بعد صفقة التبادل واستقالة بن غفير.. ماذا عن أوضاع الأسرى الفلسطينيين؟

الظروف الحالية للأسرى الفلسطينيين هي “الأقسى منذ عام 1967”
تلخص الصور المتناقضة للقيادية الفلسطينية المحررة خالدة جرار (62 عاما)، قبل اعتقالها وبعد إطلاق سراحها، حال الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
الصورة الأولى، تبدو نابضة بالحياة، تجسد حياة جرار السياسية والاجتماعية النشطة، أما الأخرى، فتعكس ثمن سنوات السجن القاسي: شعر رمادي، وبشرة شاحبة، وضعف جسدي.

وتحررت جرار القيادية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، برفقة 90 أسيرا وأسيرة أفرج عنهم في وقت متأخر من 19 يناير/كانون الثاني من سجن عوفر غرب مدينة رام الله في الضفة الغربية المحتلة.
وجاء هذا الإفراج ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة المقاومة الإسلامية حماس وإسرائيل بوساطة دولية وإقليمية.
إهمال وإذلال
وتؤكد الهيئة التي خرجت عليها جرار، وتبدلت فيها ملامحها، على الإهمال الطبي الطويل والإذلال المتعمد داخل سجون الاحتلال.
ولم تكن جرار الأولى التي خرجت بهذه الحالة، فقد أظهرت صور المحررين الحاليين والسابقين على مدى الأشهر الماضية، شهادة بصرية على حجم المعاناة التي يتكبدها الأسرى في سجون الاحتلال.
وقالت الأسيرة المحررة العشرينية رغد عمرو من دورا جنوب الخليل: إن ظروف الاعتقال سيئة جدا، حيث يتخللها تحقيق لساعات طويلة وقمع وضرب وحرمان من الأكل والملابس وخلع حجاب الأسيرات.
وأضافت في تصريحات عبر الإفراج عنها ضمن الصفقة الأخيرة: "حتى اليوم الأخير، تعرضنا للضرب والتفتيش العاري والإهانات والتلاعب بنفسيتنا حول زمن إطلاق سراحنا".
وتابعت أنه "أثناء عملية نقل الأسيرات، تم جرّنا من شعورنا ودفعنا للاستلقاء على الأرض، وهذا يشمل حتى الأطفال الذين شاهدناهم في حالة مزرية قبل عملية الإفراج".
وتشمل سياسات الإذلال استخدام الغاز المسيل للدموع داخل السجون، والتخفيض المتعمد في جودة وكمية الطعام، والعزل الانفرادي لفترات طويلة.
كما تشمل الانتهاكات حرمان الأسرى من الزيارات العائلية، ومصادرة متعلقاتهم الشخصية، وتعريضهم للاعتداءات الجسدية المتكررة والتعذيب النفسي.
وتنتهك هذه الممارسات بشكل صارخ اتفاقيات جنيف لعام 1949، التي تضمن للسجناء المعاملة الإنسانية والحماية من التعذيب والحق في الرعاية الطبية.
وبعد أن قضت 6 أشهر في العزل الانفرادي قبل إطلاق سراحها، سلطت جرار الضوء على الطبيعة المنهجية للإساءة الجسدية والنفسية للأسرى، والتي تصاعدت بفعل حملة القمع المكثفة التي تشنها الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة.
وقالت في تصريحات إعلامية: إنه بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، أصبحت الظروف مأساوية بشكل متصاعد، حيث تمنع مصلحة السجون الملابس ومواد التنظيف مع تقديم طعام سيئ جدا واستهداف جسدي ونفسي للأسرى وتفتيش ليلِي مستمر ومستفز.
ويظل الاعتقال الإداري أحد أكثر أشكال الإساءة فظاعة ضد الفلسطينيين، وهي ممارسة عانت منها خالدة جرار نفسها - حيث جرى احتجازها دون تهم واضحة أو محاكمة عادلة.
وتصاعد هذا النوع من الاعتقالات ضمن سياسة انتقامية تستهدف الشعب الفلسطيني كونه لا يتضمن أي تهم واضحة أو محاكمات.
ومنذ أكتوبر 2023 وحتى 22 يناير 2025، استشهد 55 شخصا ممن جرى التعرف على هوياتهم داخل سجون الاحتلال، من بينهم 5 معتقلين إداريين.
وقالت هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية ونادي الأسير الفلسطيني، خلال بيان مشترك في 13 يناير إن هذا العدد هو "الأعلى تاريخيا في مرحلة هي الأكثر دموية في تاريخ الحركة الأسيرة منذ عام 1967".
