الألاعيب الصهيونية لاغتصاب كل فلسطين في ثلاثة قرون
في القرن التاسع عشر تبلور المشروع وفي القرن العشرين تجسد في إسرائيل واشتبك مع الواقع وفي القرن الحادي والعشرين طمح إلى صفقة القرن.
اتضح أن مخطط اغتصاب كل فلسطين كان معدا منذ القرن التاسع عشر وأن محطات المشروع الصهيوني استخدمت ألاعيب التدليس على العرب وعلى غير الأوروبيين، وأن هذا المشروع كان جزءا من المشروع الاستعماري الغربي للهيمنة على منطقتنا واستغلال خيراتها واستعباد سكانها.
وفي هذا المناخ الذي وفرته الدول الاستعمارية الغربية شق المشروع الصهيوني طريقه بثبات، وكانت محطاته تتقرر وفق إمكانيات وظروف التنفيذ ولكن التخطيط لذلك لم يتوقف.
وبعد اكتمال الصورة لا بد لنا من رصد الطريق الذي سار فيه المشروع حتى يمكن رؤية الحقيقة التي التبست عمدا على الشعوب العربية، وضيعت هذه الشعوب فرصا نادرة للديمقراطية والنمو، وكانت رأس الحرية في المشروع الصهيوني هي مصر، ولذلك لقيت اهتماما خاصا من أرباب المشروع وساندته، ولا تزال مصر هي الجائزة الكبرى والتحدي الأكبر لهذا المشروع؛فمنها بدأت مسيرة المشروع ومنها ستكون نهاية المشروع الاستعماري الصهيوني المتسلل إلى بعض الحكام العرب في معادلة معقدة آن الآوان لحلها.
ولحلها لا بد أن نسجل أن الخطاب السياسي الرسمي المصري ممثلا في خطب عبد الناصر وكتاباته وكلمة النقراشي باشا أمام مجلس الأمن عام 1947، كانت تدل على إدراك عميق لماهية المشروع ومخاطره، ولكن لم يتواكب مع هذا الإدراك استعداد جدي لمواجهته بل إن المشروع ازدهر في مناخ القهر الرسمي المصري والاستبداد والجهل، بحيث كانت حصيلة مكونات مصر السكانية والسياسية تحت الحكم العسكري الوراثي هي تراجع مصر بشكل لافت ومستمر مقابل تقدم المشروع الصهيوني.
وجذر المأساة هي الدكتاتورية التي عطلت قدرات المصريين واعتقلتهم في عالم الحاكم وأوهامه وأمراضه النفسية، وامتلأت كتب التاريخ ببطولات الزعيم وكراماته في قهر العدو.
ولا بد من الاعتراف أيضا في هذه المقدمة أن إسرائيل قد انتصرت على مصر والعرب لأسباب عديدة؛ وأهمها الديمقراطية في إسرائيل، أي أنهم رحماء بينهم أشداء على المحيطين بهم، أنهم لصوص، وأما السبب الجوهري الثاني فهو تطبيق نظرية نتنياهو وهي النصر المطلق أو سحق العرب.
والملاحظة الثالثة هي أن إسرائيل تظاهرت طوال الوقت بأنها تقبل القرارات الدولية وتقر بأنها احتلت أراضي فلسطينية ولكنها اشترطت تنفيذ هذه القرارات بالتفاوض مع الجانب الفلسطيني.
الملاحظة الرابعة هي أن الغرب كان يتظاهر دائما بأنه يتفهم الطموحات الإسرائيلية ولكنه يمثل الدور وكأنه مخدوع. فكان المجتمع الدولي يتكلم بلغة وإسرائيل بلغة أخرى، حتى أوضحت إسرائيل منذ سنوات قليلة عن مكنون نفسها وعن ما ظلت طوال الوقت تخفية، وهي أنها تريد كل فلسطين وأنها ستنقذها من أيدي الغاصبين ومن ثم فهي لم تحتل أرضا فلسطينية.
محطات المشروع وأساليب التدليس
لم ينته القرن التاسع عشر إلا وكان هرتزل قد ناقش مشروعه في كتاب الدولة اليهودية في المؤتمر الصهيوني الأول، ثم بلوره في المؤتمر التالي 1904، وكان يقضي بأن اليهود عباقرة وأنه شعب متميز ويستحمل أن يندمج مع شعوب أقل منه في القدرات وأكثر حقدا عليه واضطهادا له والحل هو أن يعيش هذا الشعب موحدا في دولة خاصة به.
وانتهى الجهد اليهودي والاستعماري إلى اختيار فلسطين حتى لو كان ثمن فلسطين هو عزل عبدالحميد الثاني والقضاء على الدولة العثمانية، وبالفعل بدأ تنفيذ المخطط خلال الحرب العالمية الأولى التي أنهت الدولة العثمانية وخلفت تركيا الحديثة العلمانية.
والطريف أن المحطة التنفيذية الأولى للمشروع الصهيوني كانت وثيقه "سايكس بيكو" في 19 مايو 1916، بعد عامين من اندلاع الحرب وقبل عامين من انتهاء الحرب ولم تكن الوثيقة تُعنى أساسا بتوزيع مناطق النفوذ فقد كانت الامبراطورية البريطانية والفرنسية تهيمن على المنطقة العربية وتتحكم في مصير الرجل المريض العثماني، وتنتظر توزيع تركته بعد موته واجتماع الورثة في مؤتمر الصلح، وإنما كان هدف الوثيقة التمهيد لبريطانيا بتولي شؤون فلسطين في إطار نظام الانتداب الذي خدعنا عندما كنا طلابا للمنظمات الدولية والقانون الدولي. وبالفعل صدر تصريح "بلفور" في 2/11/1917 ثم تقرر نظام الانتداب عام 1918 وهكذا تمكنت بريطانيا من إعداد فلسطين لاستقبال أفواج المهاجرين اليهود وقمع مقاومة الفلسطينيين لهم وتدريبهم على الإدارة.
