طه عبد الرحمن.. مفكر مغربي متصوف غاص في أعماق التراث الإسلامي
في 4 ديسمبر/كانون الأول 2020، كان اللقاء الذي جمع الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمن بمدير المركز الثقافي التركي "يونس إمره" فرع الرباط، معلنا فوزه بجائزة "نجيب فاضل" للثقافة، نسخة 2020 ـ 2021.
وقتها صرح أنصار فرات، مدير المركز، أن جوائز "نجيب فاضل" تُمنح كل عام، تحت رعاية الرئيس رجب طيب أردوغان وبحضوره، بهدف الحفاظ على الميراث المعنوي والثقافي للشاعر والكاتب التركي نجيب فاضل كيصاكوريك".
اختيار عبد الرحمن لتسلم جائزة نجيب فاضل، يأتي من باب "العرفان والتقدير لفيلسوف مشهور في تركيا وعلى مستوى العالم الإسلامي"، وفق مدير المركز، مضيفا أن هذه الجائزة التي تقدمها جريدة ستار (غير حكومية) بشراكة مع وزارة الثقافة التركية، "سيتم قريبا تسليمها بشكل رسمي لعبد الرحمن".
عبد الرحمن، خلال اللقاء الذي جمعه مع مدير معهد يونس إمره، شكر تركيا والقائمين على الجائزة، مؤكدا رغبته في زيارة تركيا قريبا، حال استقرت الظروف الصحية في العالم في ظل انتشار جائحة فيروس كورونا.
"الأخلاق هي الحل"
عبر سنوات من التدريس ومؤلفات عديدة ودراسات ومحاضرات فكرية في المغرب وخارجه، رسم طه عبد الرحمن مشروعا فلسفيا أو رؤية تميزه عن غيره من المفكرين، من خلال الجمع بين "التحليل المنطقي" و"التشقيق اللغوي"، مع الارتكاز على مفاهيم من التراث الإسلامي ونفحة صوفية.
سعى عبد الرحمن إلى فك الارتباط بين الفلسفة ومفهوم الحداثة وبين الفكر الغربي كذلك، ليؤكد أن لكل ثقافة وحضارة فلسفتها وحداثتها الخاصة، وأن الفكر النظري والعمل الأخلاقي وجهان لعملة واحدة، معارضا بذلك الفكر الغربي الحديث الذي يستبعد الأخلاق في شقها العملي.
رفع عبد الرحمن شعار "الأخلاق هي الحل" أو ما سماه في بعض كتبه بـ "روح الدين" و"سؤال العمل"- بـ"العمل التزكوي"، واعتبر أن الازدواجية في الفكر الإسلامي العربي شلت قدرة أهله على الإبداع الفلسفي.
يرى المفكر أن المفاهيم هي المدخل للمعرفة وضبط السلوك المعرفي للإنسان، لذلك طالب بإعادة النظر في كل المفاهيم التي نتلقاها، والاعتماد على مصطلحات وليدة من ثقافتنا، وإبداع المصطلحات والمفاهيم اللازمة لعملية التجديد.
وطالما انتقد نقل الحداثة الغربية للعالم العربي والإسلامي دون ابتكار وتمييز، ودون التفريق بين واقع الأشياء وبين روحها، معتبرا أن الروح تعني في هذا السياق مجموعة القيم ومجموعة المبادئ التي يشكل الواقع تجسيدا لها، وبالتالي فالحاجة لبحث الحداثة كقيم ومبادئ لا كواقع.
لاحظ أن العالم العربي والإسلامي عرف ما سماه بـ"اليقظة الدينية" أو "اليقظة العقدية" منذ أكثر من 3 عقود تحتاج وفقا لما ذكره في كتابه "العمل الديني وتجديد العقل" لـ"سند فكري محرر على شروط المناهج العقلية والمعايير العلمية المستجدة، فلا نكاد نظفر عند أهلها لا بتأطير منهجي محكم، ولا بتنظير علمي منتج، ولا بتبصير فلسفي مؤسس".
يرفض المفكر اعتبار العقل كيانا مستقلا لأنه هو فاعلية الإنسان، وشدد على أهمية وضرورة الربط بين الفاعلية النظرية المجردة (العقل) وبين الشعور الذاتي الداخلي (الإحساس أو القلب) والعمل (التطبيق).
