28 مليون تلميذ بلا خطة.. التعليم المصري بين ازدواجية المناهج وانعدام الهوية

داود علي | منذ ٥ ساعات

12

طباعة

مشاركة

مع بداية عام دراسي جديد، يعود وزير التربية والتعليم والتعليم الفني في مصر، محمد عبد اللطيف لإثارة الجدل مجددا بفتحه ملف المدارس الأجنبية ومناهج التعليم المستوردة.

وقال الوزير عبد اللطيف: إن المدارس المصرية اليابانية تعد “من أفضل النماذج التعليمية الناجحة”. مؤكدا “حرص الدولة على التوسع فيها بصفتها نموذجا يسهم في بناء شخصية الطلاب وصقل مهاراتهم الحياتية”.

لكن خلف هذا التصريح الإيجابي ظاهريا، تبرز إشكالية أعمق تتعلق بالمسار الذي يسلكه الوزير في إدارة ملف التعليم. 

فبينما يشيد اليوم بالنموذج الياباني ويعد بتوسيعه، كان قد فتح بالأمس القريب أبواب التعاون مع الألمان والفرنسيين والإيطاليين والصينيين، بل ودافع بحماسة عن النظام الأميركي بصفته جديرا بأن يحظى بمكان في التعليم المصري.

وهكذا يتحول المشهد التعليمي إلى ما يشبه لوحة متعددة الألوان، تتجاور فيها النماذج الآسيوية والأوروبية والأميركية، دون أن يوضح الوزير كيف يمكن لهذه التجارب المتناقضة أن تصبّ في مشروع وطني موحد. 

ومع وجود نحو 28.5 مليون تلميذ في التعليم قبل الجامعي، يمثلون ربع سكان مصر تقريبا، تصبح الأسئلة أكثر إلحاحا، هل البلاد أمام خطة مدروسة لبناء تعليم عصري شامل؟ أم مجرد “بازار” سياسي ودبلوماسي يفتقد إلى رؤية إستراتيجية ويهدد بذوبان الهوية التعليمية الوطنية؟

بازارات تعليمية

ومنذ نهاية عام 2024 وحتى مطلع خريف 2025، بدا أن أجندة وزير التربية والتعليم لا تعرف الاستقرار على نموذج واحد، بل تتنقل بين العواصم والثقافات كما لو كان يدير “بازارا” مفتوحا للتجارب التعليمية الأجنبية.

ففي 24 ديسمبر/ كانون الأول 2024، جلس مع سفير الصين لياو ليتشيانغ، معلنا أن 21 مدرسة مصرية بدأت بالفعل تدريس اللغة الصينية كلغة ثانية، ويرى أن التجربة الصينية "قد تساعد مصر على مواجهة أزمة الكثافات الطلابية". 

وبعد أسابيع قليلة فقط، وتحديدا في 16 يناير/ كانون الثاني 2025، خرج الوزير مدافعا عن نظام البكالوريا المستحدث لطلاب الثانوية العامة، مستخدما عبارة مثيرة للجدل: "حد يكره ابنه يدرس زي النظام الأميركي؟"، ليؤكد انفتاحه على البكالوريا الأميركية بصفتها نموذجا يستحق التعميم.

لم يتوقف الأمر عند ذلك، ففي 12 فبراير/ شباط 2025، استقبل وزير التعليم الإيطالي جوزيبي ‏فالديتارا ليتحدث عن توسيع الأكاديميات الفنية الإيطالية التي وصلت بالفعل إلى ثلاثين أكاديمية. 

ثم جاء 20 مارس/ آذار 2025 ليعلن من مكتبه عن اتفاق مع السفير الفرنسي إريك شوفالييه على خطة إنشاء مئة مدرسة فرنسية بحلول عام 2030، مشددا على أن التعاون لا يقتصر على تدريس اللغة، بل يمتد إلى نقل التجربة الفرنسية في تطوير المناهج. 

وبعدها بأشهر، وتحديدا في 10 يوليو/ تموز 2025، بحث مع السفير الألماني يورغن شولتس إطلاق مشروع المدارس المصرية الألمانية، متحدثا بحماسة عن طموحه في إنشاء مئة مدرسة جديدة أيضا. 

