مع دخول موسم السياحة.. لماذا اشتدت موجات العنصرية في تركيا؟
أردوغان: الخطاب المسموم للمعارضة هو أحد الأسباب وراء أحداث العنف
رجلا أعمال سعوديان كانا يجلسان في مقهى بحي "مسلك" الراقي داخل مدينة إسطنبول، قبل أن يداهمهما مواطن تركيا يحمل بيده سكينا طويلا، ويكيل لهما السباب وعبارات التهديد والوعيد، ملوحا بسلاحه، طالبا منهما أن لا يتكلما باللغة العربية.
ما واجهه رجلا الأعمال "خالد الفوزان" و"إبراهيم الحديثي" وهما من أصحاب الاستثمارات الكبيرة في تركيا، مجرد صورة مصغرة لحالة العنصرية المتصاعدة بشدة في هذا البلد الذي يقبل عليه السياح بالملايين كل عام.
ورغم أن الشرطة التركية ألقت القبض على المواطن في 2 يوليو/ تموز 2024، لكن الحادثة خيمت على مواقع التواصل الاجتماعي ولاقت تفاعلا كبيرا، وحملات من منصات معادية لتركيا، تطالب السياح العرب بعدم الوفود إليها.
خاصة أن الحادثة تزامنت مع أحداث "قيصري" المأساوية، حيث تمت مهاجمة أعمال ومنازل بعض السوريين المقيمين في المدينة التركية.
وخلفت الأحداث الأخيرة تساؤلات عن توقيت وطبيعة تلك الهجمات، وتصاعد موجة العنصرية، ومن وراءها، والأكثر أهمية كيف تهدد تجربة النهضة التركية التي يقودها الرئيس رجب طيب أردوغان على مدار عقدين زمنيين؟
أحداث قيصري
واشتعلت ليلة 1 يوليو 2024، أعمال عنف دامية بعد أن استهدف مجموعة أشخاص متاجر وممتلكات تابعة لسوريين في مدينة قيصري الواقعة وسط تركيا.
كان السبب الرئيس المعلن للواقعة تداول أنباء عن اعتقال سوري للاشتباه في تحرشه بطفلة سورية.
ثم أظهرت مقاطع فيديو انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، أشخاصا يحطمون نوافذ محال بقالة لتجار سوريين ويضرمون النار فيها.
وفي أحد التسجيلات، سمع صوت رجل تركي وهو يصرخ "لا نريد المزيد من السوريين.. لا نريد المزيد من الأجانب".
بعدها أعلنت الجهات التركية المسؤولة أن أعمال العنف واستهداف السوريين والأجانب، ليست بريئة أو عشوائية، إنما هي مرتبة في إطار مؤامرة.
ففي 2 يوليو أعلنت المخابرات التركية تعقب من وصفتهم بـ “المحرضين داخل البلاد، ممن يحرضون ضد السوريين”.
وأعلنت في بيان لها، القبض على عدد من هؤلاء في مدن أنطاكيا، وغازي عنتاب، وقيصري، وقونيا، وبورصة، وإسطنبول، بالتعاون مع وزارة الداخلية وقوات الأمن.
وأشارت في بيانها إلى أن الهدف مما سمتها بالأعمال التحريضية هو محاولة استهداف سياسات تركيا الخارجية.
بينما أعلن وزير الداخلية التركي "علي يرلي كايا" على منصة "إكس" عن "توقيف 474 شخصا بعد الأعمال الاستفزازية التي استهدفت سوريين في تركيا". وأضاف أن 285 شخصا ممن تم توقيفهم من أصحاب السوابق الجنائية.
الأخطر أن وزارة الداخلية أعلنت في 3 يوليو توقيف مشتبه به نقل بشاحنته مشاركين بأعمال الشغب ضد السوريين في قيصري.
وفي نفس يوم اندلاع الأحداث، قال أردوغان إن "الخطاب المسموم للمعارضة" هو أحد الأسباب وراء أحداث العنف التي استهدفت لاجئين سوريين في قيصري.
وأضاف في كلمته أمام الاجتماع التشاوري مع الإدارات المحلية لحزب العدالة والتنمية في أنقرة: "إنه من العجز اللجوء للكراهية لتحقيق مكاسب سياسية".
وشدد على أنه "لا يمكن تحقيق أي هدف من خلال تأجيج معاداة الأجانب وكراهية اللاجئين في المجتمع".
