صائب عريقات.. "شيطان مفاوضات" أوصل فلسطين إلى صفقة القرن

خالد كريزم | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

"توفي لـ3 دقائق و20 ثانية"، أثناء إجرائه عملية جراحية لزراعة الرئة في 2019، لكنه عاد بأعجوبة إلى الحياة، ليكمل مسيرة نحو 30 سنة من المفاوضات البائسة مع "إسرائيل".

تلك الدقائق القليلة، دفعت أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، للتيقن بأن "هناك حياة بعد الموت"، لكن أكثر من ربع قرن من المفاوضات الميتة لم تجعله يوقن بعبثية التفاوض، كما يقول فلسطينيون.

فبعد هذه السنوات الطويلة، ما يزال "شيطان المفاوضات" كما أطلق عليه الرئيس الراحل ياسر عرفات، متمسكا بالمفاوضات للوصول إلى خيار "حل الدولتين" (طرح بعد هزيمة العرب في 1967)، الذي ولد ميتا بفعل الرفض وعدم الاكتراث الإسرائيلي.

كما أطلق عليه عرفات لقب "شيطان أريحا" التي ولد وما زال يعيش فيها، في إشارة إلى قدراته العالية على المناورة وإتقان أصول اللعبة السياسية، رغم أنه عجز عن تحقيق أي إنجاز يذكر يوصل القضية الفلسطينية إلى بر الأمان، حتى جاء زمن "صفقة القرن" المزعومة.

صفقة القرن

التمسك بخيار حل الدولتين ومن بعده السلطة الفلسطينية التي ولدت بفعل اتفاقية أوسلو 1993، لم يتزعزع من وجهة نظر عريقات، رغم إعلان واشنطن عن "صفقة القرن" المزعومة التي تسلب الحقوق الفلسطينية في القدس والأرض والعودة.

يقول عريقات عن حل السلطة كسيناريو مطروح للرد على صفقة القرن: "السلطة ولدت باتفاق تعاقدي بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية لنقل الشعب الفلسطيني من الاحتلال إلى الاستقلال"، وهو الأمر الذي لم يتحقق حتى اليوم.

وارتبطت ولادة السلطة وتشكيلها في 1994 مع بزوغ نجم صائب عريقات الذي عُيِّن في العام نفسه رئيسا للوفد الفلسطيني المفاوض، وأضحى كبير المفاوضين عام 1995، وكان أحد المقربين من ياسر عرفات إبان اجتماعات كامب ديفيد عام 2000 ومفاوضات طابا عام 2001.

وفي الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة في الأول من فبراير/شباط الجاري، كان لافتا أن الوضع الصحي لرئيس السلطة عباس في حال من التدهور، وكان مرتبكا أثناء إلقاء الخطاب، ولاحظ من تابعوا هذا الخطاب أن عريقات يلقنه بعض فقراته وأنه يعتمد عليه كذراعه الأيمن منذ سنوات.

كما ظهر عريقات في 11 فبراير/شباط الجاري، كمترجم لعباس في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت في نيويورك عقداه على هامش اجتماع مجلس الأمن في نيويورك لمناقشة صفقة القرن، حيث أكد الطرفان ضرورة العودة لطاولة المفاوضات بناء على حل الدولتين.

ونهاية يناير/كانون الثاني الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في مؤتمر صحفي بواشنطن "صفقة القرن" المزعومة، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وتتضمن الخطة التي رفضتها السلطة الفلسطينية، إقامة دولة فلسطينية في صورة أرخبيل تربطه جسور وأنفاق، وجعل مدينة القدس عاصمة غير مقسمة لإسرائيل. 

تاريخ تفاوضي

يلازم عريقات رئيس السلطة في كل محطاته السياسية، ففي سنة 2009 عينه محمود عباس رئيسا للوفد الفلسطيني المفاوض مع "إسرائيل"، وكان الحاضر الدائم في المفاوضات سرا وعلانية.

قبل ذلك التعيين، كان عريقات نائبا لرئيس الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد عام 1991 وما تلاه من مباحثات في واشنطن خلال عامي 1992 و1993، وبقي مفاوضا بعدها في جميع مراحل التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي.

تأثرت سمعة عريقات ومساره السياسي بسبب إيمانه بالمفاوضات وسيلة وحيدة لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وحاول مبكرا تجسيد ذلك بدعوته عام 1982 للحوار بين الأكاديميين الفلسطينيين والإسرائيليين، وافتتاحه عام 1983 برنامجا للتبادل الأكاديمي.