ويسعى الفيلسوف إلى تجديد الفكر الديني الإسلامي لمواجهة التحديات التي تطرحها الحضارة الحديثة، ووضع نظرية أخلاقية إسلامية تفلح في التصدي للتحديات الأخلاقية لهذه الحضارة، بعدما فشلت في ذلك نظريات أخلاقية غير إسلامية أو غير دينية.
التعددية القيمية
يرى الفيلسوف طه عبد الرحمن أن التطابق بين الثقافة والأخلاق لا يصح في المطلق، لكون الثقافة انفصالية والأخلاق تعاونية، إذ يمكن أن تكون الثقافة اتصالا ويمكن أن تكون انفصالا، بخلاف الأخلاق فهي دائما تدعو إلى الخير والتعارف والتعاون.
يعتبر طه عبد الرحمن التعددية القيمية اتجاها ذا تأثير في الفلسفة الأخلاقية والسياسية المعاصرة، ويؤكد هذا الاتجاه مكانة القيم في الحياة الإنسانية، إذ بها تصلح الحياة وتطيب وبدونها تخبث.
وأشار أيضا إلى أن هذه القيم منها الخلقية وغير الخلقية، وتحت هذين القسمين تندرج أصناف مختلفة، مثال القيم الخلقية: المحبة، الصدق، الأمانة، وهي قيم يعود نفعها على الخير. أما القيم غير الخلقية فمنها: النسب، الحسب، الجمال، وهذه يعود نفعها على الذات.
يقول الفيلسوف طه عبد الرحمن: "أهم خاصية يتميز بها هذا الاتجاه، هي القول إن القيم الأساسية التي تنبني عليها الحياة الطيبة - أو الحياة الخيرة - تكون متعارضة أو متنازعة أو قل متصادمة فيما بينها، بحيث لا يمكن رفع هذا التصادم برد هذه القيم بعضها إلى بعض ولا بترجيح بعضها على بعض".
ويعطي عبد الرحمن مثالا على ذلك، بالقول: "تتصادم الحياة مع الحرية متى كانت التضحية بالحياة ثمنا لنيل الحرية، كما تتصادم الحياة مع العدل متى كان التعرض للهلاك وسيلة توصل إلى دفع الظلم".
مضيفا: "وكذلك تتصادم الحرية المطلقة مع المساواة المطلقة، فالواحدة منهما لا يمكن أن تتحقق إلا على حساب الأخرى، فإذن التعددية القيمية تدعي بأن الحياة الطيبة تواجه قيما متعددة متصادمة".
الباحث المتخصص في الفكر الإسلامي المعاصر محمد أحمد الصغير، أنجز دراسة عن "خصائص التجربة العقلية والصوفية من منظور طه عبد الرحمن".
الباحث خلص إلى أن التجربة الروحية في حياة الدكتور طه عبد الرحمن "تمثل منعطفا ذا أهمية قصوى، أدى إلى إحداث تغيير جذري في أفكاره الفلسفية والأخلاقية على السواء".
وقال الباحث: إن التجربة الصوفية "ساهمت في توسع مدارك عبد الرحمن، وانفتاح الكون أمام ذهنه بشكل أكبر، بعد خوضه لغمارها، ليخرج منها بعد ذلك معتمدا على مستودع كبير للكثير من حدوسه المباشرة، وأفكاره البديهية التي بنى عليها نسقه الفلسفي، وأقام مشروعه الفكري".
وبذلك، أسهمت هذه التجربة الصوفية في توسيع مداركه وفك القيود عن فهمه، وكشفت له فضل التجربة الحية على العمل المجرد كفضل العمل على النظر المجرد، وفق الباحث.
"ثغور المرابطة"
في 2018 خصص طه عبد الرحمن كتابا أراد أن يقارب به فلسفيا، التحديات والرهانات التي تواجهها الأمة العربية والإسلامية، ووضع له عنوانا "ثغور المرابطة".
وافتتح كتابه قائلا: "لم أتعود من قبل أن أتكلم في قضايا الساعة كلما استجدت، لأنني لا أتابعها عن كثب، وإنما أحب أن تفصلني عنها فترة من الزمن، حتى أتفكر فيها على مقتضى التأمل الفلسفي المبني على القيم، لا على مقتضى التكهن السياسي المبني على المصالح".