ثم تابع: "لا يمكننا قبول أعمال التخريب وإضرام النار في الشوارع. نحن لم نكن هكذا من قبل، ولن نكون كذلك. إن التمييز والتهميش لم ولن يجدا مكانا في سياسات حزب العدالة والتنمية".
تاريخ مخيف
تلك الحالة المقلقة دفعت جهات للتحرك لمنع انزلاق الأمور نحو الأسوأ، إذ دعت منظمات مدنية تركية وسورية، الشعبين إلى تجاوز الشائعات بعد الأحداث التي شهدتها قيصري وما تبعها من تطورات.
جاء ذلك عقب اجتماع عقدته تلك المنظمات في مدينة إسطنبول، أسفر عن تشكيل "منصة منظمات المجتمع المدني التركية السورية"، وفق بيان صادر عن الأخيرة.
وألقى البيان رئيس اتحاد الجمعيات التركمانية السورية طارق سلو جوزجي، باللغة التركية، بينما ألقاه بالعربية متحدث الجمعيات السورية أحمد حمادة.
وكان أهم ما تضمنه أن "المستفيد الوحيد من هذه الأعمال التخريبية، جهات لا تريد الخير للشعبين التركي والسوري".
ولا يمكن إغفال أن المعارضة التركية تؤجج دائما نيران العنصرية ضد الأجانب، إذ يسعى تحالف أحزاب المعارضة الذي يضم الشعب الجمهوري، والجيد، والشعوب الديمقراطي، لإنهاء حقبة الرئيس أردوغان.
ويستخدمون في ذلك مسالك وعرة عبر صناعة أزمات مستمرة، مثل نكأ جرح اللاجئين السوريين، الذين يتجاوز عددهم 3 ملايين بحسب آخر تصريحات لوزير الداخلية علي يرلي كايا.
وهو أمر حدث سابقا في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة ضد بعض الأقليات. فقبل سنوات طويلة، اندلعت أعمال شغب في إسطنبول ضد اليونانيين، على خلفية شائعة كاذبة، ليس لها أساس من الصحة.
إذ سرت في الأوساط التركية قديما كذبة تفيد بتدمير بيت زعيم الأمة (مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك) في مدينة "سالونيك" اليونانية.
انطلقت بعدها جماعات من العامة إلى البيوت والأحياء وأماكن العمل، ذات الكثافة اليونانية، ودمرتها، وارتكبت مذبحة مروعة.
عرفت الحادثة في التاريخ باسم "بوغروم إسطنبول" كانت بين يومي 6 و7 سبتمبر/ أيلول 1955، وخلفت عشرات القتلى والجرحى، بالإضافة إلى خسائر مادية كبيرة.
وقد تبين لاحقا أن سبب المأساة مجموعة من الجيش التركي، يقبعون في مقر فرع عملية "غلاديو" العسكرية التركية، أرادت زعزعة حكومة رئيس الوزراء عدنان مندريس، وإحداث اضطرابات، يصعب السيطرة عليها.
شرارات الكارثة
وتداول عدد من الأتراك خطورة استهداف الأجانب، ومنهم الكاتب التركماني هيثم حسين في كتابه "العنصري في غربته" الذي صدر عام 2023.
وقال فيه: "تبدأ شرارات الكارثة عند شيطنة الآخرين وتأثيمهم وتحميلهم أوزار التاريخ والراهن، وكأنهم علامات سوداء على طريقنا وينبغي علينا التخلص منهم".
وهو ما ينطبق على الوضع الراهن لقطاع من العرب سواء كانوا لاجئين أو سياحا أو يعيشون على الأراضي التركية.
إذ أصبحت ظاهرة استهداف العرب ملحوظة، خاصة أماكن الجذب السياحي مثل مدينة إسطنبول أهم مدن البلاد وأكثرها كثافة سكانية، ومقصد السياح الأول.
ووصل الأمر أن تدخلت عدة جهات رسمية تمثل العرب في تركيا لدى الدولة، كمحاولة لكبح جماح الحالة المستشرية.
وفي 9 أغسطس/آب 2023 التقى المجلس الإسلامي السوري بالرئيس أردوغان، في المجمع الرئاسي بأنقرة، وتطرقوا إلى موضوع العنصرية والتجاوزات التي مورست خلال الفترة الماضية بحق العرب واللاجئين السوريين.
