أمراض وجوع وبرد.. نازحو غزة يروون معاناتهم في ظل العدوان

أم رامي، امرأة مبتورة اليد اليمنى، بفعل إصابة جراء قذيفة مدفعية في اليوم الـ 24 للعدوان تحاول بصعوبة بالغة، غسل ملابس أطفالها، غرب مدينة دير البلح وسط قطاع غزة.
تسير تحت خيمتها مياه الصرف الصحي ومخلفاته، ولم تجد ملجأ من القصف الإسرائيلي، سوى محيط مدرسة مكتظة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
دمرت الرياح العاتية عدة مرات، خيمة أم رامي أبومسلم (41 عاما)، وقد كانت مكونة من قطع الخشب والنايلون، وهي التي أصبحت بيتا لها، ولعائلتها المكونة من 12 شخصا، بعد أن دمر الاحتلال منزلهم وهجرهم من شمال القطاع.
هذه المعضلة عاشتها آلاف العائلات في مخيمات النزوح، مع اشتداد المنخفض الجوي مع نهاية شهر يناير/ كانون الثاني وبداية فبراير / شباط 2024.
وبحسب تحديثات المكتب الإعلامي الحكومي لشهر يناير/كانون الثاني 2024، فإن 1,8 مليون نازح فلسطيني باتوا يقيمون في مراكز نزوح تتركز أغلبها في مدينتي دير البلح ورفح، ظروفا صعبة جدا.
لا مكان آمن
ويتركز القصف الإسرائيلي الجوي في المناطق التي أعلن عنها كمناطق نزوح آمنة، كرفح ودير البلح، وبشكل يومي يتم استهداف منازل مكتظة بالنازحين، بجانب النشاط العسكري في شمال القطاع، ومدينتي غزة وخانيونس.
واضطر عشرات الآلاف من العائلات للنزوح أكثر من مرة من مناطق نزوحهم، حيث يلحقهم القصف والهجوم البري للمنطقة التي ينزحون إليها، ما يدفعهم للنزوح إلى مكان آخر.
وتروي الحاجة أم رائد (61 عاما) – لم ترغب في ذكر اسم العائلة - تفاصيل معاناتها في النزوح، حيث نزحت وعائلتها المكونة من 34 فردا بين أبناء وأحفاد، من بيت لاهيا شمال قطاع غزة، بعد 21 يوما من القصف الإسرائيلي المكثف.
وتقول الحاجة "على وقع القصف الإسرائيلي والأحزمة النارية (عدد كبير من الغارات في منطقة صغيرة)، التي كانت بين منازلنا، والقصف المدفعي الذي نال كل شيء، قررنا النزوح والنجاة بأرواحنا، خصوصا أن معنا أطفالا رضعا".
وتابعت: "كانت أولى وجهاتنا في النزوح محيط مستشفى المعمداني وسط مدينة غزة، ولكن سرعان ما تركناه بعد المجزرة التي قتلت 500 نازح فيه، في 31 أكتوبر / تشرين الأول 2023".
وذهبنا بعده إلى مخيم البريج وسط قطاع غزة، مشيا على الأقدام، حسب ما حدد جيش الاحتلال عبر المنشورات التي ألقيت علينا، وفق ما تروي.
وتابعت: "لم يكن لنا أقرباء في المخيم فاتجهنا لمدرسة تابعة للأونروا، ولكنها كانت مكتظة تماما، ومع ذلك جلسنا نحن النساء والأطفال في مخزن تابع للمدرسة، والرجال ينامون في ساحة المدرسة في العراء".
وأوضحت أم رائد أن ظروف المدرسة كانت سيئة للغاية، حيث يحتاج قضاء الحاجة إلى الاصطفاف بطابور طويل والحمامات متسخة للغاية، والمياه شحيحة.
وأردفت أن حصة المساعدات والمياه الصالحة للشرب التي تعطى لعائلتها المكونة من 34 شخصا لـ 3 أيام كانت لا تكفي 5 أشخاص ليوم واحد، حسب حديثها.
وواصلت أنه "بعد مضي شهر في هذه المدرسة هدد الاحتلال البريج (وسط القطاع)، وبدأ باجتياحها، فهربنا دون أن نتمكن من أخذ حاجياتنا من ملابس وأغطية وأفرشة من المدرسة، فنزحنا لمخيم المغازي المجاور، أقمنا في خيمة قريبة من مدرسة، وكان محيطها وأسفلها طين مجبول بمياه الصرف الصحي".
وأوضحت أن جميع أحفادها الأطفال أصيبوا بأمراض الطفح الجلدي والجدري، وأن انتشار أي مرض جلدي سريع جدا في المدرسة، والرعاية الطبية لم تكن بمستوى جيد، ولم يكن هنالك أدوية تكافح انتشار المرض.
وذكرت أن "أكثر ما هو مؤلم أن تشاهد الأطفال عاجزين عن النوم، جراء الألم وحساسية الجلد، بالإضافة للبرد القارس، دون أن يكون لدينا ملابس شتوية، فقد نزحنا بالملابس الصيفية؛ لأن الجو كان حارا في وقت النزوح".
وانتقلت العائلة لرفح بعد مهاجمة الاحتلال مخيم المغازي بريا 7 يناير/كانون الثاني 2024، وهناك تفاقمت المعاناة أكثر وأكثر.
