أحمد سعيد.. مذيع النكسة ورائد مدرسة قلب الحقائق في مصر

أحمد يحيى | 4 years ago

12

طباعة

مشاركة

"العلاقة بين القوات المسلحة والإذاعة هي علاقة آمرة، كأننا جند في المعركة، حيث يتم إصدار بيانات تملى على الإعلامي ويلتزم بإذاعتها، وتنفيذ أي تعليمات قد تكون مخالفة لأي واقع"، هكذا صاغ الإعلامي المصري أحمد سعيد، واقع الإعلام المصري عبر سنوات طويلة، بين الأمس واليوم.

ومع حلول ذكرى نكسة 5 يونيو/ حزيران 1967، التي منيت فيها مصر بأثقل هزيمة عسكرية في تاريخها، فقدت معها أرض سيناء، لا ينسى المصريون صوت أحمد سعيد، وهو يزف أنباء الانتصار على العدو في المذياع، بينما كانت القوات المصرية تتكبد خسائر فادحة على الأرض، لتستفيق الجماهير على حقيقة مروعة، ويرتبط اسم سعيد في العقل الجمعي المصري بـ "مذيع النكسة".

أصبح سعيد هو رائد مدرسة قلب الحقائق، والترويج للأباطيل، بدعوى الحفاظ على النظام الحاكم والدولة المصرية من التفكك، هذه المدرسة التي مازالت مستمرة في أروقة الإعلام، منذ الحقبة الناصرية، وحتى اليوم.

"صوت العرب"

ولد أحمد سعيد يوم 29 أغسطس/آب 1925، تخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1946، ثم عُين مذيعا رئيسيا في إذاعة القاهرة، ثم مديرا لإذاعة "صوت العرب" عند تأسيسها عام 1953، وحتى عام 1967، كما عمل محررا صحفيا في عدد من المجلات القاهرية.

اشتهر خلال فترة عمله، بالتجديد من أساليب العمل الإذاعي بإذاعة صوت العرب، وأدخل التعبيرات السياسية الساخرة في برنامجه الشهير "هذا عدوك" و"أكاذيب تكشف حقائق".

اختاره مجلس الأمة (البرلمان) عام 1965 عضوا في الوفد الذي يمثل المجلس في احتفالات بريطانيا بمناسبة مرور 700 عام على بدء الحياة الديمقراطية في الجزر البريطانية.

اعترض مجلس العموم البريطاني، على وجود سعيد ضمن أعضاء الوفد، بحجة دعوته لقتل الجنود البريطانيين في عدن، ليرفض عبد الناصر الطلب البريطاني، وكادت أن تحدث أزمة، لولا تدخل رئيس الوزراء هارولد ويلسون.

كتب أحمد سعيد للمسرح عمل "الشبعانين" عام 1966، وقدم للإذاعة مسلسل "في بيتنا رجل"، والمأخوذ عن فيلم سينمائي بالاسم نفسه، ووضع الصياغة النهائية لكتاب "القومية العربية"، وكتب برنامجا لإحدى الإذاعات العربية عن هجرة "نبي الإسلام" أوضح من خلاله مجموعة من الأفكار السياسية المتعلقة بالنظام الناصري.

بوق الناصرية

التزم أحمد سعيد بأفكار عبد الناصر والقومية، وآمن به كقائد لكل العرب، وأشار أن كل من يمشي على درب الرئيس عبد الناصر القومي والتحرري ما زال مرغوبا ومطلوبا عربيا من المحيط إلى الخليج.

عند تأسيس إذاعة صوت العرب لم يستطع الشاعر صالح جودت، قيادتها وتأدية الغرض التي أنشئت من أجله بأن تكون أداة للسياسة الناصرية ومنبرا لحركات التحرر العربية، المدعومة من مصر.

كان المطلوب شخصية إذاعية تبث الحماس الوطني والقومي في قلوب المستمعين، ولم يف جودت بالغرض لطبيعته الهادئة، ووقع الاختيار على أحمد سعيد، الذي تمكن من تحقيق هدف إنشاء إذاعة صوت العرب في إثارة الحماس وتحريض وتعبئة الجماهير العربية.

سرعان ما صعد نجم سعيد حتى بلغت شهرته الآفاق، ,كان من يشتري مذياعا يسأل أولا "هل يذيع أحمد سعيد أم لا!"، وفي بعض الحالات كانوا يطلقون اسم "صندوق أحمد سعيد" على المذياع عند طلب شرائه.

كان سعيد نموذجا لأجهزة الإعلام الناصرية، التي أصبحت ذات تأثير كبير حيث ارتفع بث إذاعة "صوت العرب" من نصف ساعة فقط إلى 24 ساعة يوميا ولم يكن ذلك غريبا، بعدما لعبت الإذاعة دورا في دعم ثورة المغرب ومن ثم إشعال ثورة الجزائر، حتى صياغة بيانها الأول.

لشدة إعجاب سعيد، بعبد الناصر، ألف كتابا عن الناصرية، وصف فيه جمال عبد الناصر بـ"باعث القومية العربية"، مشبها إياه بجمال الدين الأفغاني الذى يوصف بأنه باعث حركة الإحياء الإسلامي.

استمر سعيد 14 عاما، في قيادة صوت العرب بداية من تأسيسها في 4 تموز/ يوليو 1953. ولخص سياسته بأنها "تشبه العمليات الإعلامية، أيا كان مضمونها نبيلا أو أثيما.. صوت سل سيف من غمده وسط ظلمة غاشية، لا يدرك معها أحد ما وراء إشهار السيف".

