الحراك الشعبي في السودان.. الأسباب والآليات واتجاهات التغيير
ربما لا تكون الأزمة الأخيرة التي يشهدها السودان منذ 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018، وليدة اللحظة، وإنما امتدادا لأزمة سبتمبر/ أيلول 2013 "انتفاضات الخبز والوقود"، وربما ظلت مكتومة بعض الشئ طيلة هذه الفترة، لكنها لم تنته، ثم عادت للتعبير عن نفسها بعد عام 2017 مع الميزانية التي وضعتها حكومة الوفاق الوطني في حينها برئاسة الفريق بكري حسن صالح، التي ترتب عليها تدهور في قيمة العملة الوطنية أمام الدولار؛ الذي ارتفع سعره بصورة كبيرة في السوق السوداء، فضلا عن وجود ندرة في العملة الوطنية، وظهور طوابير معتز موسى، إلا أنها كانت تغييرات شكلية؛ حيث تم الإبقاء على معظم الوزراء بحكومة بكري.
كما أن الحكومة الجديدة، لم تستطع وقف تدهور العملة (الدولار الرسمي = 47.5 جنيهًا)، ويبلغ الضعف في السوق السوداء، أو توفير المواد الأساسية، بل أعلنت رفع أسعار الخبز "من جنيه سوداني إلى 3 جنيهات" والتلميح برفع أسعار الوقود، ما أدى الى تفجر الأوضاع في 19 ديسمبر بداية من مدينة عطبرة الصناعية شمال شرق الخرطوم، ومنها اندلعت لباقي أنحاء البلاد بما فيها العاصمة الخرطوم[1].
وتقدم "الاستقلال" تقدير موقف يتناول أسباب التطورات الأخيرة، وأبرز الملاحظات بشأنها، ومواقف كل طرف من الأطراف الرئيسية الداخلية والخارجية، واتجاهات التغيير المتوقعة، لا سيما في ضوء خطاب البشير في 22 فبراير/شباط الماضي، الذي وضع فيه من وجهة نظره خطة طريق للبلاد.
ملاحظات بشأن المظاهرات
بنظرة سريعة على المظاهرات الأخيرة، يمكن استنتاج عدة ملاحظات أبرزها فكرة العفوية، بمعنى أنها لم تكن مظاهرات بدعوة من قوى سياسية معينة، وإنما كانت حراكا تلقائيا نتيجة لمطالب اقتصادية في الأساس، فقد حركتها بعض الحركات الشبابية، مثل حركة "قرفنا" و"شباب من أجل التغيير"، حيث دعت الأولى الشباب عبر عدد من المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، للاحتجاج والتظاهر[2].. ثم تطورت بعد ذلك لمطالب سياسية متمثلة في التأكيد على ضرورة رحيل النظام.
هذه العفوية والتلقائية تفسر أسباب اندلاع المظاهرات بداية في الأقاليم " أم درمان وغيرها" ثم انتقلت للعاصمة وغيرها من الولايات (14 من 18) عكس انتفاضتي 1964، 1985.
ولعل السمة الثانية هي أن الشباب والطلبة والمثقفين كانوا قوامها الأساسي، صحيح أن هناك شرائح أخرى لم تنضم إليها؛ كونها مستفيدة من النظام الراهن، أو خشيتها من المجهول، لكن يمكن القول أنها تعدت فئات كثيرة من المجتمع، بما فيها بعض الطرق الصوفية التي لديها تأثير شعبي كبير في البلاد.
أما السمة الثالثة فهي المتعلقة بالنهج الذي انتهجته المظاهرات، وهو مبدأ السلمية وعدم اللجوء للعنف أو التخريب لأكثر من اعتبار، الأول التفريق بين النظام السوداني والدولة السودانية، وأن المطلوب هو إسقاط البشير وليس الدولة؛ لأن انهيارها يشكل خسارة للجميع، والثاني عدم إعطاء النظام ذريعة لاستخدام القمع ضدها، لا سيما أنه بدأ يلوح منذ بدايتها لوجود مندسين ومرتزقة بها يعملون لصالح قوى خارجية.
هذا الطابع السلمي والإصرار عليه، جعلها تتميز بطول الأمد، مقارنة بثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 » التي أطاحت بالفريق إبراهيم عبود، و«ثورة أبريل/نيسان 1985» التي أطاحت بالرئيس جعفر نميري، وقلة عدد ضحاياها مقارنة بغيرها من الانتفاضات والاحتجاجات "أقل من 50 شخصا حاليا مقارنة ب 200 شخص في انتفاضة سبتمبر/أيلول 2013[3].
