الدائرة المفرغة من الفاشية
![](https://s3.eu-west-3.amazonaws.com/alestiklal/gallery/old_site/img/blog/ماهر.jpg)
قرأنا عن الفاشية أنها تيار سياسي وفكري يشير لأقصى اليمين أو اليمين المتطرف، وظهر في أوروبا في العقد الثاني من القرن العشرين، وتحديدا كانت بداياته في إيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى عندما تعاظمت المشاعر القومية بعد الإحساس بالظلم الذي وقع على البلد، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي حدثت في ذلك الوقت.
ويمكن تعريف الفاشية بأنها نزعة قومية عنصرية تُمجّد الدولة إلى حدّ التقديس، وترفض نموذج الدولة الذي ساد أوروبا منذ أواخر القرن التاسع عشر القائم على الليبرالية التقليدية والديمقراطية البرلمانية التعددية.
واصطلاح الفاشيّة بالإنجليزية Fascism مشتق من الكلمة الإيطالية Fascio، وهي تعني حزمة من القضبان المعدنية أو الصولجانات كانت تُحمَل أمام الحكام في روما القديمة دليلًا على سلطاتهم، وبدأ استخدامها في إيطاليا في تسعينيات القرن التاسع عشر لتشير إلى جماعة أو رابطة سياسية.
ولا يمكن القول إن هناك اتفاقا أكاديميا على تعريف الفاشية، ولكن جرى العرف على استخدامها لوصف المشاعر والخطابات المتعصبة بشكل مبالغ فيه، التي تؤدي لممارسات سلطوية قاسية، أو الأنظمة القمعية الشعبوية التي تعتمد بالأساس على الخطب العاطفية وإثارة المشاعر القومية للجماهير. وكذلك جرى العرف على إطلاق لفظ الفاشية على كل الممارسات المتعارضة مع القيم الليبرالية الحرة.
جوهر فكرة الفاشية هو الولاء الشديد للأمة أو العرق، وهذا الولاء يجب أن يعلوا على أي ولاء أو التزام آخر. فليست الطبقة هي الأساس كما في الاشتراكية، وليس الفرد كما هو في الليبرالية، بل الأمة التي كانت متفوقة أو متميزة في وقت ما في الماضي البعيد، ويجب أن تعود للتفوق مرة أخرى على حساب الجميع.
ولذلك كثيرا ما يتم وصف الفاشية بأنها شكل من أشكال القومية الشمولية، حيث حكم الفرد الواحد الذي يقود حزبا واحدا، لا يمسح لأي حزب آخر بالمنافسة ولا يسمح بظهور أي بديل. هذا الحاكم الفرد في منظور الفاشية هو الحامي من الأعداء، وهو الذي سيعيد مجد الأمة، وهو الذي سينتصر لا محالة على أعداء الأمة في الخارج وأعوانهم في الداخل.
ويأتي الفاشيون إلى السلطة -في أغلب الحالات- إثر حدوث انهيار اقتصادي بالبلاد أو بعد هزيمة عسكرية أو كارثة أخرى أو بعد أزمة سياسية وصراع وصل إلى طريق مسدود، ويكسب الحزب الفاشي تأييدًا شعبيًا لما يبذله من وعود بأنه سينعش الاقتصاد، أو بسبب وعوده باسترداد كرامة البلاد.
وقد يستغل الفاشيون خوف هذه الشعوب من الشيوعية أو الأقليات، أو الخوف من الانفلات الأمني وعدم الاستقرار، أو من تكرار التجارب السياسية الفاشلة، ونتيجةً لذلك قد يستحوذ الفاشيون على السلطة عن طريق انتخابات سلمية أو عن طريق القوة أو انقلاب عسكري.
بعد أن يستولي الحزب أو التنظيم الفاشي على السلطة، يتسلم أعضاؤه الوظائف التنفيذية والقضائية والتشريعية في الحكومة. ويكون ذلك تحت سيطرة شخص واحد، غالبا ما يكون ذا نزعة استبدادية، وغالبا ما يكون قادرا على الخطاب الشعبوي الجاذب للجماهير والمحرك للمشاعر، وفي الغالب تتولى قيادة الحكومة هيئة من أعضاء الحزب.
ولا يسمح الفاشيون بقيام حزب آخر أو ظهور أي منافس أو أية معارضة للسياسات، هذا بالإضافة للنزعة العسكرية والجنوح نحو عسكرة المجتمع أو تنظيمه في شكل مليشيات وجماعات مسلحة موالية.
وتشترك التجارب الفاشية في عدة خواص؛ مثل الحنين الشديد للماضي وانجازاته والأمجاد القديمة للأمة، بالإضافة إلى تمجيد الذات والعرق والقومية والتحقير من القوميات والأعراق الأخرى، وتقديس هيبة الدولة والمبالغة في التعصب الوطني والقومي، والتبجيل والتقديس للزعيم القوي.
وكلما كان قاسيا دمويا كلما كان الالتفاف حوله، بجانب إضفاء الطابع العسكري على المؤسسات، كما أن السلطة التنفيذية لها الأفضلية على حساب السلطات الأخرى.