كانت المحطة الثانية عملية تقسيم فلسطين وكان الخطاب السياسي للوكالة اليهودية حول قرار التقسيم أنهي مثل اعترافات من المجتمع الدولي بحق اليهود التاريخي ثم تجسيد هذا الحق على الأرض بإنشاء إسرائيل وكان قرار التقسيم نفسه مخالفا للميثاق، وكان يوصي بأن تنشأ في فلسطين دولتان للطرفين "المتصارعين" وقدمت مبررات بعضها عاطفي إنساني، وبعضها سياسي باتفاق قطبي النظام الدولي على إقامة إسرائيل وجلد العرب دواتهم بأنهم كان يجب أن يقبلوا القرار بدلا من رفضه. وصدرت بعد ذلك آلاف المقالات والكتب تتحدث عن السلام الضائع والمراوغ والفرص الضائعة وألقي باللوم على العرب.
كانت المحطة الثالثة الحاسمة عام 1967 وما رافقها بين إلقاء المسؤولية على عبدالناصر الذي أغلق مضيق تيران بخلاف التفاهم على فتحه ضمن ترتيبات انسحاب إسرائيل من سيناء عام 1956 واتضح بعد ذلك أن منهج عبدالناصر الخطابي وإعلامه مقابل تخطيط إسرائيل لإسقاط عبدالناصر بعد معاركه الوهمية والكلامية.
وكانت الخديعة صدور قرار مجلس الأمن 242 يتحدث عن تسوية ولم يلزم إسرائيل بالعودة إلى خط ما قبل العدوان ثم تحدثنا عن حرب 1967 وحرب الأيام الستة مع أن العدوان الإسرائيلي لم يتجاوز ست ساعات حتى تعقب سلاح الطيران وانكشاف الجيش في سيناء دون قيادة أو تعليمات ولا بد أن نسجل أن الإعلام المصري وحسنين هيكل كان أهم ركائز إسرائيل في تسويق تقدم مشروعها.
وهكذا كانت المحطة الرابعة استطرادا للمحطة الثالثة، وهي "كامب ديفيد" التى كانت انتصارا كاملا للمشروع وإخراجها كاملا لمصر من المعادلة وانفراد إسرائيل بحيث وقعت الأحداث التالية التي فاقمت الحالة المصرية فتباعد التضامن العربي وتفككت الدول العربية.
أما المحطة الخامسة فكانت اتفاق أوسلو 1993 وهو نتيجة الغزو العراقي للكويت بتقيداته المعروفة وكانت المحطة السادسة هي إشغال العراق مع إيران وتداعياته وأخطرها الغزو العراقى للكويت والحملة الدولية ضد العراق، ولكن انتهت بالغزو البريطاني الأمريكي للعراق عام 2003 وما تبعه من تقسيم العراق وهيمنة الشيعة وإيران والتطهير العرقي وضياع العراق ثاني أكبر قوة بعد مصر.
خلال هذه الفترة تقدم المشروع الصهيوني وتراجع العرب وبدأ الصف الفلسطيني في الضعف والانقسام بعد اغتيال عرفات.
وكانت أساليب المشروع في تقدمه هي قهر الجيوش العربية وصرفها عن النشاط العسكري وتمكين واشنطن سياسيا وعسكريا لإسرائيل على الحكام والهيمنة الكاملة على القدرات العربية وإضعاف المقاومة لإسرائيل ولكن كل ذلك يتم تحت شعار – السلام مع إسرائيل.
ومن أهم أساليب المشروع تمكن الدكتاتورية العربية من الشعوب والأوطان وخلق معادلة جديدة وهي خلق جبهة المصالح الإسرائيلية الأمريكية مع الحكام على حساب الشعوب والأوطان ومحاربة الديمقراطية وقمع ثورات 2011 في كل دولة على حدة بمنهج يلائمها.
والمحطات والوسائل مكنت إسرائيل من فتح الحيرة السورية واليمنية لكي يحترق العرب وتستنفذ طاقاتهم كما صنعت المنظمات الإرهابية الإسلامية.
وهكذا صار ممكنا لإسرائيل وأمريكا أن يتقدما بشدة في المنطقة بعد شل الإرادات العربية لإحلال إسرائيل محل فلسطين فانهارت العروبة وانتشرت السلاموفوبيا في المنطقة وصارت إسرائيل هي نموذج الجلاد المنتصر بعد أن يئس العرب من مواجهة القوة الإسرائيلية المدعومة من إسرائيل.
والحق أن جذر المأساة هو الدكتاتورية العبرية المختلفة مع الصهونية العالمية لاستعباد الشعوب العربية ونزعها هويتها العربية والإسلامية، والتحالف العربي الصهيوني لحماية العروش واستمرار المشروع نحو نهايته تحت ستار مكافحة الإرهاب، بعد أن صار الإرهاب في القاموس العربي هو مناهضة التحالف الآثم في معارضة الحاكم ونقد إسرائيل.