المواقف الإقليمية والدولية
1- الموقف الإقليمي
من الملاحظ وجود حالة من الدعم" السلبي" بمعنى عدم دعم البشير أو المعارضة معا، أو الدعم الإيجابي "دعم البشير، دون المعارضة من الدول الإقليمية أو حتى الدول الأخرى خارج الإقليم. فيلاحظ أن مصر والسعودية والإمارات باعتبارهما الدول الأبرز حاليا، تؤيد البشير لحسابات خاصة بكل منهما، قد تتقاطع أحيانا، وقد تتباين في أحايين أخرى. كما تقف قوى أخرى أبرزها موسكو وبكين في جانب البشير.
بالنسبة للسعودية يعد السودان عضوا رئيسيا الآن في التحالف العربي الذي تقوده السعودية والإمارات في اليمن بعد انسحاب بعض الدول منه، وتقدر هذه المشاركة السودانية بستة آلاف شخص رغم وقوع خسائر في صفوفها.
فبحسب قائد قوات الدعم السريع في السودان فإن قواته المشاركة في الحرب باليمن، فقدت 412 عسكريا، بينهم 14 ضابطا، ومع ذلك أصر البشير على الاستمرار في التحالف[4]، رغم عدم حصوله على مقابل مادي شبيه بالذي حصل ولا يزال يحصل عليه السيسي، رغم عدم مشاركة قوات مصرية برية في الأمر. وإن كانت بطبيعة الحال هناك بعض المزايا التي دفعته للمشاركة في التحالف، فالسعودية ثاني أكبر شريك تجاري للسودان بعد الصين.
كما أن حجم الاستثمارات السعودية في السودان كبير ويقدر بنحو 13 مليار دولار في نحو 590 مشروعًا تعمل في القطاعات الصناعية والزراعية والتعدينية[5]، كما أن انضمام السودان للرياض في أزمتها مع إيران عام 2016، بل وقيامها بقطع العلاقات معها، ساهم في تعزيز مثل هذه العلاقة، وإن اختلف الأمر بعض الشيء بالنسبة لحصار قطر "يونيو|حزيران 2017" وتفضيل السودان الحياد لحسابات خاصة.
بالنسبة للإمارات، فبالإضافة لكونها الحليف الأساسي للسعودية، هناك موافقة سودانية بل ودعم للجبهة التي تقودها أبو ظبي حاليا لإعادة دمج النظام السوري في الجسد العربي. وربما جاءت زيارة البشير المفاجئة لسوريا لتصب في هذا الاتجاه من ناحية، وربما لإرضاء روسيا وإيران والتقارب معهما من ناحية ثانية[6]. وربما يأتي في هذا الاتجاه أيضا منح عقد امتياز في ميناء بور سودان لشركة فلبينية مقرها أبوظبي.
أما بالنسبة لقطر، فرغم إعلان دعمها الدبلوماسي بل والمادي لنظام البشير في بداية الأحداث؛ وذلك لموقف الخرطوم المحايد من حصار قطر، وسعي الدوحة لكي يكون لها موطئ قدم في السودان لأسباب مختلفة بعضها يتعلق بجوانب اقتصادية "استصلاح زراعي وأمن غذائي"، وأخرى سياسية "قوى داعمة لها"، أو ثالثة جيوسياسية خاصة بموقع السودان الهام على البحر الأحمر، ولكونه قبل انفصال الجنوب، بوابة العرب صوب القارة السمراء.
ورغم اهتمام الدوحة بهذا الدعم، فإنها لم تذهب بعيدا بشأنه خاصة ما يتعلق بالدعم المادي، وربما كانت زيارة البشير الأخيرة، والاستقبال الفاتر في الدوحة له، فضلا عن تصعيد تغطية الجزيرة للأحداث بعد فترة ترو، كل هذا ربما يكون رغبة من الدوحة في عدم إظهارها دعم بعض النظم الموسومة بالاستبدادية، بل ودعم الشعوب منذ الربيع العربي. ومع ذلك استقبلت الخرطوم في اليوم التالي لخطاب البشير "22 فبراير" وزير الدفاع القطري كممثل خاص لأمير البلاد[7].