انتهت معظم تجارب الفاشية نهايات دموية، بعد أن قاد هؤلاء الزعماء بلادهم إلى مغامرات غير محسوبة يحركها جنون العظمة. وتعتبر إيطاليا هي أولى البلدان التي تأسست بها الفاشية بشكلها المعروف، وهي النموذج التي تقاس عليها درجة الفاشية في الأنظمة.
فقد واجهت إيطاليا عقب الحرب العالمية الأولى أزمة اقتصادية واجتماعية ونفسية حادة، وعجزت الحكومات المتعاقبة عن فضها وفقدت الدولة هيبتها، واستغل موسوليني هذه الأوضاع لتأسيس الحزب الفاشي، الذي تمكن من الوصول إلى الحكم وتشكيل حكومةٍ عام 1922، وأقام نظام حكم شمولي دموي سيطر به على السلطة وقام بحل جميع الأحزاب ماعدا الحزب القومي الفاشي.
وأغلق جميع وسائل التعبير عن الرأي، وأطلق يد السلطة التنفيذية في الحبس والتنكيل بالخصوم والمعارضين، وبارك جهود المليشيات الفاشية الموالية في الاغتيالات واستخدام العنف ضد المجموعات الأخرى.
وفي ألمانيا، كان هتلر يحلم بإقامة ألمانيا العظمى على أساس سيادة الجنس الآري، واستطاع بقدرته على الخطابة الحماسية قيادة حزب العمل القومي ثم جعله حزب الأغلبية. وبعد أن فاز بالأغلبية عام 1929، أقام نظاما قوميا فاشيا يحكم بالحديد والنار. حكم ألمانيا لأكثر من 15 عاما إلى أن انتحر بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية.
أما في إسبانيا فقد استطاع فرانكو "قائد الجبهة القومية الإسبانية"، أن ينتصر في الحرب الأهلية الطاحنة في إسبانيا 1936 - 1939، وأقام نظام حكم فاشي دموي يمجد في القومية ويعمل على استعادة أمجاد الماضي، ولكنه استطاع تجنب المصير المؤسف الذي حدث لصديقيه هتلر وموسوليني، واستمر في الحكم حتى وفاته عام 1975، بسبب عدم تورطه الكامل في الحرب العالمية الثانية، ولكن تعتبر أفكاره الفاشية من الأفكار المنبوذة والمحظورة بعد عودة الحكم الديمقراطي لإسبانيا ومحاكمة عهد فرانكو.
انتهت معظم تجارب الفاشية نهايات مأساوية بعد الهزيمة العسكرية أو بعد الثورات العنيفة أو الانقلابات المسلحة، فقد انتحر هتلر والعديد من قادة النازية، وتم محاكمة المئات من مساعديه بعد ذلك، وتم سحل وإعدام موسوليني وتعليق جثته في شوارع روما بعد الثورة عليه عقب الهزيمة. وحدثت كذلك نهايات عنيفة أو كارثية أو دموية لتجارب الفاشية في إسبانيا واليابان واليونان والبرازيل.
وبشكل عام يمكن القول إن الفاشية تصنف في عصرنا الحالي كفكر متطرف يحظر الترويج له علانية، وظلت الجماعات الفاشية تصنف كجماعات محظورة في العديد من البلدان الأوروبية لوقت طويل.
وحتى اليوم، ورغم ظهور مجموعات جديدة من الشباب تنتمي لتيار اليمين المتطرف أو تحاول إعادة إحياء الفاشية، مثل مجموعات النازيين الجدد وتلك المجموعات التي تحض على كراهية المهاجرين والعرب والمسلمين، إلا إنه لا يزال فكر منبوذ ومستهجن بشكل عام في القيم الأوروبية الحالية. فبالرغم من عودة الترويج للفكر الفاشي والنازي في أوروبا علانية، وفوز اليمين المتطرف في بعض البلدان بعد موجات المهاجرين، إلا أنه لا يزال فكر يمثل الأقلية في أوروبا حتى الآن.
أما في بلداننا العربية فلا تزال التوجهات ذات النزعة الفاشية لها جمهور كبير رغم كل التجارب الكارثية التي مر بها الوطن العربي. فرغم الهزيمة العسكرية المخزية عام 1967، إلا أنه لا يزال هناك دراويش لعبدالناصر أو حافظ الأسد أو صدام حسين أو القذاقي باعتبارهم رموز العروبة وأسود القومية العربية.
ولذلك لا عجب في أن يكون النظام الحالي في مصر هو امتداد لنظام يوليو، وإن تغيرت البوصلة نحو الغرب والرأسمالية مع الاحتفاظ بالنزعة الفاشية لنظام الحكم. وللأسف لا يقل البديل المطروح فاشية عن الفاشية العسكرية، فالأصولية الدينية والبديل الجاهز في الوطن العربي يستخدم خطابا وأساليب تصنف كأنها فاشية الجوهر، مثل الحديث عن أمجاد الماضي والتميز الديني وكراهية الآخر واستحلال دمه، بالإضافة للتنظيم الشديد والخطاب العاطفي الذي يستثير حماسة الجماهير. بل إن الأقلية المنتسبة للفكر الليبرالي في الوطن العربي تنحاز في بعض الأحيان للفاشية العسكرية ويستخدم بعضها مصطلحات لا تقل فاشية كما رأينا في مرحلة ما بعد 3 يوليو 2013 في مصر.
فكيف يكون الخروج من تلك الدائرة المفرغة؟