انكماش اقتصادي يفاقم أزمة العراق.. هذه روشتة بالإصلاحات اللازمة
أدى الانخفاض الحاد في عائدات النفط وجائحة كورونا إلى تفاقم أزمة الاقتصاد العراقي الذي يعتمد على عائدات النفط بنحو 95 بالمئة من إجمالي الإيرادات العامة للبلاد، ما أدى إلى انكماش اقتصادي ملحوظ، خاصة بعد أن واجه عراقيل عدة كان أبرزها أزمة دفع الرواتب للموظفين بالدولة.
وقال صندوق النقد الدولي، في 11 فبراير/ شباط 2021، إن اقتصاد العراق انكمش بنسبة 11 بالمئة في 2020، وهو ما يعكس تباطؤ الأنشطة الاقتصادية وتخفيضات "أوبك+" لإنتاج النفط الخام.
وأكد الصندوق، في تقريره حول مراجعته للاقتصاد العراقي، أن "جائحة كوفيد-19 (كورونا) والانخفاض الحاد في عائدات النفط، أديا إلى "تفاقم نقاط الضعف الاقتصادية التي يعانيها العراق منذ فترة طويلة".
وفقا للتقرير، تراجعت إيرادات الحكومة العراقية من عائدات النفط بأكثر من 23 بالمئة إلى 27 مليار دولار في 2020، من 35.2 مليار دولار عام 2019، وتوقع الصندوق عودة إجمالي الناتج المحلي إلى مستوى ما قبل الجائحة بحلول عام 2024.
أساس ريعي
ودائما ما يلقي الانكماش الاقتصادي في أي بلد من البلدان، عاتقه على واقع التنمية التي تسعى إليها الحكومات، إلا أن هذا الانكماش جاء في اقتصاد يعاني من تضخم المصروفات التشغيلية من خلال هيكلية إدارية غير صحيحة كزيادة أعداد الموظفين وزيادة سلم الرواتب لموظفي القطاع العام.
بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الدين العام إلى نحو 120 مليار دولار، صاحبه انخفاض في الناتج المحلي بحدود 200 مليار دولار، فأصبح معدل نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي يمثل 80 بالمئة، وهي نسبة مرتفعة تثير شكوك كثير من الدائنين في قدرة العراق على تسديد مديونياته.
وحسب الخبير الاقتصادي أسامة التميمي، فإن الانكماش الاقتصادي لأي بلد تختلف نسبة تأثيره على معدلات النمو بحسب درجة الانكماش والتباطؤ الاقتصادي، مشيرا إلى أن الاقتصاد العراقي يعتمد على أساس ريعي من عائدات النفط بنسب عالية جدا تصل إلى أكثر من 90 بالمئة.
وأضاف التميمي، لـ"الاستقلال": "بناء على تلك المعطيات فإن تأثير الانكماش الاقتصادي سيكون واسعا على مستوى الأداء في الخطط الحكومية والفترة الزمنية التي يشهدها هذا التراجع آخذين في الاعتبار المشكلات الأخرى، والتي تؤدي إلى تفاقم هذه الأزمة".
وتابع: "على رأس هذه المشكلات، الوضع الأمني الذي يعد صمام الأمان لاستقدام الاستثمارات التي تلعب دورا مهما في تحريك عجلة الاقتصاد ناهيك عن الخطط الخجولة التي تعدها الحكومة في مجال مكافحة الفساد المالي والإداري وعملية الإصلاح الاقتصادي التي لم تؤت ثمارا واضحة لتعظيم واردات الدولة".
وحسب مؤسسة Heritage foundation الأميركية المعنية بقياس مستوى الحرية الاقتصادية، فإن العراق لم يتم تصنيفه في مؤشر عام 2020 بسبب نقص المعلومات الموثوقة، مما يصعب المهمة أمام بغداد لجذب المستثمرين، حيث ينال هذا المؤشر اهتمام أغلب المستثمرين لتحديد دول معينة للاستثمار فيها.
واستهجن التميمي، سعي الحكومة لزيادة نسب الضرائب وتخفيض قيمة العملة مقابل الدولار، الأمر الذي فاقم من تردي الأوضاع الاقتصادية لدى شريحة واسعة من أبناء الشعب وأدى إلى ارتفاع معدلات الفقر، بالإضافة إلى المشكلات السياسية وحركة الاحتجاجات المستمرة وتخفيض معدلات التصدير النفطي.
بالإضافة إلى ارتفاع نسب إصابات فيروس كورونا والإغلاق الشامل للفعاليات الاقتصادية، فضلا عن مخاوف تلقي بظلالها على الشارع العراقي مع تطورات الأزمة بين واشنطن وطهران وآثارها على العراق، وبالتالي فكل هذه المشكلات وغيرها من شأنها أن تزيد ميزان العجز في الموازنة والضغط على سعر الصرف واحتياطيات البنك المركزي.