أما بالنسبة لمصر، فيلاحظ أن السيسي يخشى من عدوى نظرية الدومينو، لا سيما في ظل الاحتقان الشعبي منذ فترة، والذي يمكن أن ينفجر أيضا بصورة عشوائية. وبالتالي فإن السيسي حريص على دعم البشير رغم التباينات بينهما في العديد من الملفات أبرزها سد النهضة، وموضوع حلايب، واستضافة بعض القيادات الوسيطة في الإخوان.
بل ربما يحاول السيسي الاستفادة من مأزق البشير الراهن لمحاولة حلحلة بعض الملفات خاصة سد النهضة، وفض التقارب مع إثيوبيا، وموضوع قيادات الإخوان، ناهيك عن فك التحالف أو التقارب بمعنى أدق مع تركيا وقطر [8]، بل وهناك سبب آخر يتمثل في محاولة قيام مصر، بالإضافة للسعودية والإمارات لإحداث حالة من التطبيع بين الخرطوم وإسرائيل، وربما يكون اللقاء الأخير الذي كشف عنه موقع ميدل إيست بين مدير المخابرات السوداني صالح قوش بنظيره من الموساد كوهين يصب في هذا الاتجاه، لاسيما بعد وجود تلميحات من نتنياهو بعد تطبيعه مع تشاد، على أن الخطوة القادمة ستكون مع دولة عربية، ثم موافقة السودان بعد ذلك على السماح لطائرة نتنياهو بالعودة من تشاد إلى تل أبيب عبر أجواء جنوب السودان التي تتطلب موافقة الخرطوم.. وفي حال تم اللقاء بعلم البشير، فمعنى هذا أن بقاءه له دور هام في عملية التطبيع، خاصة وأن إسرائيل ترغب في فتح أجواء الخرطوم أمام طيرانها القادم من وإلى أمريكا اللاتينية.
أما الاحتمال الآخر، بمعنى أن اللقاء مع الموساد تم بدون علم البشير، فإن هذا يعني أن الأطراف الثلاثة تسعى لتجهيز قوش ليكون خليفة للبشير[9]، وحتى في هذه الحالة فإنها لن تنصاع أو تميل لكفة المظاهرات، لا سيما وأن قوش يميل أيضا إلى التعامل العنيف مع المظاهرات، ويعتبر أحد أركان الدولة.
2- الموقف الدولي
هناك المحور الروسي الإيراني الصيني، مقابل المحور الأمريكي، فالولايات المتحدة رغم استمرار بعض عقوباتها ضد الخرطوم "المرتبطة بتصدير السلاح ودارفور"، ، إلا أنها تبدو غير مكترثة بما يحدث في السودان، لا سيما في ظل تعاون البشير شبه التام في مجال مكافحة الإرهاب، فضلا عن قطع علاقاته مع إيران، ناهيك عن التطبيع المحتمل مع إسرائيل. كل هذا ربما يجعل من الأفضل إبقاء الوضع كما هو عليه.
أما بالنسبة لروسيا، فالعلاقات بين الجانبين استراتيجية، لاسيما في ظل التوتر الدائم في العلاقات بين واشنطن والخرطوم. وبالتالي فإن موسكو لن تتخلى عن البشير؛ لاسيما كونها الداعم الأول للسودان في المجال التسليحي.. وقد شهدت العلاقات السياسية وكذلك العسكرية بينهما تطورا ملحوظا معظم الوقت خاصة بعد استقلال السودان عام 1956، حيث زار ليونيد برجينيف رئيس الاتحاد السوفيتي (1964- 1982) الخرطوم عام 1961. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، اعترف السودان عام 1991 بروسيا كوريثة له، وباتت موسكو المورد الأول للسلاح خلال حرب الجنوب، كما قامت بتدريب قادة وجنود الجيش السوداني حيث فتحت كلياتها العسكرية للالتحاق بها، ومنحت السودان رخص تصنيع السلاح الروسي تحت مسميات سودانية.
وفي مجال بيع السلاح كانت موسكو المصدر الأول للسلاح في السودان، الأمر الذي أعطاها ميزة نسبية في مواجهة الحركات المسلحة في الداخل وردع القوى الخارجية، لذا لا غرابة في أن يرد لها البشير الجميل، فيفاجئ الجميع خلال زيارته الأولى لروسيا في نوفمبر 2017، بمطالبته الروس بإقامة قاعدة لهم في أراضيه على البحر الأحمر بدعوى حماية بلاده من التهديدات الأمريكية التي أدت إلى تقسيم السودان لـ 5 أقسام[10]، كما تم الاتفاق مؤخرا مع شركة سودابت" لإقامة مصفاة لتكرير البترول على البحر الأحمر.
