العقاد بذكراه: مناصر ثورة 19 يحاول الحياد في 52

محمد ثابت | 6 years ago

12

طباعة

مشاركة

عاش عمره محاربا من الطراز الأول، سواء في مجالي الفكر والأدب، أو السياسة والحياة العامة؛ لم يكن الأديب الراحل عباس محمود العقاد، الذي نحتفي بالذكرى الخامسة والخمسين لرحيله اليوم الثلاثاء، إذ غادر دنيانا في 12 من مارس/آذار 1964م، لم يكن العقاد يعرف الهدوء أو الراحة أو الدعة؛ عاش عمره متنقلا بين معركة وأخرى.

إلا أن موقف العقاد من ثورتيّ 1919م، و1952 اختلف، فبعد أن كان واضح المناصرة مع الأولى حاول مهادنة الثانية؛ لم يهاجمها ولكنه لم يبالغ في مدحها كثورة 1919م.

ترى ما الأسباب التي أحيت الحس الثوري لدى العقاد؟ ولماذا تأرجح موقفه بين الإيمان المطلق بثورة 1919م حتى التأييد الأقل لثورة 1952؟ ولماذا عاداه الملك فؤاد قبلها وسجنه؟

هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا التقرير، مع إيماننا أن حياة الراحل العقاد، ومن ثم جانب الثورية فيها وموقفه من ثورتين شهدهما في حياة، كلا الأمرين يفتحان الآفاق على تاريخ ووقائع أغزر من أن تحيط بها مثل هذه المساحة.

أسباب نضوج الثائر

في مدينة أسوان بأقصى جنوب مصر ولد العقاد في 28 من يونيو/حزيران 1889م، والتحق بالمدرسة الابتدائية لينال شهادتها في عام 1903م وعمره 14 عاما، وبسبب ضعف إمكانيات الأسرة؛ ورغم ما أظهره من نبوغ، ما جعل الإمام المجدد محمد عبده حينما زار مدرسته يشيد به وبإمكاناته، بخاصة بعد مطالعته لدفتر الإنشاء الخاص به، فقال له إنه يتوقع له أن يكون كاتبا مشهورا، ورغم ما أبداه العقاد في صغره من وتفوق، إلا أن والده لفقره لم يستطع إلحاقه بمدرسة عليا، وفق نظم التعليم المتاحة آنذاك.

لاحقا عُين العقاد عام 1905م موظفا في مديرية قنا آنذاك، ثم نقل إلى الدقهلية، ومنها للشرقية، وكان الراحل يضيق بحياة الوظيفة ويسعى إلى الانطلاق، بخاصة بعد أن صقل علمه ومعارفه بالقراءة، ولم يكتف باللغة العربية، بل علم نفسه اللغة الإنجليزية وصار يطالع كتبها، وما أن توفي أبوه عام 1907م حتى أخذ قراره بالانتقال إلى القاهرة، ودخول عالم الصحافة.

أزمتا إتمام تعليمه وعدم نجاحه في الحياة الوظيفية أثرتا عليه، ولاحقا سيضطر للعودة لوظيفة في ديوان وزارة الأوقاف في القاهرة عام 1912م، بعد وفاة الأديب محمد فريد وجدي، وكانا يصدران معًا جريدة الدستور؛ ثم ترك العقاد الوظيفة مجددا، ثم ترك الصحافة واتجه للتدريس، ثم عاد إلى الصحافة، كل مظاهر هذا التقلب، مع شعوره بعمق أفكاره وندرة قدراته، مع ما كان يراه في بلده مصر والأمة العربية من مظاهر جهل بل تخلف، ترك لديه شعورا مريرا، كل ذلك أثّر في العقاد منذ شبابه.

احتواء ولمعان ثوري

كان لاحتواء الزعيم سعد زغلول لشخصية العقاد، إضافة إلى ما كان يعتور ويدور داخل نفس الأخير من نذر ثورية، ورغبة جارفة في تغيير الأحوال الداخلية في البلاد؛ كان لكل ذلك أثره الكبير في تأييد العقاد المطلق لثورة 1919م، بل إنه كان من أشهر كتابها آنذاك؛ وأحد أبرز المدافعين عنها والحاملين لواءها؛ ومن بين ذلك الفقرة التي يرصد فيها الأحداث في تركيز شديد؛ وقد أعاد نشرها في كتابه، "سعد زغلول سيرة وتحية"، الصادر عام 1936: "بدأ شهر مارس/ آذار 1919 والأفق السياسي ينذر بهبوب العاصفة، فكانت تسوده حالة من هياج الأفكار، والأحوال تدل على إصرار الحكومة البريطانية على تثبيت حمايتها التي فرضتها 1914، ومع مماطلة الاحتلال في سفر الوفد المصري إلى مؤتمر الصلح لعرض القضية المصرية، كانت فكرة التوكيلات التي أقبلت كل الطوائف في حماس منقطع النظير على توقيعها، آخر المساعي الممكنة".