وفي يوليو/ تموز 2020، أعلنت وزارة التخطيط أن نسبة الفقر في العراق بلغت 31.7 بالمئة، بارتفاع يقدر بـ12 بالمئة عن عام 2019، وهو معدل قياسي يسجل للمرة الأولى منذ عام 2003.
من جانبه، يرى رئيس مؤسسة "عراق المستقبل للدراسات الاقتصادية"، منار العبيدي، أن الانكماش في اقتصاد العراق يؤثر على مجمل العجلة الاقتصادية للدولة وخصوصا في المشاريع التنموية.
وأضاف العبيدي، لـ"الاستقلال"، أن هذا الأمر ظهر واضحا من خلال العجز الحقيقي لسنة 2020 والذي بلغ بحدود 26 تريليون دينار أي ما يعادل نحو 20 مليار دولار وهو أعلى عجز حقيقي في الحكومة العراقية مع عدم وجود خطط لتحفيز الاقتصاد، خصوصا القطاع الخاص.
زيادة ضعيفة
لكن مع عودة النشاط الاقتصادي بشكل نسبي وزيادة الطلب على النفط فإن أسعار النفط شهدت حالة من الصعود، حيث بلغ سعر برميل النفط في الآونة الأخيرة نحو 63 دولارا، بعد أن شهد في مارس/ آذار 2020 حالة من الانهيار حيث بلغ سعر البرميل أقل من 30 دولارا.
ويحتاج العراق بأقل التقديرات إلى 89 مليار دولار كموازنة تشغيلية، إلا أن هذه الزيادة الحاصلة الآن في أسعار النفط قد تسهم في خفض عجز الموازنة ولو نسبيا، بعد أن عانت الموازنة من عجز بلغ نحو 4 مليارات دولار في 2020 والتي كانت مخصصة فقط لدفع الرواتب والحفاظ على استمرارية عمل الحكومة.
ويرى التميمي، أن زيادة أسعار النفط إلى 63 دولارا للبرميل يعوض نسبة ضئيلة من سد بعض النقص في أبواب الموازنة، وبالتالي على الحكومة والبرلمان وضع خطط صحيحة وحقيقية للاستفادة من هذه الزيادة الضعيفة حتى الآن مقارنة بحجم ما يحتاجه العراق من الفعاليات الاقتصادية والخدمات.
وتابع: "خصوصا وأن عصابات الفساد مازالت تتحرك بشكل واسع وتسيطر على الكثير من المفاصل، الأمر الذي يوجب على الحكومة رفع وتيرة الإجراءات لمتابعة هذه المافيات ووقف نشاطها، للحد من عمليات التهريب التي تجري لضرب المنتج الوطني أو الشركات الوهمية التي تحاول السيطرة على العوائد المالية بطرق مختلفة".
كانت الحكومة قد رفعت في 22 ديسمبر/كانون الأول 2020، مشروع موازنة 2021 بقيمة 164 تريليون دينار (113.1 مليار دولار)، بعجز إجمالي يبلغ 76 تريليون دينار (32.4 مليار دولار)، وأحالته إلى البرلمان للتصويت عليه.
إلا أن رئيس اللجنة المالية البرلمانية، هيثم الجبوري، أفاد خلال حديثه لوكالة الأناضول في 9 فبراير/ شباط 2021، بأن لجنته صوتت لصالح خفض حجم الموازنة إلى 130 تريليون دينار (89.6 مليار دولار)، والعجز إلى 25 تريليون دينار (17.2 مليار دولار).
ولم يتم إقرار موازنة البلاد لعام 2021 حتى الآن، ما دفع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي خلال اجتماعه مع أعضاء اللجنة المالية النيابية، لمطالبة البرلمان في 7 فبراير/ شباط 2021، بعدم إقحام الخلافات السياسية في موازنة البلاد المالية للعام الجاري والعمل على إقرارها سريعا.
وقال الكاظمي، خلال الاجتماع، إن "الموازنة المالية، تهدف إلى الإصلاح المالي والاقتصادي ودعم القطاعات الحيوية، التي من شأنها أن تعالج جزءا كبيرا من مشاكل الاقتصاد العراقي التي يعاني منها منذ عقود".
فيما أشار العبيدي، إلى أن أسعار النفط تواصل الصعود نتيجة خفض بعض الدول لإنتاجها من النفط وأيضا انخفاض المخزون النفطي لدى الدول المستوردة، ما سيساهم في زيادة واردات العراق.