فضيحة ران

ولا يمكن إغفال أنه في الوقت الذي يواصل فيه الوزير عبد اللطيف التوسع في مشروعات المدارس الأجنبية، انفجرت عام 2024 فضيحة مدوية كشفت الوجه الآخر لهذه السياسة. 

ففي 10 أبريل/ نيسان 2024، اكتشف ولي أمر بأحد فصول مدرسة "ران" الألمانية بالتجمع الخامس بالقاهرة، أن كتاب مادة الأحياء للصف السادس الابتدائي يتضمن فصلا كاملا بعنوان "الميل الجنسي"، يحتوي على نصوص وصور صريحة تروج للشذوذ والعلاقات المثلية.

المفارقة أن المدرسة التي تعد من أرقى المؤسسات التعليمية الخاصة بمصروفات تصل إلى 138 ألف جنيه (2860 دولارا) سنويا، لم تتردد في تمرير هذا المحتوى.

الأمر الذي فجّر غضبا واسعا بين أولياء الأمور، ودفع بعضهم لترجمة الكتاب رسميا عبر مكاتب معتمدة للتأكد من فحواه. 

وما إن تأكدت الفضيحة حتى تحولت إلى بلاغ للنائب العام في 15 أبريل، تلاه استجواب برلماني عاجل وجدل إعلامي وصفه نواب بأنه "صاعقة".

إدارة المدرسة الأجنبية حاولت احتواء الأزمة بطرق وصفت بالمخادعة، مطالبة أولياء الأمور بتمزيق الصفحات محل الجدل، وإجبارهم على التوقيع على إقرارات بعدم تدريسها، بل وسعت إلى إقصاء المدرسين الرافضين لتلك المواد واستبدال بهم آخرين يلتزمون بالخط المرسوم. 

لكن الأزمة كشفت ثغرة أخطر، وهي غياب الرقابة المصرية على المناهج الأجنبية، وترك الباب مفتوحا أمام قيم دخيلة تتعارض مع طبيعة المجتمع.

منهجية السيسي

وليست هذه السابقة الأولى، فقد سبق أن أثارت صورة متداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي في ديسمبر 2017 جدلا واسعا، وذلك بعد أن ظهرت في أحد كتب اللغة الإنجليزية بمدرسة دولية، تصور "أسرا بديلة" تضم "أبوين من نفس الجنس" أو "أُمّين وطفلا". 

ورغم إعلان الوزارة فتح تحقيق، فإن القضية اختفت سريعا دون إجراءات رادعة.

المفارقة أن هذه الحوادث تتزامن مع سياسة رسمية أكثر انفتاحا على الاستثمار الأجنبي في التعليم؛ إذ سمحت الحكومة منذ يناير 2021 للأجانب بتملك المدارس الدولية والخاصة دون أي قيود، حتى لو كان المالك يحمل جنسية إسرائيلية.

وفي سياق آخر مخالف لطالما عبر رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي عن رؤيته بضرورة تغيير الخطاب الديني داخل أروقة التعليم.

وفي فبراير 2015، شكَّلت وزارة التعليم لجنة لمراجعة المناهج، حذفت أغلب النصوص التي تتعلق بـ"الجهاد"، وبدولة الاحتلال وباليهود في كتب الدين، واللغة العربية والتاريخ.

وفي سبتمبر/ أيلول 2019 اعتمد نظام السيسي توجها خاصا لتشجيع الأجانب على الاستثمار في مجال التعليم؛ حيث ألغى قرارا كان قد صدر بتحديد ملكية الأجانب في أية مدرسة بـ 20 بالمئة فقط.

‌وفي المقابل المناقض لإطلاق يد المدارس الدولية قامت منظومة السيسي بالتحفظ على المدارس الخاصة والدولية التي يديرها- أو يمتلك أسهما بها- أعضاء بجماعة الإخوان المسلمين، أو جمعيات أهلية إسلامية، أو أشخاص أصحاب توجهات إسلامية عموما.

