الانتخابات تمزق دولة الاحتلال
لا شك أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية جاءت بشكل أعقد بكثير مما كان متوقعا، فاستطلاعات الرأي فيما قبل الانتخابات كانت تعطي اليمين أفضلية واضحة كان يمكن أن تعطي بنيامين نتنياهو إمكانية تشكيل حكومة يمينية بأغلبية مريحة نسبيا، خاصة عندما طفا على السطح بشكل مفاجئ حزب (القوة اليهودية) التي توقعت له استطلاعات الرأي أن يفوز بأربعة مقاعد في الكنيست دفعة واحدة، وهو ما كان سيكسب نتنياهو رافعة كبيرة تجعله يتخلص أخيرا من عبء أفيغدور ليبرمان المزعج، الذي يمكننا أن نسميه (السيد "لا")، وحزبه المتأرجح بين اليمين واليسار.
لكن ما لم يكن متوقعا في هذه الانتخابات كان في الحقيقة تفوق التيارات المحسوبة على اليسار في عدد المقاعد في الكنيست بحساب القائمة المشتركة العربية، علما بأن اليمين يصر على عدم أخذها بعين الاعتبار. وإن كان هناك أحداث يمكن من خلالها فهم هذه المعادلة وأسباب عزوف نسبة من اليمين الصهيوني عن التصويت لليكود، فيمكن تلخيصها بالمشهد المذل لفرار بنيامين نتنياهو من صواريخ غزة أثناء إلقائه كلمة في مدينة أسدود كان خلالها يتوعد بضم أراضي غور الأردن.
هذا المشهد السريالي جعل الجمهور الإسرائيلي فيما يبدو يرى في نتنياهو مرائيا لا يستطيع أن يفي بوعوده لهم بالهدوء والأمن، بعكس بيني غانتس الذي لم يجربوه بعد في هذا الموقع. وقد انتبه حزب الليكود للضرر الفادح الذي سببه هذا الفيديو له لدرجة أن التعليمات في الحزب صدرت بحذف هذا الفيديو من كافة وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالحزب أو أعضائه، ولكن هذا جاء بعد فوات الأوان، فنحن في عصر لم يعد بالإمكان فيه إخفاء فضيحة كهذه بعد انتشارها.
الإرباك الذي حصل في الانتخابات الأخيرة كان واضحا حتى في طريقة إعلان النتائج وتأخرها حتى لحظة كتابة هذا المقال، فالمعروف عن الانتخابات الإسرائيلية على مدار السنوات الماضية كان دائما إمكانية معرفة نتيجتها وحسمها لصالح أحد الطرفين الكبيرين منذ الساعة العاشرة مساء يوم الانتخابات وبعد عشر ثوان فقط من إغلاق الصناديق، وذلك من خلال إعلان نتائج العينة التلفزيونية التي تجمعها القنوات الإسرائيلية المختلفة. لكن الأمر بدا مختلفا جدا هذه المرة، حيث اختلفت نتائج عينات القنوات (13) و(12) و(كان) بشكل لافت، ففي حين تبين لدى القناة 13 تقدم معسكر اليسار، ظهر لدى القناة 12 تعادل كامل بين الطرفين، فيما تبين لدى قناة (كان) تفوق اليمين!
وهو ما خلط الأوراق وأربك الحسابات، واضطر جميع المراقبين للانتظار أربعة أيام على الأقل حتى يتبين التوقع الأقرب –وهو بالمناسبة توقع القناة 13– لنتائج الانتخابات. وبالرغم من أن اللجنة العليا للانتخابات لم تعلن النتائج الرسمية حتى وقت كتابة هذا المقال كما ذكرت سابقا، لكنه بات من الواضح تفوق معسكر اليسار على معسكر اليمين بمقعدين فقط، لتعود الكفة وتقع عند حزب (إسرائيل بيتنا) –بحصوله على ثمانية مقاعد– بزعامة أفيغدور ليبرمان مرة أخرى لتحديد هوية رئيس الوزراء القادم. وهنا يدخل هؤلاء في دوامة جديدة، فليبرمان يرفض بتاتا أن يكون في حكومة يمينية دون القبول بشرطه الأساسي وهو فرض التجنيد الإجباري على المتدينين الذين يمثلهم حزبا (يهدوت هتوراه) و(شاس)، وهو ما يرفضه هذان الحزبان بشكل قاطع. بينما في نفس الوقت يرفض ليبرمان أن يكون في حكومةٍ تشارك فيها القائمة المشتركة العربية التي أصبحت تمثل الكتلة الثالثة من حيث الحجم في الكنيست بثلاثة عشر مقعدا، بعد حزب (أزرق أبيض) وحزب (الليكود).