ولفت إلى أن "عدد شهداء الحركة الأسيرة المعلومة هوياتهم منذ عام 1967 ارتفع إلى 292، في ظل وجود عشرات الشهداء من معتقلي غزة رهن الإخفاء القسري".
ولم يشتكِ أو يعاني أغلب هؤلاء من أعراض أو أمراض صحية خطيرة، ما يشير إلى رحيلهم بفعل سياسة القتل البطيء الإسرائيلية عبر منع الطعام والدواء فضلا عن الاعتداء والضرب والتعذيب.
وعدا عن السجون النظامية، زج جيش الاحتلال بعد 7 أكتوبر مئات الفلسطينيين من قطاع غزة في معتقلات ميدانية داخل قواعد عسكرية وأطلق عليهم صفة "مقاتلين غير شرعيين".
وكان أبرزها "سدي تيمان"، وهي قاعدة عسكرية إسرائيلية بصحراء النقب جنوبي الأراضي المحتلة، اشتهر المحققون فيها بالتنكيل الجسدي والجنسي بأسرى غزة حتى بات يطلق عليها "غوانتنامو إسرائيل"، في إشارة إلى المعتقل الأميركي سيئ السمعة.
دور بن غفير
وأكدت القيادية خالدة جرار أن الظروف الحالية للأسرى الفلسطينيين هي “الأقسى منذ عام 1967”، ويبدو أن ذلك يعود إلى عاملين أساسيين.
أولهما اتخاذ حكومة الاحتلال عملية 7 أكتوبر ذريعة لتشديد ظروف السجن، ومن ثم مسؤولية وزير الأمن القومي السابق إيتمار بن غفير عن ملف الأسرى.
وأشارت جرار إلى أن بن غفير الذي استقال اعتراضا على صفقة التبادل، “يعامل السجناء وكأنهم ليسوا بشرًا”، حيث هدد مرارا وتكرارا بجعل حياتهم “أكثر قسوة”.

وأظهرت شهادات المعتقلين الأمنيين أن مصلحة السجون الإسرائيلية "تطبق سياسة تجويع السجناء الفلسطينيين" منذ 7 أكتوبر، بحسب جمعيتي حقوق المواطن وجيشا لحقوق الإنسان في إسرائيل.
وقدمت الجمعيتان التماسا مشتركا إلى المحكمة العليا في أبريل/نيسان 2024، ضد بن غفير والقائم بأعمال رئيس مصلحة السجون كوبي يعقوبي بالقول إن "السجناء المفرج عنهم أخيرا صرحوا بأنهم عانوا من جوع مستمر وشديد وجودة طعام رديئة للغاية".
وتضمن الالتماس شهادة من أسير مصاب بالسكري قال إنه تناول معجون أسنان لرفع مستوى السكر في دمه، ومن سجناء "فقدوا عشرات الكيلو جرامات من وزنهم في الأشهر الأخيرة".
وفي رد على الالتماس، أصر بن غفير على أن مصلحة السجون تلتزم بالقانون، لكنه اعترف بفخر بأن السجناء يحصلون على "الحد الأدنى الضروري (من الطعام) وفقًا للقانون، وليس غراما واحدا أكثر"، وفق ما قال في ديسمبر/كانون الأول 2024.
ومنذ توليه منصبه نهاية عام 2022، كان بن غفير ينتقد مرارا وتكرارا ما يسمى بالسلع الفاخرة في السجون، ويسعى إلى حظر تقديم الخبز الطازج خلف القضبان فضلا عن الحد من أوقات الاستحمام للأسرى.
وفي أعقاب هجوم 7 أكتوبر، أمر الوزير المستقيل بفرض قيود جديدة على الأسرى الأمنيين، بما في ذلك زيادة الاكتظاظ وإزالة الأسرّة.
وقال بن غفير في 19 ديسمبر 2022: "في عهدي، انتهى عصر الغناء الجماعي والمربى ولحم الضأن. لن تكون سجون الإرهابيين فنادق بعد الآن"، وفق تعبيره.
وبعد اكتظاظ السجون عقب 7 أكتوبر، اقترح بناء ألف مكان إضافي لاحتجاز الأسرى، وهو أمر لقي موافقة الحكومة في 17 أبريل/نيسان 2024.
