ثلاثون مليون دولار ثمن دكان في القدس
نعم، لقد قرأتَ الرقم بشكل صحيح، ثلاثون مليون دولار أمريكي عرضت على المقدسي عماد أبو خديجة لبيع دكانه في القدس، جاءته ثلاثة عروض لهذا الدكان، أولها كان بأربعة وعشرين مليون دولار، والثاني جاء بثلاثين مليون دولار، والثالث كان بواحد وثلاثين مليون دولار. ثمن دكان في القدس واحد وثلاثون مليون دولار أمريكي، عرضها بعض المستثمرين الإسرائيليين على هذا المواطن المقدسي بعد أن عمل لتوسعة وحفر المكان رويدا رويدا مدة ثلاثين عاما كاملة.
بمعنى أن الاحتلال أعطاه مليون دولار عن كل سنة عمل فيها على تهيئة وتوسعة هذا الدكان المتميز القريب من المسجد الأقصى المبارك، وكان هذا الاحتلال يظن أن هذا المقدسي سيقوم بكل بساطة بالتخلي عن هذا العمل وعن الدكان ليأخذ واحدا وثلاثين مليون دولارا ويهاجر بها ليشتري جزيرة ما في المحيط ويعيش حياته سعيدا بين النخيل والرمال وشراب جوز الهند.
لكن المفاجأة كانت أن أبو خديجة ركل هذه الأموال كلها بقدمه قائلا: "إن هذا المحل لأهل القدس وليس لي، وكيف لي أن أبيع ما ليس لي؟".
تابعت الفيديو الذي انتشر للقاء يتحدث فيه عماد أبو خديجة عن محله ويعرضه فيه سعيدا بهذا الإنجاز الذي عمل عليه ثلاثين سنة كاملة ليتم توسعة المحل وتهيئته بشكله الحالي، ويتكلم فيه بكلام مؤثر وبليغ في بساطته وحسن تعبيره عن سبب رفضه بيع هذا الدكان، وهو سبب بسيط جدا: (هذا المحل ليس لي، بل هو وقف لأهل القدس).
هذه المعادلة لا يفهمها الاحتلال برغم تكررها معه أكثر من مرة في هذه المدينة المقدسة، فقبل أكثر من خمسة وعشرين عاما، عرض أحد الوزراء الإسرائيليية شيكا مفتوحا على الحاج المقدسي موسى الخالص، وذلك ثمنا لدكان صغير لا يتجاوز مترين ونصف تقريبا، ولا يتميز إلا بقربه من المسجد الأقصى المبارك، فرفض الحاج وطلب منه بالمقابل ورقة بالموافقة على تسليم ذلك الدكان للاحتلال، على أن تكون ممهورة بإمضاء جميع المسلمين على وجه الأرض، وبذلك يمكنه استلام الدكان مجانا.
كان سِنّي لا يتجاوز عشرين عاما عندما حدثني الحاج موسى بهذه القصة أثناء توثيقي لها، وكان سِنُّه في ذلك الوقت يبلغ مائة وعشر سنين، ومن حسن الحظ أن المخرج الفلسطيني إياد الداود كان قد وثق تلك القصة في فيلم وثائقي حول مدينة القدس في تسعينات القرن الماضي، وإلا لكانت القصة قد ضاعت بين ركام مئات قصص الصمود والرفض الفلسطيني لبيع أي شبر في القدس، التي لا يحفل بها الإعلام في العادة.
بينما لا يتم تسليط الضوء في العادة على هذه الصور المشرقة، نجد الإعلام في كثير من الأحيان يسلط الضوء على حادثة مناقضة، حين يتم تسريب بيت ما للاحتلال عن طريق البيع أوالسمسرة التي يقوم بها بعض ضعاف النفوس. ومن ذلك ما بات يسمى (بيت شارون) الذي سربه سمسار ذو سحنة عربية للأسف للإرهابي أرئيل شارون في نهايات ثمانينيات القرن الماضي.
هنا يتوقف الإعلام عن التغطية، ولا يخبرك أن ذلك السمسار مات بعد هذا الحدث بسنة واحدة فقط –مِيتة طبيعية– ولم يجد أحدا يقبل الصلاة عليه في المسجد الأقصى المبارك، بل أُغلقت أبواب الأقصى في وجه جنازته يومها. ولم يخبرك الإعلام كذلك عن غيره ممن سرّب بيتا للاحتلال قبل شهور وهرب فورا خارج فلسطين خوفا من غضبة الشارع الفلسطيني.
كثيرا ما يحدثني بعض الأصدقاء من عدد من الدول العربية والإسلامية عن الدعاية التي كانوا يسمعونها في صغرهم وهي أن "الفلسطينيين باعوا أرضهم"، ويخبرونني كيف أنهم كانوا يؤمنون بصحة هذه العبارة حتى اكتشفوا بعد أن تقدم بهم العمر أنهم كانوا أمام كذبة كبيرة لا أساس لها إلا الدعاية الصهيونية التي صنعت هذه الفكرة ونشرتها في كل مكان بمساهمة عربية وإسلامية للأسف.
ولكن الندم لا يكفي، وإنما الواجب هو نشر الفكرة الصواب، وهي أن الفلسطيني اليوم في القدس تعرض عليه ملايين الدولارات فيأبى أن يبيع بيته أو يسلم جزءا منه للاحتلال ببريق الذهب والفضة.
ثلاثون مليون دولار كفيلة بأن تقلب حياة أي إنسان رأسا على عقب، وتجعل منه VIP في غمضة عين، يتسابق الكثيرون لخدمته ويتمنون رضاه، لكنها لم تكن كافية لتُشعِر عماد أبو خديجة بالرضا، فمعنى الرضا في نفس هذا المقدسي هو أن يعود إلى بيته آخر النهار متعبا من العمل في محله، ولكنه يبقى مرفوع الرأس بما قدَّم للقدس في ذلك اليوم. وهذا أمر لا يمكن الحصول عليه بثلاثين مليون دولار ولا بأضعافها، بل تحصل عليه بتسجيل موقفٍ للتاريخ.