عقب العدوان على إيران.. لماذا تُصوّب إسرائيل أنظارها نحو تركيا؟

"لم تبقَ أي دولة عربية تُشكّل تهديدا عسكريا تقليديا لإسرائيل"
في الآونة الأخيرة، كثر الحديث عن التنافس بين الكيان الإسرائيلي وتركيا؛ القوتين الإقليميتين في الشرق الأوسط، وتغيرت الأسئلة من “هل سيحدث صدام؟” إلى "كيف سيحدث ذلك؟"
وأوضح تريتا فارسي، المؤسس المشارك ونائب الرئيس التنفيذي لمعهد "كوينسي" الأميركي، أن تحولات ميزان القوى في الشرق الأوسط، مع تراجع النفوذ النسبي لإيران وصعود كل من إسرائيل وتركيا إلى موقع الصدارة، جعلت من تصاعد التنافس بين تل أبيب وأنقرة حتميا.
وأضاف في مقال نشرته مجلة "ريسبونسبل ستيتكرافت" التابعة للمعهد: "ليس السؤال عما إذا كانا سيختاران التنافس، بل كيف سيتفاعلان معه: من خلال المواجهة أم الإدارة السلمية للتنافس؟"

توزيع جديد للقوة
وأردف: "كما أوضحتُ في كتاب "التحالف الغادر" (Treacherous Alliance)، ظهرت وضعية مشابهة بعد نهاية الحرب الباردة؛ فقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى تغيّر كبير في توزيع القوة عالميا، في حين أعادت هزيمة العراق في حرب الخليج تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة".
"وبدأ يتبلور هيكل إقليمي ثنائي القطب، كانت إيران وإسرائيل قطبيه الرئيسين، في ظل غياب أي قوة عازلة فعالة بينهما بعد سقوط العراق".
وأضاف: "وسرعان ما بادرت إسرائيل إلى التكيّف مع هذا التحول، من خلال قلب عقيدة كانت توجه إستراتيجيتها الإقليمية لعقود، وهي عقيدة الأطراف (The Doctrine of the Periphery)".
ووفقا لهذه العقيدة، كانت إسرائيل تسعى إلى بناء تحالفات مع الدول غير العربية الواقعة في محيط العالم العربي -مثل إيران وتركيا وإثيوبيا- من أجل موازنة نفوذ القوى العربية القريبة منها، كالعراق وسوريا ومصر على التوالي.
"لكن بعد عام 1991، لم تبقَ أي دولة عربية تُشكّل تهديدا عسكريا تقليديا لإسرائيل، ونتيجةً لذلك، تحوّل تركيز إسرائيل إلى إيران، وقرر صناع القرار الإسرائيليون أن التهديد الجديد لإسرائيل لم يعد يتمثل في الجوار العربي، بل في المحيط الفارسي".
وقال فارسي: "الغريب، بالطبع، أن إسرائيل لم تعتبر عداء إيران لإسرائيل طوال ثمانينيات القرن الماضي عاملا حاسما؛ إذ انصبّ تركيزها على العراق والدول العربية".
وأوضح قائلا: "في الواقع، سعت إسرائيل، طوال عهد الخميني، إلى إعادة بناء علاقاتها مع إيران، ورغم رفض النظام الديني لها، ضغطت إسرائيل على واشنطن للتحدث معها، وبيعها الأسلحة، وتجاهل خطابها المعادي لإسرائيل لأنه لم يكن يعكس سياسات طهران الحقيقية".
إسرائيل وإيران
وقال: "في البداية، فوجئت إيران بالتحول الإسرائيلي، في ذلك الوقت، كان حماسها الثوري يتراجع بسرعة، وكانت حكومة أكبر هاشمي رفسنجاني، تسعى جاهدةً إلى بناء علاقات أفضل مع الولايات المتحدة للحصول على استثمارات وفرص اقتصادية".
وأفاد بأن الحكومة الإيرانية "عرضت على الولايات المتحدة الوصول إلى حقول النفط الإيرانية، وسعت إلى المشاركة في المؤتمرات الكبرى الهادفة إلى إرساء النظام الجيوسياسي في المنطقة. لكن واشنطن رفضت إيران واستبعدتها من مؤتمر مدريد".
بدلا من ذلك، أقنعت إسرائيل واشنطن بأن إحلال السلام مع الفلسطينيين يتطلب أولا تحييد التهديد الجديد الذي تواجهه: الأصولية الإسلامية الإيرانية، وكان ذلك -من وجهة نظرها- يتطلب فرض العقوبات على إيران وعزلها.
وكما قال السفير الأميركي الأسبق لدى إسرائيل، مارتن إنديك، لـ "فارسي": "كلما تعزز السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، ازداد عزل إيران، وكلما زادت عزلة إيران، أصبح من الأسهل تحقيق مزيد من التقارب بين إسرائيل والعرب".
وقال فارسي: "من هنا بدأت فعليا المنافسة الحقيقية بين إسرائيل وإيران. فقد ردّت طهران باستهداف ما عدته الحلقة الأضعف في الإستراتيجية الإسرائيلية-الأميركية لعزل إيران: عملية أوسلو، فإذا جرى إفشال عملية السلام، فإن بقية أهداف واشنطن وتل أبيب لن تتحقق".
"ومن تلك اللحظة، بدأت إيران في دعم الفصائل الفلسطينية الرافضة للاتفاقيات بشكل أكثر جدية (وإن ظلت علاقاتها مع حركة حماس متوترة لبضع سنوات أخرى، حتى اغتيال الشيخ أحمد ياسين على يد إسرائيل في عام 2004)".
وقد شكّل منطق هذه المنافسة الإستراتيجية إطارا حاكما لسلوك الطرفين خلال العقود الثلاثة الماضية -بحسب المقال- فقد سعت إسرائيل إلى عزل إيران وفرض العقوبات عليها، ومنع أي تقارب دبلوماسي أميركي-إيراني، وإفشال أي اتفاق محتمل بين واشنطن وطهران، بل ودفع الولايات المتحدة نحو خيار الحرب.
في المقابل، تحدّت طهران إسرائيل على مختلف الجبهات، وسلّحت ودربت جماعات مناهضة لها، وسعت إلى كسر العزلة التي فرضتها تل أبيب عليها من خلال محاولة عقد صفقة مع واشنطن، على مضض.
وقد حققت إسرائيل عدة مكاسب كبرى -وفق الباحث- فـ "محور المقاومة" الذي تقوده إيران بات شبه مفكك، وتوشك إسرائيل على فرض هيمنة جوية مستمرة فوق إيران، وربما لا تنجح في تحقيق ذلك بالكامل، لكنها تقدّمت بشكل كبير على هذا المسار.
ولخص الوضع الحالي قائلا: "إسرائيل في موقع الهجوم، وإيران في موقع الدفاع".

