لبنان يواجه أزمات سياسية ودستورية.. ما فرص نجاح "الفيدرالية" في حلها؟

مصطفى العويك | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"الأزمة السياسية التي يمر بها لبنان، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة"، فالنظام السياسي، وباتفاق جميع القوى، بات عاجزا عن إيجاد الحلول للمشاكل القائمة.

زعيم طائفة الدروز (عرقية دينية) وليد جنبلاط، المعروف بحنكته السياسية ودهائه، أعلن مرارا "موت اتفاق الطائف"، وهو الدستور الحالي للبنان.

وعلى طريقه سار العديد من الأحزاب بالقول إن لبنان القديم انتهى، والجمهورية الثانية (دولة ما بعد الحرب الأهلية 1975) أيضا اندثرت، ولا بد من ولادة نظام جديد يسد كل الثغرات الدستورية والسياسية التي ساهمت بولادة الأزمات السابقة.

لكن المشكلة أن أحدا في بيروت لا يتجرأ على طرح رؤيته الحقيقية للنظام المثالي الذي يرى فيه الحل والخلاص.

فمنهم من يحيل الأمر الى عدم تطبيق اتفاق الطائف (أنهى الحرب الأهلية عام 1989) بحذافيره، معتبرا أن الأخير تضمن الحلول الناجعة، وبالتالي يشدد على أن الخروج من عنق الزجاجة يكون بالعودة إلى الاتفاق.

وآخرون يرون الحل باللامركزية الإدارية الموسعة، التي من شأنها أن تخفف الضغط عن كاهل العاصمة بيروت، وتمنح المناطق والمحافظات الأخرى بعضا من الصلاحيات.

فيما يسعى البعض للترويج لـ"الفيدرالية" على أنها نظام الحكم الأمثل، وأن لبنان لا يمكنه أن يحكم إلا بكانتونات طائفية مستقلة في شعائرها الدينية، موحدة في سياستها الخارجية والدفاعية.

فهل من الممكن أن تقود "الفيدرالية" لبنان وشعبه إلى شاطئ الأمان؟ وما هي المعوقات أمام ذلك؟

طرح قديم

النظام الفيدرالي ليس طرحا حديثا في قاموس أهل السياسة في لبنان، بل يعود إلى ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920.

يومها كانت بعض القوى المسيحية تنادي بوطن مسيحي خاص بها، وبضم المناطق الإسلامية إلى سوريا، وهذا كان خيار المسلمين العروبيين آنذاك، إلى أن حسمت البطريركية المارونية في لبنان الجدل، بالاتفاق مع سلطات الانتداب، فظهر لبنان الكبير  بشكله الحالي. 

لكن ذلك لم يحل دون استمرار الانقسامات السياسية والطائفية بين المسلمين والمسيحيين، على هذه النقطة بالذات، حتى تاريخ استقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي عام 1943.

 ويذكر المؤرخ فواز طرابلسي في كتابه "تاريخ لبنان الحديث" أن رئيس الجمهورية اميل اده (1936-1941) أرسل مذكرة إلى الخارجية الفرنسية، "يطالب فيها بمنح الجنوب اللبناني حكما ذاتيا".

وبـ"إعلان مدينة طرابلس وتوابعها حتى سهل عكار شمال لبنان مدينة مفتوحة، يمنح المسيحيون فيها فقط الهوية اللبنانية، واقتصار الكيان اللبناني على جبل لبنان ومدينة بيروت وسهل البقاع فقط". 

ويقول المؤرخ صقر أبو فخر في مقالة له نشرها موقع "العربي الجديد"، في 8 يونيو/حزيران 2020، "كلما احتدم الصراع السياسي في لبنان، عاد الحديث إلى أن المشكلات لا تحل إلا بانفصال المسيحيين عن المسلمين".

وهو ما خبره اللبنانيون فعلا إبان الحرب الأهلية التي اندلعت على خلفية الوجود الفلسطيني في لبنان عام 1975.

وكان عمود الحرب الفقري التنظيمات المسيحية المسلحة، التي أنشأت كل منها ما يشبه كانتونا خاصا بها في المناطق التي سيطرت عليها.

ويكشف الأكاديمي والناشط السياسي حارث سليمان أن "طرح الفيدرالية كان قائما قبل اتفاق الطائف، وقبل قيام وترسيخ ما يسمى اليوم بالشيعية السياسية".

وقد أطلقت أدبياتها وخطابها، من قبل الجبهة اللبنانية في خلوة  "دير سيدة البير" التي عقدت سنة 1976، وفق سليمان.

ويضيف في حديثه لـ"الاستقلال": "يومها تولى الدعوة لتبنيها وبناء حيثياتها الفكرية والنظرية كل من أمين ناجي، وفؤاد البستاني، والأب مونس والمحامي انطوان نجم، فيما رسم خريطة الكيان المسيحي فيها السيد موسى البرنس".

 والفيدرالية  المرفوع لواؤها اليوم وفقا لسليمان، هي "توأم مشروع الوطن القومي المسيحي، الذي عمل له المغدور بشير الجميل (رئيس جمهورية لبنان الأسبق) وقضى بسببه".