أما بالنسبة للصين، فهي أيضا حليف تقليدي للخرطوم، والسياسة التي تستند لها بكين تقوم على التواصل مع النظم المغضوب عليها غربيا وأمريكيا مثل نظام البشير إبان العقوبات، وموجابي في موزمبيق[11]، بل إن الشركات الصينية وكذلك الماليزية استفادت كثيرا من انسحاب شركات البترول الأمريكية من الخرطوم تنفيذا للعقوبات، لكي تحل محلها وتقوم باستثمارات ضخمة تعود بالنفع على الجانبين " طبعا قبل انفصال الجنوب، حيث إن ثلاثة أرباع النفط السوداني صار من نصيب الجنوبيين.
آليات النظام في التعامل مع الأزمة
لقد اعتمد النظام على مجموعة من الآليات في التعامل مع الأزمة وتطورها، ففي البداية وبعد يوم واحد من اندلاعها، حرص على امتصاص هذه المظاهرات ما دامت محدودة، واتخاذ موقف يجمع بين التهدئة والوعد ببدء إصلاحات اقتصادية باعتبار الأزمة اقتصادية بالأساس، مع التهديد باستعمال القوة مع من وصفهم بالمندسين والمخربين، وتلويح البشير في خطابه في ذكرى الاستقلال بإمكانية أن تتحول البلاد لسوريا أو اليمن أو ليبيا بسبب هؤلاء[12].
وفي ذات الوقت تعهد البشير بإجراء إصلاحات اقتصادية، وهو ما أكد عليه مدير المخابرات صالح قوش بعدم رفع الدعم عن الدقيق والوقود مستقبلًا[13]، وأن هناك إجراءات سوف تتخذها الحكومة ستؤدي إلى انفراجه بحلول يناير 2019، حيث شرعت الحكومة في طرح عطاءات لاستيراد القمح والدقيق، ووقّعت اتفاقًا مع جنوب السودان للحصول على النفط.
لكن عندما اشتد أوار الأزمة وكثافتها العددية والجغرافية، بدأ يفطن لخطورتها، فعمل ليس فقط على تحييد المؤسسة العسكرية والأمنية، بل وجذبها إلى صفها.. حيث أشار خلال ظهوره في حامية عسكرية في عطبرة في يناير الماضي لإمكانية زيادة دور الجيش السياسي، عبر تسليم السلطة له باعتباره القوة القادرة على حماية البلاد[14]. وربما هذا أحد أسباب وضوح الموقف العلني للجيش وكذلك الشرطة من إعلان تأييد النظام، بل وحدوث مواجهات مع المتظاهرين وصلت لدرجة استخدام الرصاص الحي، ومقتل قرابة 37 شخصا وفق بعض المنظمات الدولية.
أما الآلية الثالثة التي اتبعها البشير، فهي التخلص من الخصوم داخل حزبه خاصة من الإسلاميين، فمن الواضح بروز هذه الخلافات بينه وبينه حزبه، حيث يتهم كل منهما الآخر بأنه السبب فيما يحدث، وأن الخارج يريد هذا الطرف دون ذاك "البشير يرى أن القوى الإقليمية تريده دون الإسلاميين، وأنصار حزبه يرون أنه يشكّل عقبة كؤود كونه مدان جنائيا. وهناك من يصف ما قام به من تعيين والي كردفان أحمد هارون المدان جنائيا أيضا في منصب نائب الحزب ثم تفويضه رئاسته، بمثابة انقلاب على مؤيديه([15])، لاسيما أن هارون، ورئيس الوزراء الجديد طاهر ايلا من أشد المعارضين للحركة الإسلامية.
كما سعى البشير أيضا إلى اعتقال رموز المعارضة المؤثرين في الحراك الشعبي. فقبيل يوم واحد من خطابه"22 فبراير" قامت قوات الأمن باعتقال مريم الصادق المهدي، نائبة رئيس حزب الأمة القومي، وسارة نقد الله، الأمينة العامة لحزب الأمة، ومحمد مختار الخطيب، زعيم الحزب الشيوعي السوداني، ومحمد يوسف أحمد المصطفى، القيادي في تجمع المهنيين[16].