وزاد: "ولكن أحداث الساعة اليوم ليست كغيرها من الأحداث، فالأمتان الإسلامية والعربية تتعرضان اليوم لما لم يتعرض له غيرهما من الأمم، إذ تتعلق هذه الأحداث بوجودهما ووجهتهما ومصيرهما، في عالم قل حياؤه، ومثل هذه القضايا الكيانية توجب تقديم النظر الفلسفي على التحليل السياسي، فواجب الفيلسوف أن يسابق إلى الاشتغال بها، حتى لا تهلك الأمم الإنسانية بما كسبت أياديها".
الباحث السياسي المغربي، بلال التليدي، قال في مقال له بعنوان: "ثغور المرابطة".. أحوال الأمة من زاوية نظر فيلسوف": "ليس من عادة الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمن أن يكتب في السياسة، ولا أن يشتبك مع أحداثها وتحولاتها، فالرجل اعتاد أن يبحر في حقول المعرفة، مؤسسا لمشروع معرفي نقدي يتأسس على نظرية الأخلاق وبحث سؤالها".
وتابع التليدي: "حاول عبد الرحمن أن "يكسر النسق الاشتغالي الذي حكم مساره، مقتحما حقل السياسة، وبشكل أخص، موضوع الأمة في سياق السياسات الدولية والصراعات التي تشق وحدتها، والمحاور التي تنتظمها، على نفس منهجه المعرفي السابق، المتمترس خلف النظرية الائتمانية، محاولا قراءة السياسة وتموجاتها بخلفية المفكر والفيلسوف الذي يصوغ الأحداث بمعادلات وصيغ فكرية".
فيلسوف نابغة
ولد طه عبد الرحمن عام 1944 في مدينة الجديدة بالمغرب، ودرس المرحلة الابتدائية فيها، وانتقل بعدها إلى الدار البيضاء وأكمل دراسته الإعدادية والثانوية فيها.
حصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة محمد الخامس بالعاصمة "الرباط"، ثم أكمل دراسته في جامعة "السوربون" بفرنسا، حيث حصل على درجة الدكتوراه، وحصل على إجازة ثانية في الفلسفة ثم دكتوراه عام 1972 في موضوع "اللغة والفلسفة: رسالة في البنيات اللغوية لمبحث الوجود".
عاد إلى المغرب أستاذا في جامعة "محمد الخامس" بالرباط يدرس المنطق وفلسفة اللغة طيلة 35 عاما (1970 ـ 2005)، وحصل على دكتوراه الدولة عام 1985 بأطروحة تحت عنوان "رسالة في الاستدلال الحجاجي والطبيعي ونماذجه".
هو عضو في "الجمعية العالمية للدراسات الحِجَاجية" وممثلها في المغرب، وعضو في "المركز الأوروبي للحِجَاج"، ورئيس منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين بالمغرب.
وزيادة على العربية والفرنسية والإنجليزية، يتقن عبد الرحمن كلا من الألمانية واللاتينية واليونانية القديمة، وذلك لقراءة أهم النصوص الفلسفية بلغاتها الأصلية.
حصل عبد الرحمن على جائزة المغرب للكتاب مرتين، ثم جائزة "الإسيسكو" في الفكر الإسلامي والفلسفة عام 2006، كما حصل على جائزة محمد السادس للفكر والدراسات الإسلامية في 13 يناير/كانون الثاني 2014.
المصادر
- طه عبد الرحمن
- كتاب «ثغور المرابطة» لطه عبد الرحمن: عن تصارع العرب وتفريطهم في القدس
- طـه عبد الرحمان.. فيلسوف الأخـلاق الذي خـانـه المنطق فـي أرذل العمر
- اختلاف القيم وتقرير التصادم في رأي الفيلسوف طه عبد الرحمن
- خصائص التجربة العقلية والصوفية من منظور طه عبد الرحمن
- تركيا تقرر منح المفكر المغربي طه عبد الرحمن جائزة "نجيب فاضل"
- فيلسوف ومفكر مغربي يلقب بـ"فيلسوف الأخلاق"