ومما حدث أنه في عام 2018 قررت "لجنة التحفظ والحصر والإدارة والتصرف في أموال الجماعات الإرهابية" بحسب توصيف نظام السيسي، بالتحفظ على 104 مدارس إسلامية ومنح إدارتها لوزارة التعليم.

وهو الإجراء الذي لم يحدث أبدا مع مدارس أجنبية تروّج للشذوذ الجنسي بين الطلاب المصريين. 

الأمن القومي

وقال الخبير التعليمي المصري خالد خيري: إن المشهد التعليمي الحالي يعاني من اضطراب غير مسبوق في صياغة السياسات واتجاهات الإصلاح. 

وأكد خيري لـ"الاستقلال" أن “مصر لم تشهد في تاريخها هذا الاضطراب والارتباك في صياغة المشهد التعليمي".

وأضاف أنه "منذ سنوات طويلة عرفت بلادنا البعثات والمدارس الأجنبية، من الفرنسية إلى البريطانية، لكنها كانت محصورة في مناطق معينة ولفئات اجتماعية محدودة، بينما ظلّ التعليم العام محتفظا بهويته الخالصة التي تنتمي إلى القومية العربية والدين الإسلامي”.

وأكد خيري، وهو عضو اتحاد كتاب مصر والموجه السابق بوزارة التربية والتعليم، أن “ما يجرى اليوم هو هيمنة متزايدة للمدارس الأجنبية والمناهج المستوردة”، وهو ما وصفه بأنه "حرب مفتوحة على الهوية الوطنية". 

وشدد على أن "تحويل عشرات المدارس إلى أدوات لتفريخ أجيال مدجنة وممسوخة ثقافيا لا يمثل خطرا على التعليم فقط، بل على الأمن القومي المصري ذاته".

وفي معرض نقده لسياسات الوزير عبد اللطيف، أوضح خيري أن الانتقال المتسارع بين المشاريع التعليمية المستوردة من الشرق والغرب، من اليابان والصين إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأميركا “يعكس تخبطا وغياب خطة مركزية واضحة، بما يفتح الباب لتضارب المناهج وتعدد الطرائق وغياب الاستقرار التعليمي”.

آلية تدميرية

وقال خيري: “بينما تظل الأغلبية الساحقة من الطلاب في مدارس حكومية مكتظة تعاني من ضعف البنية التحتية وسوء أحوال الفصول ونقص تدريب المعلمين، توجه الجهود والموارد إلى مدارس أجنبية فاخرة تخدم شرائح محدودة، فأي عدالة هذه؟”

وأشار إلى أن هذه المشاريع تسوق في الإعلام على أنها إنجازات "دبلوماسية"، أشبه بملفات علاقات عامة مع السفارات الأجنبية، أكثر من كونها إصلاحا جوهريا للتعليم. 

ورأى أن "الوزير يستخدم المدارس الأجنبية كأوراق تفاوض وعلاقات عامة، بينما يبقى التعليم الأهلي، الذي يعتمد عليه ملايين الأسر المصرية خارج الحسابات تماما". 

وتوقف خيري عند ما وصفه بـ"المفارقة الكبرى"، قائلا: “مصر التي تعاني من كثافة طلابية خانقة داخل فصولها، تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إصلاح شامل للتعليم الحكومي، لا إلى استيراد تجارب متفرقة من الخارج”. 

وأكد أن "ملايين التلاميذ يدرسون في مدارس حكومية تفتقر إلى أبسط مقومات الجودة، بينما تطرح في الإعلام مشاريع المدارس الأجنبية كدليل على التحديث والانفتاح".

واستطرد: "الأمر الذي يثير الدهشة هو غياب النشاط الجاد للوزير في تطوير المناهج وتحسين العملية التعليمية، كم مدرسة مصرية جديدة تم تدشينها خلال السنوات الأخيرة؟ كم فصلا دراسيا أضيف لحل أزمة الكثافات؟ لا نجد إجابة". 

ثم اختتم خيري معقبا: “في المقابل نسمع عن مئة مدرسة فرنسية ومثلها ألمانية، صدق من قال: إذا أردت أن تدمر وطنا فعليك أن تبدأ بالتعليم".