ووفق العبيدي، "قد يساهم أيضا في إطلاق مبادرات تحفيزية بمختلف القطاعات، خصوصا في القطاعات الخاصة، ما يعني أنه سيكون هناك نمو في سنة 2021، إذا ما تم تجاوز أزمة كورونا التي تلقي بظلالها من جديد على العراق".
إصلاحات لازمة
ورغم كل محاولات البرلمان لإنتاج موازنة إصلاحية للعام 2021، إلا أن التحديات المتراكمة على مدى السنوات الـ 17 الماضية هي أكبر من كل محاولات الحكومة الإصلاحية التي لم يلمس منها المواطن سوى ضعف القدرة الشرائية وانعدام الخدمات وارتفاع معدلات البطالة، الأمر الذي أدى إلى فقدان الثقة الجماهيرية بأية خطوات حكومية مقبلة.
ويرى التميمي، أن هناك إصلاحات لازمة لوقف نزيف الاقتصاد والاتجاه نحو المسار الصحيح، مطالبا بضرورة:
- إجراء انتخابات حرة ونزيهة بوقتها المحدد وبإشراف دولي واسع لفسح المجال لوصول كفاءات وإبعاد الجهات الفاسدة عن سلطة القرار.
- تشريع القوانين الرادعة بحق الفاسدين والعمل بالتعاون مع المجتمع الدولي للتحرك على إعادة الفاسدين الهاربين خارج البلاد وإعادة الأموال المهربة.
- تشريع قانون النفط والغاز ودعم القطاع الخاص والسيطرة على المنافذ الحدودية بشكل دقيق لمنع عمليات التهريب.
- دعم القطاع الخاص الصناعي والزراعي وفق قوانين واضحة ودقيقة تمنع استغلال أموال الدعم المقدمة في غير موضعها الحقيقي.
- إجراءات سريعة لتعديل قانون الاستثمار الذي يعد طاردا بصورته الحالية وجعله بصورة مشجعة لاستقدام الأموال والمستثمرين.
- إجراء تسوية سريعة للمشكلات السياسية وتعزيز الملف الأمني بشكل أوسع من خلال رفع الكفاءة والجاهزية للقوات الأمنية لفرض السلطة ومواجهة السلاح المنفلت وبعض عصابات الابتزاز التي تحاول عرقلة عمل الشركات.
- إجراء المناقصات العلنية لإحالة العقود بعد دراسة واقعية وحقيقية للمشاريع من خلال لجان مشتركة اختصاصية بين المؤسسة القطاعية والجامعات والمكاتب الاستشارية لتقييم العقود التي تقدم مصلحة البلاد، إضافة إلى التعاقد مع شركات رصينة.
- تشريع قوانين تؤدي إلى تأهيل العمل في القطاع المصرفي العراقي، ومكافحة التضخم، ورفع نسب الفائدة في البنوك، والقضاء على البيروقراطية الوظيفية التي مازالت تمارس في مؤسسات الدولة، والعمل بنظام الحكومة الإلكترونية.
- الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في تنشيط القطاعات الاقتصادية بالشكل الذي يتلائم مع الواقع الاقتصادي في العراق والعمل على تنفيذ مشاريع الطاقة النظيفة خصوصا في قطاع الكهرباء.
- إعادة تأهيل الكثير من المصانع وبيع الشركات الخاسرة إلى القطاع الخاص بعد إعادة تقييم القيمة المالية.
- إعادة النظر بالتوزيع الوظيفي لملايين العاملين في القطاع الحكومي وفق خطة واضحة للاستفادة من الأيدي العاملة والقضاء على البطالة المقنعة.
- تأسيس شركة النفط الوطنية، وشركات وطنية في قطاع الاتصالات، وتنشيط الواقع المائي والزراعي عبر استغلال المياه الجوفية لزراعة مساحات واسعة، إضافة إلى الكثير من الخطوات التي تمكن الحكومة لتعظيم الواردات وفي مقدمتها وضع إستراتيجية اقتصادية ثابتة تشكل منهاجا واضحا تتعاقب الحكومات على تطبيق فقراته بعد كل دورة انتخابية.
بينما طالب العبيدي، الحكومة بتبني سياسات تحفيزية داعمة للقطاع الخاص متمثلة بسهولة الإجراءات وتقديم حزم مساعدة أيضا عبر عمليات إقراض ميسرة تساهم في تحقيق التعافي السريع للاقتصاد، وتبني مشاريع إستراتيجية قادرة على تحويل قطاعات مهمة مثل الصناعة والزراعة والمصارف والتأمين إلى قطاعات تشكل نسبة جيدة في الناتج المحلي.