وفي خطابه في 22 فبراير/ شباط وضع البشير خارطة طريق للمرحلة القادمة، تتضمن مجموعة من الإجراءات لحل الأزمة من وجهة نظره أبرزها ما يلي[17]:
- فرض حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد لمدة عام واحد.
- حل حكومة الوفاق الوطني.
- حل الحكومات الولائية (الولايات).
- دعوة البرلمان لتأجيل النظر في التعديلات الدستورية المطروحة عليه، فتح الأبواب أمام إثراء الحياة السياسية بالحوار البناء والمبادرات الوطنية الخالصة.. مع تأكيده على دور القوات المسلحة في تحقيق الاستقرار، وكذلك التأكيد على أن وثيقة الحوار الوطني التي تم إنجازها سابقا هي الإطار للحل. ودعوة قوى المعارضة (المقاطعة) للانضمام إليها.. هذا الخطاب يدفعنا إلى الحديث عن النمط الذي اختاره البشير في عملية التغيير أو الانتقال الديمقراطي.
البشير ونمط التغيير من أعلى
يمكن القول بوجود 4 اتجاهات رئيسية في عملية التغيير والانتقال الديمقراطي[18] تختلف في تفاصيلها وملابساتها "3 منها داخلية " والرابع "خارجي".
فبالنسبة للثلاثة الداخلية هناك التغيير من أعلى "ويقصد به هنا من قبل النظام ذاته، أو من قبل تيار قوي إصلاحي داخل النخبة الحاكمة مقابل ضعف المعارضة السياسية، حيث يدرك الطرفان "النظام والنخبة الإصلاحية" باستحالة بقاء الوضع كما هو عليه "الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي"، لكن يكون الاختلاف حول درجة أو حجم التغيير، فقد يكون تغييرا شكليا يقوم به النظام تخفيفا للاحتقان من قبيل إقالة الحكومة وتحميلها كل أوزاره، والإتيان بحكومة جديدة يصنعها على عينه أو يوكل تشكيلها لقوى المعارضة مع صلاحيات شكلية أو حتى محدودة. وربما هو ما أخذ به البشير الآن.
أما التغيير من قبل فصيل قوي "إصلاحي" من النخبة الحاكمة، فقد يكون أكثر شمولا من الحالة الأولى بحيث نكون بصدد إصلاحات سياسية حقيقية أو حتى تغيير شامل للنظام؛ كحالة إسبانيا وبروز التيار الإصلاحي بقيادة خوان كارلوس بعد رحيل الديكتاتور فرانكو عام 1975 وقيامهم بتغيير شامل.. وفي حالة السودان ربما يكون بروز هذا الخيار غير وارد حتى الآن لسبب بسيط هو استمرار البشير، كما أن التيارات الإصلاحية التي خرجت عنه كانت معارضة له من قبل، وتراجعت شعبيتها بصورة كبيرة لاسيما في ظل الخلافات والانقسامات بينها سواء بفعل عوامل داخلية أو بفعل النظام ذاته.
النمط الثاني وهو التغيير من أسفل، أي من جانب قوى الشعب والقوى السياسية المعارضة للنظام... ويتوقف هذا النمط على متغيرات عدة منها قوة أطراف المعادلة السياسية الرئيسية "النظام، المعارضة" ومواقف الجيش وقوى المجتمع المدني، ناهيك عن الموقف الخارجي.
وبالتالي فإذا كانت القوة متعادلة بين الجانبين، فيمكن التوصل إلى حلول وسط أو تسوية تضمن انتقالا ديمقراطيا حقيقيا وانفراجة حقيقية، وليست شكلية كحالات كثيرة أبرزها جنوب إفريقيا إبان مانديلا وغيرها في أمريكا اللاتينية، أو قد يكون التغيير شاملا حال ميل الكفة كلية لصالح المعارضة من خلال نجاح الثورة السلمية، أو تعرض النظام لأزمة خارجية تؤدي إلى سقوطه "هزيمته في حرب مثلا" كحالة الأرجنتين بعد حرب الفوكلاند 1982.