على أن مواقف العقاد الداعمة لثورة 1919م لم تكن شيكًا ثوريا ممهورا أو موقعا من على بياض، بل إنه كان يُراجع زعيم الثورة مراجعة شديدة؛ حتى أن سعدا قال له ذات مرة، بعد أن طالت المناقشة بينهما واشتدت:

ـ "لو حاسبني كل فرد فى الأمة حسابك لعجزت عن أعباء وكالتي عن الأمة"

  فأجابه العقاد على الفور:

ـ  "ولكن ليس كل فرد فى الأمة عباس العقاد"

فما كان من الزعيم المحنك المدرك لأقدار الرجال آنذاك، إلا أن أكد كلمات العقاد قائلا:

ـ "نعم ليس كل فرد فى الأمة عباس العقاد صدقت".

فطنة وقوة شباب

حنكة وفطنة سعد تضافرت واجتمعت مع قوة نذر الثورة واجتماع أسبابها داخل نفس العقاد؛ ومن هنا جاء إيمانه المطلق وتسليمه بثورة 1919؛ بل إن العقاد ألف كتابا عن سعد أسماه: "سعد زغلول سيرة وتحية" وكتب فيه:

"وقد لازمت سعدا سنوات ووافقته كثيرا وخالفته كثيرا كما يعلم القراء، فلا أذكر يوما أنه طلب منى أو طلب من غيري أمامي أن نكتب فى رأيي بغير ما نراه، وإنما كان أسلوبه فى هذه الحالة أن يفتح باب المناقشة فيما يريد الكتابة فيه، فإن خالفناه وأقنعناه لم يطلب منا كتابة، ولم يلمح إلى طلبها أقل تلميح، وكثيرا ما كان يتلطف فيقول: انت جبار المنطق يا فلان.. وهذا هو اللقب الذي تفضل فأطلقه على كاتب هذه السطور".

الأمة وسحق الرؤوس

وفي عام 1930م كان العقاد نائبا في البرلمان المصري، وعلى حين غفلة رأى الحاكم آنذاك الملك فؤاد تغيير مادتين من أهم مواد الدستور، واشتعل الشارع السياسي المصري رفضا عوضا عن أن يسمع ويطيع، كما كان الملك يظن ويريد.

كانت المادتان الخاصتين بأن الأمة مصدر السلطات، والوزارة مسؤولة أمام البرلمان، واللتان أرسلت حكومة مصطفى النحاس باشا طلب إقرارهما بالفعل من الملك؛ لكن الأخير ضاقت نفسه ذرعا بالنظام الدستوري كله، فقطع الطرف عن المرسوم الحكومي؛ ولم يأبه بتقديم الحكومة كلها استقالتها في المقابل.

وانبرى نواب البرلمان في الدفاع عن الحكومة في اليوم التالي، وكان من بين الحاضرين رئيس الحكومة المستقيلة النحاس وجميع أعضائها، ولما جاءت كلمة عضو البرلمان العقاد، فجّر مفآجأة من العيار الثقيل إذ صرخ مهددا: "إن هذا المجلس قادر على سحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته".

وتناقلت الكلمات الصحف المصرية في اليوم التالي؛ وما إن قرأها الملك حتى ثارت ثائرته مقررا تسليم العقاد للسجن عبر محاكمة هزيلة؛ وبالفعل في أكتوبر/تشرين الأول 1930 وقف الأخير أمام القضاء، وحاول الوفدي الكبير مكرم عبيد الدفاع عنه، وتأويل الكلمات على أن المقصود بها رئيس الحكومة النحاس؛ وإن تفسيرها على أنه الملك تفسير يراد به الانتقام من العقاد ليس إلا.