ولتوافق رؤية عريقات مع منهج عباس، رفض الأخير رحيله عن المسار التفاوضي وتمسك به، حيث أعلن كبير المفاوضين في فبراير/شباط 2011، استقالته من منصب رئيس دائرة المفاوضات الفلسطينية، لكنه ما لبث أن تراجع عن استقالته.

وجاءت الاستقالة بعد تحقيق السلطة الفلسطينية في قضية تسريب وثائق المفاوضات التي أظهرت تنازل السلطة عن المطالب بإزالة كل المستوطنات الإسرائيلية في شرق القدس المحتلة باستثناء مستوطنة واحدة، وأبدت استعدادها لتقديم تنازلات غير مسبوقة في الحرم الشريف وحييْ الأرمن والشيخ جراح.

لجأ عريقات إلى الخطوة ذاتها في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2013، خلال مفاوضات السلام مع الإسرائيليين برعاية أمريكية، والتي بدأت في أغسطس/آب من العام ذاته، لكن عباس رفض الاستقالة وطلب منه مواصلة مهمته، فامتثل.

كما قدم عريقات استقالته من حكومة محمود عباس في 2003، احتجاجا على عدم ضمه إلى الوفد الذي كان سيقابل وقتها رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، لكن ياسر عرفات دفعه أيضا إلى سحب الاستقالة، وهو ما قد يمكن أن يلفت النظر إلى أسباب التمسك به.

من هو؟

ولد صائب محمد صالح عريقات يوم 28 أبريل/نيسان 1955 في أريحا بالضفة الغربية، وهو السادس بين سبعة أطفال من أسرة تنحدر من بلدة أبو ديس، إحدى البلدات القريبة من القدس، والتي تقول واشنطن إنها قد تكون العاصمة الفلسطينية المزعومة بموجب ما تسمى "صفقة القرن".

تلقى تعليمه الأساسي بمدينة أريحا، ودرس العلوم السياسية في جامعة "سان فرانسيسكو" الحكومية وحصل على درجة الماجستير فيها عام 1979، ثم التحق بعد فترة بجامعة "برادفورد" البريطانية وحصل على درجة الدكتوراة في دراسات السلام عام 1983.

عمل محاضرا في جامعة النجاح الفلسطينية عام 1979، كما عمل صحفيا في جريدة القدس لمدة 12 سنة، وكان أول وزير للحكم المحلي 1994، في أول حكومة تشكلها السلطة الوطنية بقيادة ياسر عرفات.

انتخب عضوا في المجلس التشريعي الفلسطيني عام 1996 ممثلا عن أريحا، واحتفظ بمقعده في المجلس التشريعي في الانتخابات البرلمانية عام 2006، التي اكتسحتها حركة المقاومة الإسلامية حماس، حيث لم تستطع الحركة منافسته في مدينته.

في سنة 2006 انتخب عضوا في اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وهي أعلى هيئة قيادية في الحركة، ثم اختير بالتوافق في نهاية 2009 عضوا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.

يوري سافير، كبير المفاوضين الإسرائيليين سابقا في اتفاقات أوسلو للسلام، عرف عريقات منذ عام 1994، يقول: إن "صائب رجل سلام لامع وشجاع، معتدل للغاية، مع كل نقده الطبيعي للاحتلال، لا أعتقد أنه حيوان سياسي، بل انتهى الأمر به إلى دور قيادي رفيع لأن مواهبه الخاصة كانت ضرورية للفريق".

ونقلت "لوس أنجليس تايمز" عن سافير قوله في 2017: "في هدية غير عادية للمفاوضات، كان عريقات يمتلك قدرة غريبة على صياغة الخطوط الدقيقة اللازمة للوثائق القانونية - وهذا أمر لا يعلى عليه - بجانب قدرته النادرة للغاية على تمثيل زعيمه آنذاك ياسر عرفات".

خلافه مع عباس

في 2014، نشرت مواقع فلسطينية تسجيلا صوتيا لعريقات يتضمن هجوما على سياسات الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مفاوضاته مع إسرائيل.

ووفق التسجيل الصوتي المنسوب له، قال عريقات: "عباس بلغ 79 سنة، شو بده (كم يريد أن) يعيش، فليأخذ موقف ويحمي المشروع الوطني الفلسطيني فقط لا غير، عباس في يده كل شيء".