وبالتطبيق على الحالة السودانية نجد أن موضوع التوصل إلى تسوية رغم أنه قد يكون هو الأقرب في الأمد المنظور، إلا أنه سيحتاج وقتا، لاسيما وأن قوى المعارضة مطلوب منها توسيع قاعدة الاصطفاف الوطني ونبذ الخلافات بينها من ناحية، وربما هناك تطورات مهمة في هذا الشأن مثل ميثاق الخلاص الذي طرحه الصادق المهدي مؤخرا، أو ميثاق الحرية والتغيير بمشاركته وتجمع المهنيين الذي يقود الحراك الأخير، كما على هذه القوى إرسال رسائل طمأنة للقوى المشاركة للبشير بعدم المساس بها أو بمصالحها في محاولة لتحييدها أو ضمها إليها، ونفس الأمر بالنسبة للمؤسسة العسكرية.. أما غاية المنى وفق هذا التوجه فهو إسقاط البشير ونجاح الثورة على غرار ما حدث في ثورتي 1964، 1985، وهو ما يتطلب شروطا داخلية إضافية أهمها تحييد مؤسستي الدفاع والأمن كحد أدنى، أو انحيازها للشعب كحد أقصى.. وربما فطن البشير إلى هذا الأمر، فقام بالتعديلات الأخيرة لضمان ولاء الجيش والشرطة له من ناحية، وعدم اللعب عليهما من ناحية ثانية[19].
أما التغيير الداخلي الثالث فيتم من خلال المؤسسة العسكرية ذاتها مستغلة ضعف الطرفين الأساسيين "النظام والمعارضة"، ورغم أن السودان شهد عدة انقلابات عسكرية، إلا أنها كانت ضد نظم ديمقراطية وليست انقلابات ضد نظم عسكرية. وربما هذا هو الفارق الآن خاصة وأن النظام الحالي نظام عتيد، ناهيك عن سيطرته وأتباعه على كافة مفاصل الجيش، خاصة وأن التعديلات الأخيرة استهدفت استرضاءهم وتمكينهم من مفاصل العملية السياسية.
وبالتالي ربما يكون هذا الاحتمال غير وارد الآن، اللهم إلا إذا شعر بعض قادة الجيش أو نائب الرئيس الذي هو في ذات الوقت وزير الدفاع ضعف الرئيس مقابل زيادة المد الشعبي، عندئذ قد يتدخل للإطاحة به، لا سيما إذا حدث اتفاق بينه وبين قوى المعارضة، لكن هذا الأمر مرهون بمدى قبول هذه القوى استبدال حكم عسكري بحكم عسكري آخر.
أما النمط الرابع للتغيير فهو التغيير من الخارج سواء عبر التدخل العسكري المباشر بذرائع مختلفة "كالتدخل الأمريكي في أفغانستان 2001 لمواجهة طالبان، أو في العراق 2003 لإسقاط صدام، أو التدخل الإثيوبي بالوكالة في الصومال 2006 لإسقاط المحاكم الإسلامية .. أو عبر دعم القوى المعارضة للنظام بمختلف أنواع الدعم لإسقاط النظام "كالدعم السعودي الإماراتي للسيسي في الانقلاب ضد مرسي 2013" وغيرها كثير. لكن من الواضح أن هذا الدور غير وارد أيضا حتى الآن، ربما لأسباب عدة منها ذكرناها آنفا بخصوص مواقف القوى الإقليمية والدولية.
وبالتالي ووفق هذه الأنماط السابقة، اختار البشير نمط التغيير من أعلى تفويتا للفرصة على المعارضة من ناحية، ولضمان عدم وجود نخبة معارضة له من داخل النظام تطالب بتغييرات أوسع من ناحية ثانية، ولكسب ولاء الجيش من ناحية ثالثة، ولإدراكه بالتخوفات الشعبية من المجهول، وبأن الشعب يرغب أولا في تأمين احتياجاته الأساسية، ويخشى من الرهان على المعارضة، لذا قام بتوفير بعض السلع السياسية سواء عبر قروض أو مساعدات خارجية، وقيامه في المقابل بتشكيل مفوضية للفساد باعتبار أن هذا المطلب يعد أحد المطالب الشعبية.
آليات المعارضة في التعامل مع الأزمة
بطبيعة الحال كان الرفض هو سيد الموقف لقوى المعارضة ومنها قوى الإجماع الوطني، حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، الحركة الشعبية قطاع الشمال، حركة تحرير السودان-عبد الواحد النور فضلا عن تجمع المهنيين الذي يقود الحراك حاليا. بل كانت هناك حالة امتعاض داخل القوى المؤيدة للنظام خاصة من قبل المؤتمر الشعبي" حزب حسن الترابي" وخشية هؤلاء من وجود أياد إماراتية سعودية مصرية لإقصاء الإسلاميين.
