"الرِدّة" فصل في التقدم للوراء والصعود للأسفل.. التعليم مثالا

12

طباعة

مشاركة

الردة هي كل تقهقر إلى الوراء، بفعل التعثر الفعلي وتضييع المكتسبات أو بفعل الفشل في المواكبة، وفقدان الديناميكية المطلوبة والمتمثلة في استيعاب متطلبات المرحلة، وآلية الاستجابة لها.

وبالإمكان بحث هذه المسألة في مختلف القطاعات المختلفة في الدولة، التي إن بحثت في جذر كل منها، وجدت أن مردها إلى ذات السبب، وهو ضعف الإرادة السياسية الحقيقية أو حتى انعدامها، ومعنى الإرداة السياسية في هذا السياق، هي إرادة السلطة التنفيذية لتحقيق أهداف بعينها. ويمكن قياس تحققها بمؤشرات دقيقة، التي تكون مرتبطة بالضرورة -أي الأهداف- برؤية أكبر محددة، فيها الكثير من الاستقرار والاستمرارية والكثير من المرونة والديناميكية.

غياب هذا الأمر، يستصحب معه بالضرورة إعادة اختراع للعجلة، وفي ذلك ما فيه من هدر الموارد والطاقات، وتضييع لأحلام وآمال الأجيال، وهذا النقاش يذكرني بعبارة لطيفة وردت على لسان المثقف المصري الجميل بلال فضل، وهي قوله: "من ضعف إرادتكم السياسية سُلّط عليكم".

ابتدأت قصة التعليم الحديث في عمان ملتصقة بمتطلبات الواقع، أعني ما حدث في سبعينيات القرن المنصرم، ذلك أن البلاد كانت تعاني من جهل متفشٍ بمعدلات مخيفة، نتيجة شح المؤسسات التعليمية، فكانت اللحظة تقتضي إيجاد مؤسسات تعليمية من الصفر، وتوزيعها على مختلف أرجاء البلاد، وهو ما حدث فعلاً.

والأهم من ذلك أن الحكومة نجحت في خلق الوعي لدى المواطنين بالنقص الحاصل وضرورة معالجة هذه الإشكالية، لا سيما عند الأجيال الأكبر سناً، فقد تشكل وعي عند تلك الأجيال مفاده، أنه وإن كان القطار قد فاتنا فإن هذا الأمر لا يجب أن يتكرر لدى أبنائنا، وأن التعليم مسألة حتمية وليست مسألة تَرَفيّة. إن خلق هكذا وعي في دولة بدائية مثل عمان وقتئذ لا يمكن وصفه إلا بأنه إنجاز لا يمكن إنكاره.

إحدى أهم المسائل التي ساهمت في تشكيل هذا الوعي، هو الفارق العملي والمادي الذي يمكن للتعليم أن يحققه في حياة هؤلاء الناس ونمط عيشهم، فالأسر العديدة التي تعتمد أساساً في معاشاها على الزراعة التقليدية وتربية الماشية، بالإضافة إلى مختلف المهن التقليدية، وجدت أن التعليم مكّن أبناءها من الحصول على وظائف في الحكومة، تضمن لهم استقراراً ماديا، ومستوى ماديا متقدما مقارنة بظرف تلك الفترة.

وعلى نفس الوتيرة، أثبت التعليم الجامعي أنه مكّن أبناءهم من الحصول على وظائف أفضل بمرتبات أعلى، لا سيما الحصول على مؤهلات التربية التي تمكن المنتمين إليها من الحصول على وظيفة معلم في المدارس الحكومية.

لقد كان حصول أحد الشباب على شهادة تعليمية في التربية بمثابة ضمان للحصول على وظيفة مدرس في المدارس الحكومية، وهذا الأمر كان يعطي عائلات هؤلاء الشبان/الشابات مكانة اجتماعية؛ فكون ابنك أو ابنتك معلم/ـة، يجعلك موضع فخر ومكانة اجتماعية مرموقة يغبطك عليها من هم حولك.

في تلك الفترة بدأت موجة ضرورة حصول الطلاب على معدلات مرتفعة في مرحلة الثانوية العامة، حتى يستطيعوا الحصول على وظيفة مرموقة تؤمن لهم الوضع المادي والاجتماعي الذي تحدثنا عنه، والأجمل أن هذه الموجة كانت مُسيّرة ومُحفّزة بفعل تشجيعات الجيل السابق الذي للمفارقة معظم أبنائه لا يجيدون القراءة بفعل ظروف نشأتهم.

على أن ما حصل بعد ذلك، هو انتشار نوع من الوعي المعكوس، خصوصاً في السنوات الأخيرة، ذلك أنك تجد أن خطاباً وأفكاراً أخذت نوعاً ما في الشيوع في حين أن الأهم هو الحصول على وظيفة، أو بصورة أدق ضمان وظيفة حكومية في أسرع وقت وبغض النظر عن طبيعة تلك الوظيفة ولو على حساب التعليم.