وبحسب ما نشر المجلس على صفحته الرسمية بـ"فيسبوك"، فإن مفتي الجمهورية السورية ورئيس المجلس الشيخ أسامة الرفاعي إضافة إلى وفد من علماء طالبوا أردوغان باستخدام صلاحياته للحفاظ على الرصيد الأخلاقي لتركيا لدى العرب والمسلمين.
وبالفعل صرح أردوغان، خلال حفل تخريج ضباط أكاديمية الدرك وخفر السواحل التركية، في العاصمة أنقرة 22 أغسطس 2023، قائلا: "لن نسمح لعدد قليل من الجهلاء بتلطيخ السجل النظيف لتركيا التي كانت ملجأ للمضطهدين والمظلومين لعدة قرون".
هدم الجسور
واستهداف العرب ممن يعيشون داخل تركيا أو السائحين القادمين إليها، يلقي بظلاله السلبية على أنقرة اقتصاديا واجتماعيا.
وخاصة أنها مثلت على مدار العقد الأخير الحاضنة الاجتماعية والسياسية لملايين العرب الذين توافدوا إليها عقب اندلاع ثورات الربيع العربي، والاضطرابات التي حلت بأوطانهم.
وفتحت بلاد الأناضول أبوابها للدراسة لعشرات الآلاف من الباحثين، داخل جامعاتها المتعددة، إضافة إلى هجرات طوعية لمستثمرين وآخرين توجهوا نحو شراء عقارات وعقد استثمارات، وقد أقاموا في البلاد بدافع الاستقرار.
وقد نشر موقع "ترك برس" المحلي في 2 فبراير/ شباط 2020، تقريرا عن حجم الاستثمارات العربية في تركيا، حيث قدرت قيمتها بـ 52 مليار دولار في الفترة من عام 2003 إلى 2020 بمتوسط 3 مليارات دولار في السنة المالية الواحدة.
وبالنسبة للاستثمارات المباشرة والاستحواذ على الشركات، قدر البنك المركزي التركي حصة دول الخليج باستثناء البحرين بنحو 9 بالمئة، من إجمالي الاستثمارات المباشرة في تركيا والبالغة 133 مليار دولار بدءا من عام 2018.
وتشير المعطيات إلى أن مساهمة الاستثمار العربي ارتفعت من 8 بالمئة من قيمة الاستثمارات الأجنبية الكلية عام 2016 إلى 16 بالمئة مع نهاية عام 2019.
وعلى صعيد السياحة، كشفت وزارة الثقافة والسياحة التركية في 18 يوليو 2023، عن أن أكثر من 15 مليون شخص زاروا البلاد خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام.
وبينت أن أكثر جنسية عربية وفدت إلى البلاد هم السعوديون الذين تجاوزوا عتبة النصف مليون سائح.
وكان وزير الثقافة والسياحة التركي محمد نوري أرصوي، أعلن في 27 يونيو/ حزيران 2023، أن هذا القطاع بمثابة "نفط" تركيا.
وأفاد أن هدفهم للعام الحالي تحقيق 56 مليار دولار من عائدات السياحة.
لكن الهدف الذي أعلنه الوزير في خطر بسبب المضايقات التي يتعرض لها السائح العربي.
وحذرت صحيفة "تركيا" المحلية في 23 أغسطس 2023 من مغبة ما يحدث. وأفادت أن تصاعد العداء ضد العرب والتحريض العنصري، تسبب بخسائر بلغت نحو ملياري دولار للاقتصاد التركي.
وقالت إن نقل العديد من رجال الأعمال العرب أعمالهم إلى خارج البلاد ساهم بقوة في هذه الخسارة.
وأشارت إلى أن آثار معاداة العرب في تركيا أصبحت واضحة وقوية، حيث تأثرت القطاعات الاقتصادية المحلية المرتبطة بالشركات العربية، بشكل سلبي نتيجة للتوترات العنصرية والعدائية.
المصادر
- أحداث قيصري.. اعتقال المئات بتركيا وارتفاع عدد قتلى الاحتجاجات شمال سوريا
- منظمات سورية وتركية مدنية تدعو لتجاوز الشائعات بعد أحداث قيصري
- رفع شعارا متطرفا.. القضاء التركي يقرر حبس شخص هدد رجلي أعمال سعوديين في إسطنبول بسكين (فيديو)
- المجلس الإسلامي يطالب أردوغان باستخدام صلاحياته لمواجهة العنصرية ضد السوريين
- تركيا تخسر الأموال بسبب العنصرية ضد السوريين والعرب
- الاستثمارات العربية في تركيا.. حضور يُجهض ادعاءات الشعبويين