لكن ماذا عن الخطوة القادمة؟
قبل الحديث عن الخطوة القادمة للمعارضة وفاعليتها لا بد من إلقاء نظرة سريعة عليها تفيدنا في عملية التحليل والتنبؤ بمسار حراكها ومدى فاعليته.
تتشكل قوى المعارضة في السودان من القوى التقليدية والمتمثلة في الأحزاب التقليدية مثل الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، والحزب الاتحادي" الميرغني" والمؤتمر الشعبي" الترابي" ، والشيوعين والبعثيين وغيرهم. ثم بدأت هذه القوى تشكل كيانات خاصة بها، فظهر تجمع نداء السودان الذي يضم الأمة القومي، الاتحاد الديمقراطي الأصل، المؤتمر الشعبي، وعهد برئاسته للصادق المهدي، في حين ذهبت قوى أخرى في 2009 لتشكيل تجمع قوى الإجماع الوطني برئاسة فاروق أبو عيسى ويضم 17 حزبا أبرزها الأمة، الشيوعي، الحركة الشعبية فرع الشمال وغيرها. وفي عام 2012 أصدرت هذه القوى المعارضة وثيقة بعنوان البديل الوطني تشبه وثيقة الإجماع الوطني الأخيرة في بنودها المتعلقة بإسقاط النظام بصورة سلمية عبر المظاهرات والإضرابات، حكومة انتقالية، إعلان دستوري. ومع الأحداث الأخيرة، برز إلى السطح تجمعا نقابيا جديدا عرف باسم تجمع المهنيين ويضم عددا من ممثلي النقابات غير الخاضعة لسيطرة الدولة.
ومع مطلع يناير 2019، وقّع "التجمّع" إعلاناً باسم "الحرية والتغيير" مع 3 تحالفات معارضة رئيسة، هي: تحالف "نداء السودان" المكوّن من أحزاب مدنية وحركات متمردة، تحالف "قوى الإجماع الوطني" الذي يضمّ أحزاباً معارضة في الداخل، والتحالف الاتحادي الذي يضم فصائل تابعة للحزب "الاتحادي الديمقراطي". بالإضافة لمجموعات مدنية أعلنت دعمها لإعلان "الحرية والتغيير".. وقبل خطاب البشير الأخير أعلن التجمع على لسان أحد قياديه ويدعى محمد يوسف المصطفى؛ أن التجمع وقوى المعارضة الأخرى "ماضية في استنزاف النظام حتى يسقط لوحده"[20].
هذا التصريح وإن كان يشير إلى الهدف النهائي، لكنه لم يتحدث عن تفاصيل حدوث ذلك، وعن بدائل سقوط النظام، وطبيعة المرحلة الانتقالية، وماذا لو فشلت المعارضة في إسقاط النظام.. هل يمكن التوصل إلى اتفاق سياسي وفق نمط التغيير بالاتفاق؟
يبدو أن المعارضة تعاني من وحدة الخطاب والمشروع، وإن كانت التحركات الأخيرة لها تسير في اتجاه إسقاط النظام، لكن لم تصدر تفاصيل ذلك، كما أن أي خطاب للداخل أو الخارج لا بد أن يحمل وصفة كاملة للمرحلة الانتقالية بعد البشير؛ لإعطاء الطمأنينة للداخل من ناحية، والبحث عن دعم خارجي من ناحية ثانية. لكن يبدو أن الطريق لا يزال طويلا أمامها، وأن النظام ربما يستخف بها؛ حيث قام باعتقال أبرز قياداتها قبل خطابه مباشرة، أو ربما يرغب في توجيه ضربة استباقية لها، تصعب من مهامها عبر وضعها أمام المؤسسة العسكرية والأمنية.
وبالتالي بات من الواضح أن عليها اتخاذ خطوات سريعة في إطار لملمة الصف والاتفاق على قيادة موحدة، وتقديم خارطة طريق متكاملة، والبحث عن بدائل، من أجل الوصول إلى الغاية القصوى" المأمولة والأكثر واقعية أيضا -من وجهة نظرنا-، وهي التوصل لاتفاق سياسي وفق مبدأ مكسب الكل win-win بمعنى بقاء النظام "بحكم الأمر الواقع"، وفي ذات الوقت وجود مشاركة سياسية حقيقية. فهل تقتنع بذلك، وهل من الممكن أن تسعى إليه؟