وليبرمان يقترح بالمقابل تشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة يشارك فيها كل من الليكود وأزرق أبيض وحزبه، يتم فيها استبعاد القائمة العربية والقوائم المتدينة على حد سواء، علما بأن الحزبين الرئيسيين –للمفارقة– لا يحتاجان في حال اتفاقهما على تشكيل حكومة وحدة وطنية إلى حزب ليبرمان، فحزب أزرق أبيض لديه 33 مقعدا، والليكود لديه 31 مقعدا، وكلاهما يشكلان 64 مقعدا، وهي أعلى من عدد المقاعد اللازمة للحصول على الأغلبية البرلمانية وتشكيل الحكومة (والتي تبلغ 61 مقعدا). لكن ليبرمان يراهن على قدرته على جمع الطرفين بحيث يشكل الجسر الوسط بينهما دائما!
في المقابل، فإن الخسارة المدوية التي مني بها أقصى اليمين الممثل بحزب (القوة اليهودية) بفشله في تخطي عتبة النسبة المؤهلة للدخول في الكنيست –بالرغم من أن استطلاعات الرأي كانت تتوقع له حصد أربعة مقاعد في الكنيست– ربما جاءت في الحقيقة لسبب غير متوقع؛ حيث دعا بنيامين نتنياهو جمهوره إلى عدم التصويت لهذا الحزب قبل الانتخابات بثلاثة أيام فقط، ويبدو أن تلك كانت مناورة قام بها ليبعد نفسه عن هذا الحزب أمام الإعلام، باعتباره حزبا مؤيدا لأفكار الإرهابي مائير كاهانا، بالرغم من أن الغالبية الساحقة من جمهور هذا الحزب يعتبرون من مؤيدي وجود نتنياهو على رأس السلطة، وبالتالي فقد كان متوقعا تحالف الطرفين بعد الانتخابات.
لكن الأمر ارتد على هذه القائمة وانسحبت أغلب أصوات مؤيديها إلى دعم نتنياهو، ومن الطريف أن بعض أفراد هذا الحزب ومؤيديه –كما تتحدث بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية– يلقون اللوم على موشيه فيجلين زعيم حزب (زيهوت) الذي لم يعط فائدة تذكر لنتنياهو بتحالفه معه، وفي نفس الوقت أضر بحزب القوة اليهودية، خاصة أن أعضاءه كان يمكن أن يدعموا حزب القوة اليهودية.
أمام هذا المشهد المعقد الضبابي، تبدو الفرص مفتوحة نحو كافة الخيارات، فلا يعني تكليف الرئيس الإسرائيلي (رؤوبين ريفلين) أحدا –سوء غانتس أو نتنياهو– بتشكيل الحكومة أن المكلف سيتمكن من تشكيلها بالفعل بعد حالة التشظي والانقسام المجتمعي غير المسبوقة في دولة الاحتلال. وبالتالي تبدو أكثر الخيارات المتاحة عقلانية لدى ساسة الاحتلال تشكيل حكومة وحدة وطنية بين حزبي الليكود وأزرق أبيض –على الأرجح بزعامة بيني غانتس– سواء بوجود وتنازل نتنياهو أو بإبعاده عن الساحة، وذلك يعتمد على تحقيقات النائب العام الإسرائيلي وإمكانية توجيه تهم بالفساد قد ينتهي بسببها نتنياهو في السجن. وللعلم، فهذا الخيار طرحه كل من أفيغدور ليبرمان ورؤوبين ريفلين.
وهو بالتأكيد ليس الخيار المفضل لدى نتنياهو الذي يحارب كل هذه الحرب للبقاء رئيسا للوزراء لا لشيء إلا لحماية نفسه من السجن فقط وفق قانون الحصانة. وفي حال تمكن نتنياهو من إقناع كتلته بالإجماع عليه وعدم تمكن النائب العام من إدانته أو على الأقل تأخر التحقيقات، فإن مصير الحكومة الإسرائيلية سيبقى في يد أفيغدور ليبرمان الذي لا يبالي بالذهاب إلى انتخابات ثالثة نهاية الشتاء القادم! وذلك لأنه بات متأكدا من ثبات قاعدته الجماهيرية من اليهود من أصل روسي، والذين يعتبرونه ممثلا وحيدا لهم.
وهذا الاتجاه يدفع به نتنياهو كذلك، لا لشيء أيضا إلا لتأجيل الأزمة ما أمكن، وإعطاء نفسه وقتا أكبر لمحاولة الإفلات من السجن، وهذا يعني خمسة أو ستة أشهر أخرى من الضبابية في المشهد السياسي الإسرائيلي، إضافة إلى أن هذا الخيار قد يعني بالضرورة محاولة اليمين الإسرائيلي التصعيد في الملفات الحساسة مثل القدس والمسجد الأقصى وفي غزة، وهذا ما يعني شتاء عاصفا في القدس وفي غزة.
هناك ثابت واحد في هذه الانتخابات، وهي أن الاحتلال الممزق اجتماعيا والمنقسم على نفسه لم يعد موحدا في مواجهة أعدائه كما كان على الدوام، وأصبحت انتخاباته بحد ذاتها مشكلة بعد أن كانت تعتبر حلا، فهل يلتقط العرب ذلك ويعملون بموجبه؟!