بيوت اليمن القديمة.. طراز نادر يساير المناخ ويقاوم الاندثار
من خلال طراز معماري فريد هو الأندر، ونموذج للعمارة هو الأقدم، وتنوع هندسي يشد الناظر ويجذب الزائر، تبدو بيوت اليمن السعيد في حلة من الأناقة كشاهد على التاريخ والعراقة والحضارة.
في الأغلب، فإن الأنماط المعمارية اليمنية والأشكال الهندسية، بقدر ما عبرت عن ثقافة معينة، فإنها جاءت استجابة لحاجة السكان المناخية والأمنية، ففي صنعاء القديمة، وهي المدينة المسالمة التي تعج بالحركة والاقتصاد، بنيت المنازل بنوافذ واسعة، وشبابيك متعددة.
وفي المناطق الوسطى في اليمن والمناطق التي شهدت صراعات متكررة تبنى البيوت بنوافذ صغيرة ومداميك سميكة، تقي الساكنين القذائف، وتدلل على الثقافة الحربية للأهالي في ذات الوقت.
ولأسباب مناخية أيضا، بنيت بعض تلك المنازل من جدران صماء بلا نوافذ في بعض اتجاهاتها، لتمنع تسلل البرد إلى ردهات المنزل في فصل الشتاء.
وفي حين تبنى المنازل في المناطق الباردة من طوب الياجور، وأحجار البازلت الأسود (الحبش) المقاوم للتآكل وعوامل التعرية، كما هو الحال في صنعاء القديمة، تبنى في المناطق الحارة من طوب اللبن العازل للحرارة والممتص للرطوبة.
و"اللبْن"، هو نوع من أنواع القراميد البدائية العازلة للحرارة والممتصة للرطوبة، التي عرفت منذ العصر الحجري، ويصنع من مزيج من تربة معينة تسمى (الطفالية) وهي خليط من الطين والطمي والطين، مع جزيئات قش.
المتحف المفتوح
يعود تاريخ مدينة صنعاء القديمة لعهد سام بن نوح، وتسمى باسمه حتى الآن (مدينة سام)، غير أن أقدم عمارة قائمة الآن في المدينة القديمة تعود للقرن الحادي عشر ميلادي، بعد تهدم البنايات الأقدم، خلال الفترات التاريخية الماضية، في حين يعود تاريخ بناء السور الذي يحيط صنعاء القديمة للقرن الثاني الميلادي، وقد بني بأمر من الملك السبئي شعرم أوتر، وأدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي.
تحوي مدينة صنعاء القديمة حوالي 14 ألف منزل، على مساحة تقدر بـ3700 متر مربع، وشكلت بيوتها المرصوصة معلما فنيا وتاريخيا فريدا، وهو الأمر الذي دفع المؤرخين لإطلاق وصف "المتحف المفتوح" على المدينة الأثرية القديمة.
عندما تتجول في أزقة صنعاء وقبالة حوانيتها، فإن أول ما يشدك هو طرازها المعماري، والنماذج التي بنيت بها تلك البيوت، وكذلك الزخارف التي تزين واجهاتها، بالإضافة إلى الأشكال الهندسية التي تعتلي النوافذ على شكل قباب، يسميها أهل صنعاء (قمريّات)، وهي زخارف من الجبس المطعمة برقائق زجاجية تسمح بمرور أشعة الشمس على شكل خطوط ضوء ملونة تكسر حدة الضوء، وتضفي بهجة على الردهات والغرف.
عبقرية التصميم
بنيت معظم المنازل، وخصوصا في صنعاء القديمة، بطريقة تضمن الحصول على جو معتدل طوال السنة وخلال فصول السنة الأربعة، فغرف النوم وغرف الاستقبال (الدواوين) تبنى في الواجهة الجنوبية للبيت (الجهة العدنية كما يسميها أهل البلد)، لأن الجهة الجنوبية تكون عرضة للشمس طوال النهار في فصل الشتاء، في حين بنيت دورات المياه والمطابخ في الجهة الشمالية، وهي الجهة التي لا تتعرض للشمس في الشتاء، ولا يحتاج المقيم للجلوس فيها لفترة طويلة.
