من يدفع فاتورة الحرب في ليبيا؟
بينما كان الرائد محمد حجازي يتوجَّه نحو بيت الجنرال خليفة حفتر للقائه كالعادة منذ أن نشأت العلاقة بينهما وقبل إعلان عملية الكرامة عام 2013 جاءه اتصال من الأخير يقول له: "أنا ذهبت إلى مصر والأردن وكل شيء جاهز" لم يكن حجازي يعرف ما الذي يفعله حفتر في مصر رغم توطُّد العلاقة بينهما؛ لكنَّه فهم بعد ذلك كما أخبرني أنَّ حفتر كان يجهز للانقلاب على السلطة قبل حتى أن تنتشر عمليات الاغتيال بصورة كبيرة في بنغازي.
بعد ذلك بعام نقلت وسائل التواصل الاجتماعي كلاماً لأحد قادة الكتائب التابعة لحفتر واسمه صقر الجروشي، قوله باللهجة الليبية الدارجة: "الراجل يعني حفتر كل ما نطلبوا أسلحة يمشي ويجيبهن" ويعني أنَّ حفتر يحضر السلاح من الخارج بسهولة؛ وفي تصريح آخر له يُبرِّر الجروشي لماذا يذهب أبناء حفتر للخارج لإحضار الأموال بدلاً من وجود إجراءات منظمة لذلك، بأنَّ أبناؤه لا يمكن أن يسرقوا فهم مُؤدَّبون وينادون الجروشي بـِ"ياعم!!".
هذا غيض من فيض من الدلائل التي تُثبت كيف ساهمت دول إقليمية في دعم حكم فرد ومجموعة من العسكريين بالأموال دون أن يتفكَّروا في عاقبة الأمر. قبل أيام نشرت صحيفة "الإندبندنت" مقالاً عن كيفية تمويل حفتر لحربه، بدأ المقال بالحديث عن بعض المتضررين من مجموعة حفتر ممن سماهم الكاتب بأمراء الحرب، وعرض صورة لأحد اجتماعاتهم حيث صرَّح أحد أصحاب العقارات بأنَّه في العام ألفين وسبعة عشر اتَّصل به مكتب تابع لحفتر لعرض بيع عقار قريب من ميناء بنغازي مقابل سعر أقل بكثير من ثمنه بحُجة حاجة المؤسسة العسكرية للعقار؛ وبعد تهديد صريح بالاعتقال أو القتل، باع صاحب العقار عقاره وهرب خارج بنغازي؛ وهناك وفقاً للمقال عشرات من رجال الأعمال والمقربين من حفتر الذي سافروا خوفاً على أرواحهم.
المقال ذكر الكثير من الحقائق عن حجم الأموال التي تُؤخذ بطريقة غير شرعية عبر تهريب النفط وإعادة الأموال في صورة بعض الشحنات التي تُصدَّر خارج البلاد في شحنات من الخردة.
وينقل صاحب المقال عن بعض الباحثين في بنغازي -وفضَّل عدم ذكر اسمهم حتى يستمروا في فضح أساليب حفتر في الحصول على الأموال- قوله: إنَّ تهديداً مستمراً لرجال أعمال إما بالقتل أو بالتنازل عن أموالهم في حال رفضوا تسليم عقاراتهم لهيئة الاستثمارات العسكرية التي أنشأها حفتر. بعض الباحثين حسب المقال قالوا: إنَّ حفتر يُسيطر على ما قيمته عشرة مليارات دينار ليبي أو ما يعادل مليار وثمانمائة مليون يورو، وأنَّ تلك الأموال تُستخدم في العدوان على طرابلس، وأنَّ تقديرات بأنَّ هناك 70 ألفاً من العسكريين التابعين لحفتر، بما في ذلك مصاريف بعض اللوبيات في الولايات المتحدة الأمريكية والتي وصلت لاثنين مليون دولار شهرياً.
