية في مجلس الشيوخ، لقد رافقته في جميع رحلاته إلى الخارج، وكنت بالنسبة له أخا صغيرا وقبل كل شيء صديقا مقربا".
وفي حق الراحل، قال ولد الرايس: "كان قوميا قويا بشكل لا لبس فيه، لم يستحدث أبدا خطابا متطرفا أو متحيزا، كان على مسافة متساوية من الجميع، مما جلب له الكثير من الإهانات والنقد من بعض الأوساط المتطرفة والعنصرية".
اعتبر المستشار الراحل أنه كان "رمزا لثقافتين متكاملتين"، وأوضح أن الراحل كان من نسل "مور إيلي ولد فايد"، الذي استقر في "والالدي" بالسنغال، ليتزوج مباني شابة حملت لقب فاربا من هذه المنطقة.
ومضى إلى القول: "هذا ما يفسر توازنه الجوهري وقناعاته العميقة بموريتانيا موحدة".
وزاد: "كان دينغ بوبو فاربا صادقا، وكان مديرا متواضعا ودقيقا، ولم يكن مسرفا ولا متفاخرا، وكان رجلا اجتماعيا ولطيفا، يمكن لمن عرفه أن يشهد بصفاء قلبه".
اختيار مدروس
الوزير الموريتاني السابق، عبدالقادر ولد محمد، أثنى على الحس السياسي العالي لبوبو فاربا، بالإضافة إلى حسه الوطني، والذي دفع إلى تعيينه كأول رئيس لمجلس الشيوخ لممثلي الشعب الموريتاني.
وأوضح في مقال نعى فيه الفقيد، أن هذا التعيين تسبب في ذلك الوقت في كثير من الجدل داخل الأوساط السياسية الموريتانية.
وأضاف، أن فاربا اكتسب مع مرور الوقت ثقة في صحة اختياره السياسي، إذ عقد فور تعيينه لقاءات ثنائية مع مسؤولي الأحزاب عن تشخيصهم للمشاكل التي تعاني منها موريتانيا.
يقول عبدالقادر ولد محمد في مقاله: "بعد مناقشة صريحة معه، فهمت أن اختيار هذا الرجل العظيم لتجسيد مجلس الشيوخ كان مدروسا جيدا".
وتابع: "كان اختيار الرئيس الراحل لمجلس الشيوخ، الذي فرضه الرئيس معاوية رسالة سياسية تهدف إلى ضمان الوحدة الوطنية على المدى الطويل وتعزيز ترسيخها على مستوى مؤسسات الجمهورية".
ويرى الوزير السابق، أن بوبو فاربا، كان يدرك ذلك تماما، "على الرغم من الانتقادات وسخرية أولئك الذين لم يروا فيه سوى (زنجي)".
كانت عظمة طموحه أكثر جاذبية لأن جيل أعضاء مجلس الشيوخ الذي كان عليه أن يقودهم كان في جزء كبير منه جيل كتبة الدولة السابقين الذين نجحوا بكفاءتهم في إثارة النقاش البرلماني.
وختم ولد محمد مقاله بالقول: "اليوم، بعد حل مجلس الشيوخ المثير للجدل الذي كان يرأسه الرجل الذي جسد التاريخ البرلماني للبلاد، يمكن القول: إن وفاة الرئيس بوبو فاربا، وفاة ثانية لمجلس الشيوخ الموريتاني".