أما في فصل الصيف فتكون الواجهة الشمالية عرضة للشمس، في حين تكون الأقسام الشمالية من المنزل بعيدة من شمس الصيف المحرقة، وذلك يضمن لها اعتدال حرارة الجو، في تقسيم عبقري يعرفه معظم أهل اليمن.
بالنسبة للواجهات، فقد بنيت بطريقة تضمن أكبر قدر من الرحابة والبهجة للمقيم والزائر، فالنوافذ واسعة، والشبابيك متعددة، والجدران مطعمة بالزخارف والـ(قمريات) التي تمرر الضوء وتفرزه لألوان متعددة، يكسر النمطية التي قد يشعر بها الساكن أو المقيم.
الثقافة الصنعانية
"الطيرمانة" هي غرفة علوية تعتلي آخر طابق في المنزل، وتتربع على 4 أعمدة خرسانية، كعرش ملوك حمير، وتعد الطيرمانة خلاصة الثقافة الصنعانية القديمة، وقد بنيت بشكل يضمن الإطلالة على الجهات الأربع بشكل واضح، من خلال نوافذها التي تتوزع في الأربعة الجدران.
للطيرمانة، عدة أسماء، منها "المفرج" أي المكان الذي يحقق "الفُرجة"، وكذلك "المنظرة" أي المكان الذي يمنح الرائي نظرة كاملة لمحيط الحي الواسع.
ولعل هذه الكلمة الأخيرة، وإن كانت عربية فصيحة، إلا أنها استمدت بقاءها ودوام استخدامها من اللغة العثمانية، التي تسمي الإطلالات "منظرة"، وهي الثقافة التي كانت قد استوطنت صنعاء القديمة وبعض المدن اليمنية لعدة عقود.
تعد الطيرمانة مكان استراحة المقيمين، وهي (صالون) استقبال الضيوف، حيث يتم قضاء ساعات الزيارة فيها، وتحظى بإعجاب الزوار، وكلما كانت الطيرمانة أقدر على توفير الراحة والإطلالة الواسعة، كانت أشهر وأكثر ذكرا على ألسنة العامة والخاصة.
مدينة "سبأ"
ذلك النمط المعماري الفريد في العمارة اليمنية، والصنعانية على وجه الخصوص، دفع المستثمرين في دبي لبناء مدينة كاملة على هلال جزيرة النخلة في إمارة دبي، وتم تسمية المدينة "سبأ"، وهو اسم الحضارة اليمنية القديمة.
وتحوي مدينة "سبأ" في إمارة دبي في الإمارات العربية المتحدة وحدات سكنية مطلة على الشواطئ الرملية البيضاء، بالإضافة إلى المتاجر والمطاعم وأماكن الترفيه، والنوادي الصحية والرياضية، وتدور الشائعات حول ملكية أحمد علي سفير اليمن في الإمارات ونجل الرئيس السابق صالح لهذه المدينة، غير أن هذه المعلومات غير مؤكدة.
ويحسب للعمارة اليمنية، أنها استطاعت أن تحافظ على نمطها القديم، مع القدرة على التجديد المنضبط في تقسيماتها وهندستها المعمارية في المباني الحديثة.
تهديدات ومخاطر
ورغم القيمة التاريخية التي تمثلها المدينة القديمة، إلا أنها تتعرض لتهديدات وأخطار، جراء عدة عوامل، منها إهمال سلطات الحوثي المسيطرة على صنعاء لترميم المباني التاريخية.
وتسببت الأمطار الحالية في تهدم عدد من البيوت في أحياء صنعاء القديمة، ففي 5 أغسطس/آب الجاري تهدم منزلان في أحياء صنعاء القديمة بشكل جزئي.
مدينة سام، واحدة من أقدم مدن العالم تتفلت من بين أيدينا.
— د. محمد جميح (@MJumeh) August 5, 2020
انهيار مبنى تاريخي في صنعاء القديمة بفعل الأمطار.
دعونا نفكر في حملة وهاشتاغ يبلغ العالم، لإنقاذ تراثنا الحضاري المهدد في صنعاء وغيرها من مدننا التاريخية.#انقذوا_تراث_اليمن_الحضاري@UNESCOarabic @UNESCO @UNESCO_GCCYemen pic.twitter.com/r0I4xvaAe5
إضافة إلى ذلك، فإن عددا من الأهالي في صنعاء القديمة يقومون بأعمال بناء حديث على أنقاض البنايات القديمة، والبعض الآخر يقوم بهدم منزله القديم رغبة منه في التوسع وبناء منزل جديد، وهو الأمر الذي يشكل تهديدا في انحسار البيوت التاريخية، وتقلص المدينة القديمة.
