هل حقا أدار الشباب العربي ظهره للدين؟
أظهرت نتائج دراسة أجراها موقع قناة "بي بي سي عربي"، خلال هذا الأسبوع -شملت أزيد من 25.000 شاب وشابة ينحدرون من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (11 دولة عربية)- أن الشباب العربي بات يظهر ابتعادا تدريجيا عن الدين.
اشتغلت الدراسة التي أجراها مكتب "البارومتر العربي" الموجود في جامعة Princeton الأمريكية، من نهاية سنة 2018 إلى ربيع 2019، على قضايا متعددة شملت حقوق المرأة والهجرة والأمن والجنس. وارتكزت الدراسة على حوارات مباشرة مع عدد كبير من الشباب العربي في أماكن متعددة.
كيف وصلنا إلى هنا؟ هل تعتبر ظاهرة الابتعاد عن الدين/ الإلحاد في صفوف الشباب العربي ظاهرة قديمة لم يسلط عليها الضوء في الماضي بنفس الدرجة لقلة وسائل الإعلام وانعدام السوشيال ميديا، وعدم قدرة الشباب على مناقشة قضايا تعتبر طابوهات في مجتمعات عربية محافظة آنذاك؟ أم أن الأمر برمته موجة عابرة تمس الشباب في العالم بأسره وليس تحديدا في الدول العربية.
أظهرت الأرقام أن نسبة اللادينيين في الدول التي أجريت فيها الدراسة قد ارتفعت منذ سنة 2013 وتخطت تقريبا عتبة 13% بعدما كانت تشكل 8% فقط، كما بيّنت نتائج الدراسة أن ظاهرة اللادينية مرتفعة نسبيا في الفئة العمرية الأقل من 30 سنة، ويعتقد 18% من الشباب في هذا السن أنهم لا دينيون. تنطبق هذه الإحصائيات على جميع الدول التي أجريت فيها الدراسة ما عدا اليمن الذي سجل انخفاضا ملحوظا من 10% قبل سنة 2013 إلى 5% بعدها.
لعل أقرب الإنتاجات السمعية-البصرية التي تتعلق بالظاهرة، التي نحن بصدد دراستها، وثائقي "في سبع سنين" الذي أنتجته قناة "الجزيرة الوثائقية" منذ شهور، وقد سلط الضوء على التغيرات الدينية-الفكرية الجذرية التي عرفتها مصر منذ اندلاع الثورة إلى يومنا هذا.
تم تسليط الضوء على فئتين من الشباب الذين سلكوا سبلا مختلفة تماما عن حياتهم السابقة قبل الثورة. مجموعة تحولت من السلفية إلى الإلحاد وأخرى توجهت إلى الجهاد المسلح إلى جانب الجماعات المسلحة في سوريا وسيناء بعدما كانت تعيش حياة عادية. رصد الوثائقي تجارب فريدة ومختلفة لشباب تجرؤوا على الحكي بوجه مكشوف عن تحولهم مما اعتقدوا أنه وهم إلى ما هم موقنون اليوم بأنه حقيقة. ففي الوقت الذي يعتقد غالبية المجتمع أن هذا التحول خروج شاذ عن ما هو صحيح، يعتقد هؤلاء الشباب أن ما وصلوا إليه من قناعات هو نتيجة طبيعية لما عاشوه من ظلم وبؤس وقهر وتقاليد عمياء كان يجب الانقلاب عليها منذ زمن.
اللادينية هي اتجاه فكري ينبني على عدم الانتساب لأي ديانة، إذ يرفض اللادينيون مرجعية الدين في الحياة ويؤمنون أن الإنسان مسؤول كليا عن بناء حياته ومستقبله وقناعاته دون وصاية دين. كما أن مسألة الإيمان بوجود خالق للكون تبقى مسألة مبهمة لدى اللادينيين. استنادا إلى كتاب "ثقافة اللادينية" للمؤلفين كابورالي وجروميلي الذي طبع سنة 1971 فإن اللاديني هو شخص لا يملك إيماناً بوجود الخالق الأعظم، وفي نفس الوقت لا يملك قناعة بعدم وجود الخالق الأعظم؛ بمعنى آخر إنها مرحلة وسطية بين الإيمان والإلحاد. وهذا هو الفرق بين اللادينية والإلحاد حيث يعتقد معتنقو هذا الأخير جازمين بعدم وجود إله ويتخذون من قضية نفي وجود الخالق منطلقا وركيزة أساسية لتيارهم.
لا يمكن لأحد أن ينكر اتساع دائرة الإلحاد في صفوف الشباب العربي تدريجيا خلال السنوات الأخيرة خصوصا وأن ثورة السوشيال ميديا تزامنت مع الثورات العربية التي أدت إلى تغيير الوضعية الراهنة وسقوط أنظمة مستبدة وظهور أخرى أكثر استبدادا ناهيك عن الحروب الأهلية التي أُشعل فتيلها ولم يخمد بعد.