وتحت هذا الخطاب تجد أن ثمة معدلات لخروج الطلبة من الكليات التعليمية لصالح الالتحاق بوظائف بسيطة في الجيش والشرطة، وهذا الأمر أصبح بمثابة ظاهرة واضحة، بل أنك تجد ذات الخطاب لدى طلبة الثانوية العامة. إذ أن أقصى طموحهم هو التخلص من هذه المرحلة، والسعي الحثيث للحصول على وظيفة في الجيش أو الشرطة.

هذا الخطاب نجده يرتبط بخطاب معضد هو عدم جدوى التعليم والشهادات الجامعية، فيقول لك أحدهم مدافعاً عن وجهة نظره: دونك آلاف من أصحاب الشهادات الجامعية، وهم عاطلون عن العمل، فما الجدوى من الشهادة، ولم لا نختصر الوقت ونتوجه للوظائف مباشرة، والمؤسف أن ذات الوعي المعكوس بدأ ينتشر مع الجيل السابق وإن بدرجة أقل. 

إن خللا وقع في السياسات التعليمة لابد أن يكون السبب لهذا الوعي المعكوس، وهذا الأمر يستدعي بحثاً جاداً لتوصيف هذه المشكلة أولاً، ومن ثم الانتفاض لمعالجتها بصورة ناضجة.

وأحسب أن إحدى صور هذا الخلل هو فشل السياسة التعليمة في خلق وإدارة مرحلة انتقالية كان يفترض فيها عمل تقدم في فكرة التعليم لمرحلة أعلى، ويتمثل هذا الأمر في ثلاث مسائل:

  • الأولى: تجاوز الفكرة التقليدية للتعليم المتمثلة في محو الجهل والمصطبغة في معظمها بفكرة التلقين الآني لصالح فكرة رعاية وتنشئة عقول تشتمل على الحد الأدنى من العقل النقدي الممتلك لأدوات البحث والتفكير.
  • الثانية: هي فشل التعليم الجامعي في إنتاج مخرجات تتمتع بمعدلات تنافسية عالية والاستمرار عوضاً عن ذلك في إنتاج مخرجات لم تتحصل من التجربة التعليمة إلا الشهادة فقط، فثمة بون شاسع، على سبيل المثال، بين شخص قانوني وبين شخص يحمل شهادة في القانون.

هذا الأمر أدى إلى خلق مخرجات هي في واقع الأمر عالة على أصحاب العمل، وليس هذا نقداً للمخرجات في حقيقة الأمر بل هو نقد للعملية التعليمية التي انتجت هذه المخرجات، وإلا ما معنى أن كل من يدخل من باب المؤسسة التعليمية يكون شبه ضامن للخروج منها بالشهادة التي تقدم لها، وذلك بأقل مجهود ممكن، وبالتالي لا يفترض بالضرورة تحصله/ها على الأدوات المعرفية الأساسية، ولكن مع ذلك سيطالب بنفس الوظيفة والمخصصات التي سيطلب بها أفضل خريج من ذات التخصص.

  • الثالثة: فشل مؤسسات التعليم العالي في تجاوز فكرة كونها مكانا لتداول وتلقين المعرفة إلى مكان لإنتاج المعرفة، وهذا الأمر سيخلق بيئة من إجترار ذات المعارف، ويجعل من هذه المؤسسات ضعيفة وهامشية.

لقد كانت معالجة مسألة التعليم بظروف تلك الفترة معالجة مناسبة، ويمكن وصفها بأنها ناجحة، على أن هذا الأمر لم يستمر بنفس الوتيرة، وعندما نقول إن هذا الأمر مرده إلى ضعف الإرداة التي أشرنا إليها في بداية المقال، سيرد علينا بأن هذا الرأي خاطئ، وأن السياسات التعليمية تطورت، وقامت بمواكبة المستجدات، بل وسيبدأ بسرد الأدوات التعليمية الحديثة والتكنولوجيا المستخدمة، والسبورة الذكية! وأخواتها من الأشياء الذكية التي أدخلت في العملية التعليمية.

هؤلاء غفلوا بأن كل هذا النقاش في صلبه لا ينصب على العناصر المادية -على أهميتها- وإنما على العناصر غير المادية، على الأفكار التأسيسية والتوجيهية في عمل المؤسسات التعليمية.

وإني لأذكر أني أصبت بنوع من الصدمة وقت أن رأيت أن القاعات في إحدى الجامعات الأمريكية الشهيرة -التي لها السبق في إنتاج المعرفة في مختلف الحقول المعرفية- لا تزال تستخدم السبورة غير الذكية! التي يكتب فيها بالطباشير في حين إنه حتى مدارسنا تخلصت من هذا النوع من ألواح الكتابة قبل أكثر من عقد، على أن من المؤسسات التعليمية مؤسسات تعليمية حقيقية ومنها دون ذلك، وإني لأحسب أن هذا الأمر يشتمل على رمزية توضح مستويان من النقاش.