كانت للعقاد يومئذ معاركه الأدبية الملتهبة بدأها مع الأديب طه حسين، ثم ثناها بأعنف معاركه وكانت مع الأديب مصطفى صادق الرافعي، ولاحقا معركة قاسية مع أمير الشعراء أحمد شوقي، لكن أن يصل الأمر به إلى السجن فذلك ما كان جديدا عليه، وتوقع له جميع المراقبين للحياة السياسية أن يتدخل الملك في اللحظات الأخيرة قبل التنفيذ مصدرا عفوه، إلا أن الأخير لم يكن يلوح بالعقاب القاسي الشديد بل كان يقصده تماما؛ لذلك فضل الصمت وعدم التعقيب.

لاحقا حاول النظام بأكمله تجاوز هذه الخطيئة الكبرى، بخاصة بعد ما واجهه من هجوم كبير، وكان على وزير الحقانية الذهاب لمقابلة العقاد في سجنه، إلا أن الكاتب والسياسي الثائر رفض بحزم شديد المقابلة، مؤكدا أنه ليس في حاجة إلى أي مساعدة من هذا النظام الظالم لديه.

يبدو أن سجن العقاد الذي لم يكن يتوقعه ترك مرارة كبرى في نفسه، وحجّم من آماله وأمانيه في التغيير السياسي الشامل في مصر، وهي الأماني والأحلام التي اشتعلت مع ثورة 1919م، وخمدت قليلا بعد نجاح الثورة في الإلتفاف الحكومي حولها وتحقيق عدد من المكاسب الأخرى، لكن الاحتلال الإنجليزي ظل قابعا على أعناق البلاد والعباد، واستمر الملك على عهده من مهادنة المحتل؛ والأهم أن المصريين لم يتغيروا، وأن مظاهر الفقر والأمراض، وأجواء الجهل وعدم الأمية ظلت على أحوالها.

بقيت في نفس العقاد غصة لم تخفف منها أو تواسيها حتى كتابته لكتاب من مائة كتاب خلفها من بعده هو "عالم السدود والقيود"، وقد تناول فيه بالتفصيل كواليس وكوابيس السجن.

المرحلة الوسطى و1952م

بعد إفاقته من كواليس وكابوس السجن كأنما انفتح العقاد على مرارة الواقع وقسوة التجربة السياسية، فظهرت وعاودت الوجود من جديد معاركه الأدبية، لكنه بعد سنوات قليلة قرر اعتزال حزب الوفد عام 1935م، إذ أنه لم يحظ بالمنزلة نفسها عند مصطفى النحاس كما كان يحظى بها لدى سعد زغلول.

وبدأت مرحلة ثورية حاول العقاد جعلها أقل قوة إلا أنه لم ينجح دائما، ومن هنا جاء كتابه عن هتلر الذي هاجم فيه النازية عام 1940م، وهو الموقف الذي اضطر العقاد إلى الهرب للسودان خوفا من بطش النازية عند دخولها مصر، وبالطبع استغلت بريطانيا الكتاب جيدا كدعاية لها.

وعندما قامت ثورة 1952م كان العقاد تجاوز الستين من عمره بثلاث سنوات، وبلغ به الاعتداد بنفسه مبلغا فلم يبادر لمساندة الثورة، أو حتى يطلب لقاء أحد من رموزها، كما لو كان الحس الثوري الأول الخاص بثورة 1919م بداخله تغير، وصار محله حس أقرب للتوجس والقلق والانتظار.

آنذاك كان العقاد الكاتب الوحيد الذي يكتفي بكتبه، فلا يركن إلى الدولة من أجل وظيفة أو ثروة، مفضلا رفع هامته عاليا وعدم الخضوع لأحد، ويروي الراحل الشيخ أحمد حسن الباقوري في كتابه "بقايا ذكريات"، الصادر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 1984م، وكان وزيرا للأوقاف بعد الثورة ووقت القصة التالية، أنه عرض على العقاد لقاء عبد الناصر في بيت الأول، فكان رد العقاد أنه سيحضر اللقاء متأخرا، فإذا تراخى عبد الناصر عن القيام لمصافحته فسيغادر المكان كله.

ولكن مع مرور الوقت عين نظام عبد الناصر العقاد في المجلس الأعلى للفنون والآداب، ثم عاتب العقاد المسئولين القائمين على الحركة الثورية أنهم في جوائز الدولة التقديرية لم يقربوا الذين لم ينالوا شهادات جامعية، فسارع النظام بمنحه جائزة الدولة التقديرية 1959م .