إن مناقشة ظاهرتي اللادينية والإلحاد في الوطن العربي في هذا المقال ليس دعوة إلى اعتناقهما، بل هو مناقشة صريحة لأرقام حقيقية وظاهرة يجب الكشف عن أسبابها.
وفي وثائقي "في سبع سنين" سُلط الضوء على الأسباب الشخصية والخارجية التي أدت بكل واحد من أولئك الشباب إلى الانتقال من الشيء إلى نقيضه، من الإيمان المطلق إلى الإلحاد. لكن الأسباب هي تقريبا نفسها في كل دول العالم العربي والإسلامي نذكر منها:
إحباط ما بعد الربيع العربي
فقر، جوع، موت، دمار، دماء بريئة مسفوكة والكثير من الظلم كلها أشياء أدت إلى طرح أسئلة وجودية تدور حول الغرض من وجود الإنسان والحقيقة من صراع قوى الخير والشر في "عالم لا يأبه لمعاناة الضعيف". هنا يمكن أن نربط نفس الظاهرة بالتيار الوجودي الذي أفرزته أهوال الحربين العالميتين الأولى والثاني واللتين أسفرتا عن مقتل ملايين الناس والمعطوبين واليتامى والأرامل.
أسئلة كثيرة ولا من مجيب
هناك الكثير من الأسئلة المطروحة في الدين والسياسة والعلوم والجنس البشري والتاريخ لم يجد لها الشباب العربي إجابة تشفي الغليل، خصوصا وأن ذلك تزامن مع تقدم العلوم والانفتاح على العالم الخارجي وثورة مواقع التواصل الاجتماعي والمجموعات السرية والصفحات التي تجاهر بالإلحاد، إذ أن أغلبية رجال الدين ليس لهم تكوين أكاديمي علمي متين قادر على الإجابة على الأسئلة المتزايدة انطلاقا من الدين والشريعة دون ترك مجال للشك. وذلك لا يعني قصر الدين بل عدم قدرة رجاله على التأقلم مع التقدم الحاصل ومواكبة البحث العلمي.
أفول القدوة في العالم العربي
يبدو جليا أن دور الدعاة ورجال الدين في العالم العربي لم يعد بنفس الدرجة التي كان عليها منذ أزيد من عقد من الزمان، فلم يعد الشباب يعطي أهمية كبيرة لهم ولا يحومون حولهم في حلقات للنهل من علمهم ونصائحهم وذلك راجع بالأساس إلى الخيبات التي حصدها الشباب العربي بعد الثورات التي كانت تطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية، عندما لم يقف في صفهم إلا عدد قليل جدا من الدعاة وذلك بسبب الضغوطات التي تفرضها الأنظمة السياسية على الشيوخ من أجل ضمهم إلى صفها والتأثير على الشعب حسب هواها.
ربط تخلف الدول العربية بالإسلام
يربط البعض تأخر الدول العربية بالإسلام السياسي الذي يجثم على الاقتصاد والسياسية وكل نواحي الحياة في الدول العربية على حساب المستضعفين، فيما يرجح البعض أن الدين بريء براءة الذئب من دم يوسف، وأن السبب المباشر في هذا التخلف هو تسييس الدين والحكامة السيئة والفساد.
الإرهاب وعلاقته بالإسلاموفوبيا
لم تقتصر العمليات الإرهابية التي تهز العالم من حين لآخر باسم الجماعات المتطرفة التي ترفع مدعية "راية الإسلام" على حصد المزيد من الإسلاموفوبيا في الدول الغربية فقط؛ بل تزايدت الإسلاموفوبيا في الدول العربية كذلك، حيث صار الكثير يبدي عداء واضحا تجاه الإسلام بسبب وسائل الإعلام التي تؤثر بطريقة غير موضوعية على الرأي العام من جهة وبسبب قلة المنابر الإعلامية الإسلامية التي تسعى إلى الرد وإعطاء أجوبة منطقية من جهة أخرى.
لكن سواء أكان الأمر موجة عابرة أو مؤامرة لضرب ثوابت الأمة الإسلامية فلا يمكننا إنكار أنه تحصيل حاصل وواقع تزيد أرقامه كل يوم ولا يسعنا إلا تسليط الضوء أكثر على الأسباب التي ساهمت توسيع دائرته وتجلياته والبحث عن أجوبة تشفي الغليل وتساهم في رفع اللبس عن الكثير من المفاهيم والأفكار المغلوطة، التي تستلزم صراحة كبيرة وموضوعية راسخة لمناقشتها.
لم يُدر الشباب العربي ظهره للدين، لأنه وفي مقابل الإلحاد هناك صحوة دينية ومراكز أبحاث دينية وكتب وأطروحات عن الموضوع، لكن الأمر لا زال يتطلب الكثير من البحث العلمي والصراحة مع الذات ووضع اليد على مكامن الخلل.