تركيا ليست إيران
وقال: "رغم أن هذا التنافس لم ينتهِ بعد، وإسرائيل بعيدة كل البعد عن أن تكون المنتصر الواضح، إلا أنها بدأت بالفعل تنظر إلى الدولة التالية التي يجب إخضاعها، لتحقيق الهيمنة العسكرية في الشرق الأوسط: تركيا".
وأشار إلى أن "مبدأ إسرائيل هو تحقيق الأمن ليس من خلال التوازن، بل من خلال الهيمنة".
وقال: "لقد دفعت انتصارات تركيا في سوريا بتل أبيب إلى زيادة التركيز على أنقرة، لكن تركيا تختلف كثيرا عن إيران: فهي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومجموعة العشرين، واقتصادها لا يمكن استهدافه بالعقوبات بنفس السهولة".
"كما أنها قوة سُنية تتمتع بقوة ناعمة في الشرق الأوسط يفوق ما تمتعت به إيران الشيعية خلال الخمسة عشر عاما الماضية".
واستدرك: "مع ذلك، تبقى لدى تركيا مواطن ضعف، من أبرزها الحركة الكردية الانفصالية".
“لكن، طالما أن إسرائيل تؤمن بأن أمنها لا يتحقق إلا عبر التفوق العسكري على كل جيرانها القادرين على تشكيل تهديد -سواء امتلكوا النية لذلك أم لا- فإن صعود تركيا كقوة إقليمية كبرى سيجعلها هدفا محتملا في حسابات تل أبيب، شاءت أم أبت”. وفق وصف فارسي.
وختم قائلا: "فقوانين الجغرافيا السياسية لا يمكن إلغاؤها، فقط يمكن ترويضها في أحسن الأحوال".