يوم النكسة

لا ينسى المصريون صوت سعيد في مثل هذا اليوم عام 1967، وهو يتلو بفخر عبر الإذاعة بيانات تحدثت عن إسقاط عشرات الطائرات وتدمير مئات المعدات الإسرائيلية، بينما كانت الإذاعات العالمية تتحدث عن هزيمة مدوية للقوات المصرية والسورية، وسقوط سيناء بيد إسرائيل.

كان سعيد يقول بكل حماسة وفخر: إن "قواتنا الآن أسقطت من طائرات العدو كذا وكذا، وأننا أصبحنا على مشارف تل أبيب وقد أوشكنا أن نلقي إسرائيل في البحر". 

لم يخفت صوت أحمد سعيد، إلا حينما خرج عبد الناصر، ليعلن عن الهزيمة، وأنه سوف يتنحى ويعود إلى صفوف الجماهير. وقتها أبعد سعيد عن منصبه رئيسا للإذاعة، وحُمل وحده خزي البيانات الكاذبة، حين أطلق عليه لقب "مذيع النكسة".

حاول سعيد الدفاع عن موقفه حين قال في إحدى اللقاءات: "لا تستطيع أي صحيفة أو إذاعة أو قناة تليفزيونية عندما يأتي إليها بيان من أي وزير في الدولة وهي في حالة حرب أن تمتنع عن نشره".

وبعد الهزيمة المدوية، حدثت مجموعة من المتغيرات في توجهات الإذاعة المصرية وسياساتها الإعلامية، وهو ما لم ينسجم معه أحمد سعيد الذي أصر على أسلوبه التقليدي في حشد الجماهير والتأثير عليهم، لذا طُلب منه أن يأخذ إجازة مفتوحة، رد عليها باستقالة حادة النبرة، قبلها محمد فايق وزير الإعلام في سبتمبر/ أيلول 1967.

ومن عجائب القدر أن يموت أحمد سعيد عشية يوم 5 يونيو/ حزيران 2018، بعد 51 عاما من ذكرى النكسة.

نموذج للدعاية الناصرية خلال نكسة 67

"بيزة وملص"

من أشهر سقطات سعيد، وأكثرها طرافة، ما حدث في أواخر خمسينيات القرن الماضي، عندما بدأت إذاعة "صوت العرب" استخدام اللغة الجارحة والتعابير الخارجة ضد الحكام الذين لا تتوافق آراؤهم مع عبد الناصر مثلما حدث من صدام بين عبد الناصر، ورئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم.

كانت بغداد في ذلك الوقت تنقسم إلى معسكرين، معسكر القوى الشعبية والماركسية الملتف حول قاسم، ومعسكر القوى القومية والبعثية شديد الولاء لأفكار عبد الناصر وأحلام الوحدة العربية، حتى أن سفير العراق في القاهرة (آنذاك) فائق السامرائي تمرد على حكومة بغداد، وطلب حق اللجوء في مصر.

اشتد هجوم سعيد على النظام العراقي، وكال السباب بشكل شبه يومي لعبد الكريم قاسم، داعيا العراقيين للقيام بثورة عليه وعلى معسكره.

بعدما ضاق قاسم وأنصاره ذرعا، بهجوم سعيد عبر إذاعة صوت العرب، لجؤوا إلى حيلة مفادها تسريب خبر إلى سعيد، بأن النظام العراقي اعتقل رجلا يسمى "عباس بيزة" وامرأة تدعى "حسنة ملص"، لكونهما من المناضلين، وكانت الحقيقة عكس ذلك، وهي أن "بيزة" كان يعمل قوادا، بينما "ملص" كانت تعمل بالبغاء، وكانا ذائعي الصيت في ذلك الوقت.

وهو الفخ الذي ابتلعه سعيد بسهولة، ولم يتحقق من دقة المعلومات، ليستيقظ أهل العراق صبيحة أحد الأيام على صوت سعيد المجلجل، وهو يصرخ عبر إذاعة صوت العرب، ويقول: " إذا ماتت حسنة ملص فكلنا حسنة ملص.. كلنا عباس بيزة من المحيط إلى الخليج"، لتصبح تلك الحادثة مثارا للسخرية عند الشعب العراقي، ويفقدون ثقتهم بمصداقية الإذاعة  العربية الأشهر آنذاك. 

مدرسة رائدة!

رغم انقضاء أعوام على النكسة، ووفاة أحمد سعيد، لكنه ظل رمزا لمدرسة الإعلام السلطوي، الداعم للنظام تحت أي ظرف، ولو في معرض هزيمة مدوية كنكسة 1967.

غاب سعيد وبقيت مدرسته مستمرة، ومع الانقلاب العسكري في يوليو/ تموز 2013، أحيا السيسي مدرسة سعيد مرة أخرى، لكن هذه المرة عبر الفضائيات الخاصة والقنوات التابعة لأجهزة المخابرات، التي يحركها مجموعة من الضباط من وراء ستار. 

أذرع نظام السيسي الإعلامية أحيت منهاج سعيد في حملتها ضد المعارضين، واتهامهم بالتخوين، والتحريض عليهم، وشن هجوم على الدول الرافضة للانقلاب، وكما كان يفعل أحمد سعيد مع حكومة عبد الكريم قاسم في العراق، وعاهل السعودية الملك فيصل، يفعل إعلام السيسي الآن مع دول عربية مثل قطر وتركيا الرافضة لسياساته.