ووفق هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية تحتجز إسرائيل أكثر من 10 آلاف و400 أسير فلسطيني داخل سجونها، بينهم 600 محكوم بالسجن المؤبد، وذلك في زيادة بأكثر من الضعف عما كان الوضع عليه قبل 7 أكتوبر.
وصرح بن غفير أن البناء الإضافي لخدمة السجون سيسمح باستقبال المزيد من الأسرى الفلسطينيين، وسيجلب حلا جزئيا لأزمة الاكتظاظ.
لكنه رأى أن تطبيق عقوبة الإعدام على الأسرى الفلسطينيين الذين وصفهم بالمخربين “هو الحل الصحيح لمواجهة مشكلة اكتظاظ السجون”.
ومنذ توليه منصبه، أعلن حزب "القوة اليهودية" الذي يتزعمه بن غفير، عن اتفاق مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لسن تشريع يسمح بفرض عقوبة الإعدام بحق منفذي عمليات المقاومة الفلسطينيين، لكنه لم يُمرر في الكنيست (البرلمان) حتى الآن.
ما القادم؟
وعما يتعرضون له داخل السجون، يؤكد الباحث الفلسطيني في شؤون الأسرى فؤاد الخفش أن أوضاع المعتقلين سيئة جدا وأن معاناتهم مستمرة وتصاعدت بعد قدوم بن غفير.
وعن إمكانية تغير أوضاعهم بفعل صفقة التبادل واستقالة بن غفير، أضاف الخفش لـ"الاستقلال": “الأصل أن يكون تحسين أوضاع الأسرى في السجون من ضمن ملفات التفاوض الحالية، إلى حين الإفراج عنهم وإنهاء اعتقالهم عبر الصفقات والتفاهمات”.
واستبعد حدوث أي تغيير على أوضاع الأسرى بإعادة ظروف سجنهم على الأقل إلى ما قبل 7 أكتوبر، دون ضغط من المقاومة ضمن مفاوضات صفقة التبادل الحالية.
وأردف: “حتى لو استقال بن غفير، فإن العاملين في مصلحة السجون الذين كانوا يتلقون أوامره ما زالوا يكملون مهمته” على تقدير عدم وجود تغير في سياسة الضغط عليهم والتنكيل بهم حتى الآن.
وتابع الخفش: “ستبقى الأوضاع سيئة وستستمر معاناة الأسرى ذاتها التي حدثت وتحدث بعد 7 أكتوبر”، ما لم يتضمن الاتفاق تحسينا في ظروفهم.

وقالت وسائل إعلام محلية وعربية إن الاتفاق يتضمن بالفعل بندا ينص على تحسين أوضاع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، لكن لم ترشح أي معلومات عن حدوث تغير حتى الآن.
ويتكون اتفاق وقف إطلاق النار بغزة وتبادل الأسرى من 3 مراحل مدة كل منها 42 يوما. وتشمل المرحلة الأولى الإفراج عن 33 أسيرا إسرائيليا سواء الأحياء أو جثامين الأموات، فيما تضم الثانية عددا آخر غير محدد حتى الآن.
وسيجري مبادلة هؤلاء بعدد كلي من الأسرى الفلسطينيين يبلغ نحو 1904، من بينهم 737 من الضفة الغربية، و1167 من غزة، ممن اعتقلوا بعد 7 أكتوبر، وفق ما قال رئيس نادي الأسير الفلسطيني عبد الله الزغاري.
وفي تطرقه لما تتضمنه الصفقة بشأن أوضاعهم، أوضح رئيس هيئة شؤون الأسرى قدورة فارس أن إسرائيل تشرع في عملية قتل جماعي للمعتقلين الفلسطينيين، مبينا أن صفقة التبادل بمثابة إنقاذ حياة لهم.
ولفت في مقابلة تلفزيونية بعد اجتماعه مع المفاوضين والوسطاء في قطر أنه “كان هناك شرط أن تكف إسرائيل يدها عن الأسرى الذين سيتبقون بعد تنفيذ الصفقة بحيث توفر لهم أسباب الحياة، لكنها رفضت”.
وأردف: “الوسطاء والمقاومة طلبوا من إسرائيل وذكروها أن هناك معايير إنسانية وقانون دولي إنساني فيما يتعلق بمعاملة الأسرى ويشمل الفلسطينيين، لكنها تكابر وترفض بكل صلافة”.
وتابع أن “هذا أذى وإجرام عن وعي ومع سبق الإصرار والترصد”، مؤكدا أن كل الجرائم التي ترتكب بحق الأسرى تتورط فيها مؤسسات الاحتلال كافة وفي مقدمتها حكومته.