وهذا ما ذهب إليه فخر في مقالته حيث أورد إضافة إلى ما كشفه سليمان لـ"الاستقلال"، أن رئيس الجمهورية السابق كميل شمعون (1952-1958) بالاشتراك مع رئيس حزب الكتائب بيار الجميل، قدما وثيقة حملت عنوان "جمهورية لبنان الفيدرالية"، إلى مؤتمر السلام اللبناني في لوزان عام 1984. 

مشروع الفدرلة

وبتوقيع اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية، وأدخل نظاما سياسيا جديدا على البلاد، اصطلح على تسميته "الجمهورية الثانية"، تحت وصاية نظام الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد بموافقة أميركية وسعودية. 

وفي ظل "العصا" السورية التي أوجبت الطاعة على جميع القوى السياسية، اندثرت الصيغ التقسيمية والفيدرالية. 

لكن ومع ظهور مشروع الشرق الأوسط الجديد في بداية الألفية الجديدة، والحديث عن الفيدراليات وظهور كيانات جديدة على أنقاض الدول القديمة، عاد التداول من جديد بمشروع الفيدرالية في لبنان. 

ففي أواخر العام 2014، تداعى عدد من ممثلي القوى المسيحية إلى إقامة مؤتمر تأسيسي لـ"مناقشة مشروع الفيدرالية واللامركزية الشاملة"، وانبثق عنه هيئة حملت اسم "مؤتمر الفيدرالية العام" من أجل تسويق المشروع. 

وعلى الأثر، قام الأمين العام للمؤتمر "الفرد رياشي" بجهود ضخمة لتسويق فكرة الفيدرالية، كان من ضمنها إطلالات إعلامية مكثفة، وزيارات إلى مختلف القادة السياسيين والروحيين، كان من أبرزهم أمين عام حزب الله حسن نصر الله.

ومع الوقت، بدأت الفكرة تتبلور أكثر فأكثر في الساحة السياسية، لا سيما بعدما طالب البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بعقد مؤتمر دولي لتحييد لبنان وإنقاذ نظامه المتداعي من سيطرة حزب الله.

وهو الأمر الذي اعتبره مؤيدو "الفدرلة" فرصة ذهبية لتسويقها دوليا تحت عباءة بكركي (مقر البطريركية) التي تشترك معها بفكرة الحياد اللبناني بعيدا عن سياسة المحاور.

وفي مايو/أيار 2020، نشر رياشي خارطة "دولة لبنان الفيدرالي"، التي تفترض تقسيم لبنان إلى ستة كانتونات مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. 

تتوزع الكانتونات المسلمة على المذاهب الإسلامية، بواقع كانتون واحد لكل من السنة والشيعة والدروز، في مقابل ثلاثة كانتونات مسيحية تضمن سيطرة مارونية عليها.

كما أعد مجموعة من الأكاديميين اللبنانيين المسيحيين الذين يدرسون في الجامعات الأميركية "مشروع القانون الأساسي لجمهورية لبنان الفيدرالية ودستورها".

وبدؤوا العمل بحماسة على تسويقه عبر وسائل الإعلام المحلية التي تدور في الفلك المسيحي، وعبر اللقاءات والندوات المكثفة. 

وأشار فحوى طرحها إلى ضرورة قيام دولة لبنانية فيدرالية، "تضم 4 مجموعات إثنية ثقافية مختلفة ذات تاريخ مشترك جزئي وتتقاسم أرضا". 

وهذا المقترح يجعل من لبنان فسيفساء ألوان مذهبية مقسمة إلى 1633 مدينة وقرية، منها 781 مسيحية، 353 شيعية، 272 سنية، 126 درزية و101 منطقة لا أكثرية.

 كما ينص على إلغاء الانتخاب على المستوى العام، ليتمثل اللبنانيون في مجلس نوابهم عبر انتخابات تجري في البرلمانات الكانتونية.

وحفظ المشروع لكل مواطني كانتون، حرية المعتقد والفكر والمساواة والعمل، كل داخل كانتونه الطائفي الذي يتمتع بنظامه الخاص وعمله الخاص.

أما على مستوى إدارة الدولة الفيدرالية، فهي تتألف من رئيس مسيحي ثابت لا يتغير، ورئيس حكومة من بين رؤساء الكانتونات يختار على أساس العمر، لمدة سنة واحدة.

وتكون بيروت الإدارية عاصمة دولة لبنان الفيدرالية على أن ينتخب كل كانتون عاصمته، والسيادة للقانون وليس للحكومات الكانتونية.

أما فيما يخص علاقة لبنان بالخارج، وهي الإشكالية الكبرى التي يعاني منها لبنان اليوم، فينص المشروع على أن تتولى إدارة الدولة الفيدرالية العلاقات الخارجية، مع وجوب استشارة كل كانتون عند توقيع أي اتفاقية تؤثر على ظروفه.

مواقف متناقضة

هذا المشروع بتفاصيله لم يحظ صراحة بتأييد علني من الأحزاب المسيحية المختلفة، التي تدعو له تحت عنوان "اللامركزية الموسعة".