وأضاف: "يا أبو مازن بدك تحرك نتنياهو، وقع على وثائق المؤسسات الدولية... قال (عباس) أنا التزمت. التزمت في ايش، هذه مش مزرعة أبوك، هذا وطن، هذه فلسطين. هذه أكبر من الأشخاص.. ما رد علي. قدمت استقالتي مرتين".

ومضى عريقات في "التسجيل المسرب": "نتنياهو مش معطيكم شيء. قال إن القدس عاصمة لإسرائيل والخليل موجودة عندهم. أبو مازن غلطان... هذا نتنياهو ليش نازل مفاوضات عشوائية، علشان يبني مستوطنات أكثر".

وتابع: "محمود عباس أعادنا قرن إلى الوراء، بينما الشهيد عرفات برغم اختلافي معه على انتشار الفساد الإداري والمالي وإحاطته ببطانة انتهازية والسماح لكل من هب ودب بالحصول على رتبة عسكرية ومنصب مدير عام لكنه كان قادرا على إبقاء جذوة القضية الفلسطينية مشتعلة".

وأضاف عريقات في التسجيل: "منذ وفاة الراحل عرفات قبل 10 سنوات ونحن نتقهقر إلى الوراء، فقر وضعف وغلاء وتقهقر، القضية الفلسطينية بما تحمله من مسؤولية تاريخية وإرث دام تحتاج إلى قائد متحدث ملهم محرك لقدرات وطاقات شعبه".

ووقتها، اعترف كبير المفاوضين الفلسطينيين بفشل 18 عاما من المفاوضات مع الكيان الإسرائيلي، لكنه ما زال مصرا على أن "الحياة مفاوضات".

الحياة مفاوضات

ألف صائب عريقات عدة كتب، منها: "الحياة مفاوضات"، صدر عام 2008، وكتاب "بين علي وروجز" صدر عام 2014، يقارن فيه بين عناصر التفاوض السبعة التي حددها عالم المفاوضات الأميركي روجز فيشر وعناصر التفاوض عند الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ورغم تفاوضه مع "إسرائيل" لنحو 30 سنة، يقول عريقات في لقاء مطول مع الجزيرة: "كل حصيلة المفاوضات لم تتجاوز 6 أشهر خلال الـ25 سنة الماضية، وكل مرة كانت إسرائيل تعطلها. المفاوضات ليست هدفا بحد ذاتها، بل هي الأداة التي تستخدمها الأطراف المتصارعة للوصول إلى حل".

أما عن كتابه "الحياة مفاوضات"، فيقول: إنه "لم يتضمن كلمة واحدة عن الصراع الفلسطيني والمفاوضات مع إسرائيل"، مضيفا: "كتبت نظرية أن الحياة هي ما بين العقل والشفتين وهي بحدود 20 سم، لذلك، الحياة مفاوضات وأقصد بذلك: ما يجري من مفاوضات بينك وبين نفسك".

يقول عريقات في كتابه: "إذا كانت الصراعات حتمية وجزء من حياتنا اليومية، فإن المفاوضات أيضا حتمية وجزء من حياتنا"، مبينا أن هذا الكتاب مخصص لتبيان العوامل المشتركة للسلوك التفاوضي الإنساني.

ويرى أن المفاوضات ليست عيبا أو تنازلا أو خيانة أو ضعفا، "بل على العكس فهي الطريق لاستثمار التضحيات والبطولات والصمود والوفاء لها وترجمتها إلى حقائق على الأرض، تبنى من خلالها المؤسسات وترسى على نتائجها أسس الشفافية والحكم والمصالح".

لكن جزءا كبيرا من الفلسطينيين يختلف مع عريقات وينادي بالمقاومة الشعبية والمسلحة على حد سواء، كسبيل وحيد لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على الأراضي الفلسطينية منذ 1948، خاصة بعد انهيار المفاوضات منذ 2014، نتيجة لاستمرار تل أبيب بالتوسع الاستيطاني.

بل إن صحيفة الغارديان، نشرت تقريرا عن الرجل في 2011 قالت فيه: "أخبر عريقات المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين خلال المفاوضات الأخيرة بشعوره أن بناته يشعرن بالخزي منه، وأن زوجته رأته ضعيفا بسبب فشل الفلسطينيين في تحقيق تقدم ملموس نحو الحرية والاستقلال".