وبسبب الإهمال والتراخي في ترميم المنازل المتهالكة أو الآيلة للسقوط، وكذلك بسبب بناء بيوت حديثة، هددت منظمة اليونسكو في فبراير/شباط 2018 بشطب مدينة صنعاء القديمة من قائمة التراث العالمي، ومنحت السلطات القائمة على المدينة مهلة مدتها عامان لتدارك الوضع وتلافي شطبها.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن تحالف الرياض أبوظبي كان أحد التهديدات الذي شكل خطرا على مدينة صنعاء القديمة، حيث نفذت طائرات للتحالف غارات على منازل في صنعاء القديمة، بناء على معلومات أتتها بأن الحوثيين يقومون بتخزين أسلحة في تلك المنازل، أو لمعلومات أفادت بأن عددا من تلك المنازل تضم قيادات حوثية يعدون هدفا عسكريا للتحالف.
وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد أصدرت بيانا أدانت فيه التحالف بقيادة السعودية لاستهدافه منازل في أحياء سكنية في صنعاء القديمة، بغارات غير قانونية.
"مانهاتن الصحراء"
النمط المعماري في المدن الشمالية يختلف عن النمط المعماري في المدن الجنوبية والشرقية، فالمدن الشمالية مناطق باردة، وبالتالي فقد فرض المناخ منطقا معينا في بناء المنازل والبيوت، بشكل يضمن لساكنيها اعتدال الجو.
أما في المناطق الحارة في الجنوب والشرق، فلها نمط مختلف، وهو قديم وضارب في التاريخ، وتعد مدينة شبام التاريخية، التي تقع في مدينة سيئون، وتبعد عن صنعاء نحو 1000 كيلو متر، نموذجا لتلك العمارة، فهي الأكثر شهرة بمبانيها التي عرفت بأنها أقدم ناطحات سحاب في التاريخ، حيث كانت مبانيها هي الأسبق في بناء الأدوار العلوية بشكل رأسي.
يعود تاريخ هذه المباني التي تصل لنحو 500 ناطحة سحاب، إلى القرن الخامس عشر ميلادي، أي إلى قبل أكثر من 500 عام، وقد تم تشييدها من طوب اللبن وجذوع النخل، وبنيت بما يتناسب مع حرارة الجو، الذي عرفت به، والتي تصل حرارة الصيف فيها إلى نحو 45 درجة مئوية.
في ثلاثينيات القرن الماضي، أطلق عليها الرحالة والمستشرقة البريطانية فريا مادلين ستارك، لقب "مانهاتن الصحراء"، نظرا لمبانيها الشاهقة، التي تصل لنحو 24 مترا، في وقت لم يكن العالم يعرف هذا العدد من الأدوار قبل 600 عام، وفي عام 1982 سجلتها منظمة اليونسكو على قائمة التراث العالمي.
ومع أن المدينة تشهد درجة حرارة عالية في الصيف، إلا أن هذه المنازل التي بنيت من طوب اللبن تعزل الحرارة التي في الخارج، بالإضافة إلى إنشاء فتحات تهوية مثلت مكيفات طبيعية يتدفق منها تيار هواء بارد، ولهذا سميت بمدينة "شبام"، والتي تعني في العربية الفصيحة "البارد"، ووردت في قول المتنبي: واحر قلباه ممن قلبه شبمٌ.
المصادر
- صنعاء القديمة.. الإهمال قد يخرجها من قائمة التراث العالمي
- اليمن يحظر البناء في "صنعاء القديمة" لمدة عام
- مدينة صنعاء القديمة
- معرض صور لروائع الفن المعماري اليمني في متحف بيرغامون بألمانيا
- صنعاء القديمة .. عبق التاريخ وزهرة الحاضر
- اليمن.. هيئة المعالم التاريخية تدعو اليونيسكو لإنقاذ صنعاء القديمة
- "شبام"...أول مدينة لناطحات السحاب في العالم العربي
- شبام: مدينة الطين المتقدمة بيئياً