فقد دعا النائب جبران باسيل رئيس "التيار الوطني الحر"، وصهر رئيس الجمهورية ميشال عون، في  تصريح له مطلع العام الحالي، "إلى قيام اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، كنظام يحفظ وحدة لبنان ويحميه من أي تفكك".

وأبدى باسيل تخوفه من اعتماد الفيدرالية، لأن "نسيج شعبنا وتداخله الجغرافي قد يحولانها إلى فرز طائفي طوعي للسكان (بسبب ارتكازها على البعد الطائفي)، وهذا ما قد يجعلها نوعا من التقسيم المقنع وهو مرفوض منا حتما".

لكن المفارقة، أن صحيفة الوطن القطرية نشرت بتاريخ 24 سبتمبر/أيلول 2016، تقريرا جاء فيه: "المطالبة العونية بالفدرالية ليست حديثة العهد، ولا تعود لمجرد شعور الرئيس ميشال عون بالتهميش كزعيم لأكبر كتلة بشرية مسيحية في لبنان".

ويضيف التقرير:" بنظر البعض العماد عون طرح مشروع فدرلة لبنان قبل 13 سنة من اليوم، وذلك بعيد زيارة أجراها إلى أميركا ألقى خلالها عدة محاضرات، بحيث أسر للمقربين في حينها بأن الفدرالية هي الحل في لبنان".

في المقابل، يعتبر رئيس "حزب الكتائب اللبنانية" سامي الجميل أن"اللامركزية هي أحد أعمدة لبنان المستقبل". وهو الحزب الي لطالما نادى بالفيدرالية إبان تأسيسه.

وينظر الجميل إلى الفيدرالية على أنها "نظام محترم لا أشيطنه، إنما انطلاقا من تجربتي فإن اللامركزية التي تقدمت بمشروع قانون حولها تلبي الغرض".

ويوضح أن "اللامركزية لا تتطلب تغيير الدستور بعكس الفيدرالية المرفوضة من قبل جزء كبير من اللبنانيين"، لافتا إلى أنها "مشروع عليه شبه إجماع من اللبنانيين".

من جهته يرى حزب "القوات اللبنانية"، أن "الخلاف الفعلي اليوم، ليس حول ماهية النظام، أو بين من يريد تطبيق الطائف أو تعديله، أو بين من يدعو إلى الفيدرالية وبين من يرفضها".

 ويقول رئيس جهاز الإعلام والتواصل في القوات شارل جبور لـ"الاستقلال"، "الخلاف هو حول تمسك حزب الله بدوره الإقليمي وسلاحه".

ويعتبر أنه "في ظل هذا التمسك لا حاجة للبحث عن الدستور الأمثل للبنان، لأنه لا قيمة لأي دستور لا يطبق على غرار الدستور الحالي، بسبب دور الحزب وسلاحه".

ولا يخفي جبور بأن "البحث عن نظام جديد هو هدف مشروع"، لكن "النقاش ليس في أهمية الفيدرالية أو غيرها". 

ومع ترجيحه أن تكون "الفيدرالية النظام الأمثل والأفضل للبنان واللبنانيين سياسيا وحياتيا وإداريا"، فإن المعضلة الأساس تكمن في أن "حزب الله" لا يريد البحث في أي نظام جديد، ولا يريد التخلي عن دوره وسلاحه طوعا، ولا يسمح بقيام دولة فعلية.

ويسأل جبور: "ما أهمية الفيدرالية إذا لم تكن قادرة على معالجة مسألة سلاح «حزب الله» ودوره؟".

ويضيف: "لو سلمنا جدلا بأن جميع المكونات اللبنانية توافقت على الفيدرالية ومن ضمنها حزب الله طبعا، فهل يسلم سلاحه إلى الدولة المركزية ويتخلى عن دوره الإقليمي؟ بالتأكيد لا".

 ويخلص إلى القول: "ما نفع الفيدرالية طالما أن الدولة فاقدة لقرارها، ولا اتفاق بين اللبنانيين على الأساسيات؟ وهل يمكن تطبيق الفيدرالية أساسا من دون موافقة جميع الأطراف؟".

من جهته يؤكد مصطفى علوش نائب رئيس تيار المستقبل (الحزب السني الأول في لبنان الذي يرأسه سعد رفيق الحريري)، لـ"الاستقلال"، أن "الحديث عن الفيدرالية غير منطقي في لبنان".

ويضيف: "مشكلتنا في القرارات السيادية والخارجية والدفاعية، فكيف سنحل هذه المشاكل في ظل وجود حزب الله؟".

ويسأل علوش: "ماذا لو قرر الحزب أن يخوض حربا ما، على أي أساس سيصار إلى التعامل معه". ويجيب، بأن طرح الفدرلة هو "مقدمة للتقسيم في لبنان".

وإذ يشير علوش الى أن تياره "لا مشكلة لديه باللامركزية لأنها من بنود الدستور واتفاق الطائف"، يؤكد على أن "أي حركة انفصالية سنكون لها بالمرصاد".