ووفقاً للمقال، فإنَّ بعض الشخصيات العسكرية تحاول أن تُسيطر على الاقتصاد في المنطقة الشرقية، هؤلاء من ذوي الشعر الأبيض بتعبير الكاتب هم من يحاولون أن يستولوا هم وأبناؤهم على مفاصل كل المؤسسات الاقتصادية وتهديد كل من يرفض ذلك. بعض الأكاديميين يقول الكاتب عن جماعة حفتر: "إنهم لا يُخفون أنهم يريدون تكرار النموذج المصري في ليبيا".
كل هذه الحقائق الدامغة يريد السيد محمد أبو الفضل في مقالٍ له نُشر، الخميس، في جريدة "الأهرام" المصرية، تصوير أنَّ الفساد المنتشر في الغرب الليبي هو سبب الصراع ويسأل: من المستفيد من الصراع الليبي؟ والسؤال الأصح: من الذي أنفق على هذه الحرب منذ العام 2014؟ من الذي أرسل الأسلحة لطرف على حساب الآخر؟ من الذي دمَّر مدينة درنة بطائراته؟ من الذي جعل من مدينة بنغازي أطلالاً لمحاربة مجموعات مسلحة كان يُمكِن أن ينتهي أمرهم بالتعاون مع الحكومة الشرعية بكل حكمة وتعقل لولا الرغبة في الاستفادة من اقتصاد الحرب؟ من الذي لم يفرِّق بين الفساد داخل إطار الدولة والفساد بإنشاء اقتصاد موازي في الشرق الليبي؟ من الذي استمر في تصدير السلاح والعتاد والرجال لمعركة دمَّرت حاضر ليبيا وتسعى لتدمير مستقبلها؟ من الذي ساهم في نزوح نحو 200 ألف ليبي وهجّر آلافاً آخرين؟ من الذي نشر العداء بين القبائل في ليبيا وساهم في قتل الأخ لأخيه والابن لأبيه وفرّق بين الأحبة ما خالوا يوماً أن يفترقوا؟
ربما يظن السيد أبو الفضل، أنَّ الفساد في الغرب الليبي هو سبب الصراع، لكنَّه لو أتعب نفسه - وقد شاء أن يتدخَّل في ما لا يفقه- وعاد إلى تقارير ديوان المحاسبة في طرابلس، والتي تصدُر بشكل دوري لاستطاع معرفة حجم الفساد من خلال تقارير موثقة، لكن أتحداه أن يجد وثيقة واحدة أو نظام محاسبي يمكن الرجوع إليه؛ وحتى بقية الدولة التي ظلت صامدة في المنطقة الشرقية والتي أصدرت هيئة الرقابة فيها تقريراً عن الفساد في حكومة الثني والذي وصل لإنفاق عشرة مليار دينار، صرف منها 2 مليار دينار للحسابات العسكرية التابعة لحفتر عُوقبت باعتقال رئيسها عشيَّة إصدار التقرير.
ما لا يدركه السيد محمد أبو الفضل، أنَّ عدم قُدرة إدراك أنَّ المشهد هو حالة من الفوضى والصراع المستمر، وأنَّ الجُرم يصبح جُرماً إذا وضُع في إطار شرعي ولو كان أعرجاً؛ أما أن تُنشئ اقتصاداً موازياً وتدعمه دولة تعتبر نفسها شقيقة، فهذا ليس إلا حالة من "الكليبتوركراسي" (kleptocracy) وهي: حالة تجعل من الحاكم يستخدم سلطاته لاستغلال ثروات بلاده، وهذا ما يقوم به النظام الحاكم في مصر بمساندة مجموعة عسكريين ومليشيات في الشرق الليبي وأي نظرة لصناعة قرار في دولة دكتاتورية عسكرية يهمل هذا النموذج هو في الواقع يحاول أن يضفي عقلنة وسياسة على حالة من اللاعقلانية واللاسياسة… لقد خبرنا نحن الليبيون حالة أبو الفضل وغيره عندما كان المثقفون والمعلقون والمحللون يفسرون الجنون والفوضى حتى دار الزمان دورته وبدا للجميع، أنَّ الملك عار تماماً بعد أن كانوا يصفقوا لمحاسنه.