إذ تركز النزوح في المناطق الرملية ذات الطبيعة الصحراوية قرب الحدود المصرية، والتي كانت معدومة الخدمات، فعدت لمخيم المغازي بعد انسحاب الاحتلال ولكن كل شيء كان مدمرا.
كارثة صحية
وتسببت ظروف النزوح الصعبة بكارثة صحية حسب وزارة الصحة بغزة التي بينت وجود ما يقارب 480 ألف حالة لأمراض الجهاز التنفسي، حتى بداية ديسمبر/كانون الأول 2023.
وبحسب بيان "المكتب الإعلامي الحكومي"، لشهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، فإن 355 ألف حالة بين 1.8 مليون نازح داخل مراكز النزوح تم توثيق إصاباتها بأمراض معدية.
وبدوره، قال مهند العواودة، أحد الأطباء المتطوعين في النقطة الطبية في مركز إيواء بمخيم المغازي للاجئين، إن الوضع الطبي للنازحين كان في غاية السوء والتدهور، ولم تكن الإمكانات الطبية أو عدد الطواقم يكفي لمساعدتهم.
وأضاف في حديث لـ "الاستقلال": "مرت علينا العديد من الحالات المصابة بأمراض نادرة في غزة، وأخرى لم نتمكن من تشخيصها لغرابتها، وغياب مختبرات التحاليل الطبية".
وأكد الطبيب أنه شَخَص حالات بالحصبة والجدري المائي والتهاب السحايا وحتى مرض الدوسنتاريا الخطير، الذي لم يكن في غزة سابقا.
وهذا الأخير هو مرض شديد العدوى يصيب الأمعاء، ويسبب القيء والإسهال الذي يحتوي على الدم والمخاط، بالإضافة إلى تقلصات في المعدة.
وتابع "كذلك هناك حالات كثيرة من مرض الاتهاب الرئوي والنزلة المعوية؛ نتيجة تلوث مياه الشرب، والأصعب انتشار مرض التهاب الكبد الوبائي".
ومن جانبه، قال حسان جودة 36 عاما، إنه عاش أسوأ أيام حياته خلال نزوحه، من حي الزيتون وسط مدينة غزة، تجاه مدينة دير البلح، بعد أن استشهدت ابنته البالغة 12 عاما وأصيبت زوجته وأحد أبنائه، ودمر منزله بشكل جزئي جراء الأحزمة النارية التي أطلقت على الحي؛ تمهيدا للدخول البري.
ويقول حسان في حديث لـ "الاستقلال": "نزحنا تجاه منزل أحد أقاربنا، ثم لمستشفى الشفاء وبعد استهدافه اتجهنا لمدينة دير البلح في منطقة النخيل، بنينا خيمة بجانب العديد من الخيام في المنطقة، وبعد 3 أيام هبطت الخيمة فوق رؤوسنا جراء استهداف الاحتلال منزلا قريبا منا".
وشدد على أن أكبر ما واجهه هو عدم توافر المسكنات والأدوية لأحد أبنائه، الذي بترت قدمه وأصيبت الأخرى بشكل بالغ، ووضع بها "بلاتين"، حيث كان يصاب بنوبات ألم شديدة، ولم يستطع والده توفير العلاج له.
وأضاف "لأول مرة جربت شعور قهر الرجال، عندما تعجز عن توفير الدواء لابنك والمأوى الآدمي لعائلتك، والطعام لأطفالك، ويصبح مصدر دخلك الوحيد هو الوقوف في طابور طيلة اليوم لتحصل على القليل من المساعدات، الموت أكثر رحمة من هذه الحياة".
معاناة خاصة للنساء
ولم يقتصر القهر على الرجال، بل حملت الحرب أنواعا من العذابات لكل شرائح الشعب الفلسطيني في غزة، وبالأخص النساء، حيث تفاقمت معاناتهن بشكل كبير.
ولا يتسنى للفتيات والنساء في مراكز الإيواء الحصول على مكان منفرد للاستخدامات الشخصية، بل تكتظ الغرفة الواحدة بالعشرات.
وكذلك تكتظ دورات المياه، ولا تحتوي على تجهيزات للنساء أو الاستحمام، حسب حقوقيات.
إلى جانب ذلك، حرمت "أكثر من 690 ألف امرأة وفتاة في فترة الحيض من الحصول إلا بشكل محدود على منتجات النظافة الخاصة بالدورة الشهرية"، وفقا لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
من بين القصص، تروح أم محمد حكاية من مخيم جباليا شمال القطاع إلى مدرسة حكومية في منطقة المحطة شرق دير البلح، وسط القطاع.
وتروي السيدة معاناة بناتها في ظروف النزوح الصعبة، قائلة " لدي 4 بنات بالغات وجل معاناتي تكمن في رؤيتهن بهذه الظروف السيئة جدا",
وأضافت في حديث لـ "الاستقلال" : " في هذه المدرسة يوجد أكثر من 12 ألف نازح وهي لا تستوعب أكثر من 1000، حسب ما تم إبلاغنا عند وصولنا، وهذا جعل في كل صف من 80 لـ 100 سيدة وطفل، في جو من انعدام الخصوصية وانتشار الأمراض".
وأكدت أن قضاء الحاجة يحتاج إلى الاصطفاف بطابور، في مكان تسوده القذارة والرائحة الكريهة، ولا يناسب البشر.
وأردفت: "الفتاة لديها الكثير من الحاجات النسائية التي لا يمكن تلبيتها في هذه الظروف، وكذلك انقطعت لفترة طويلة الفوط الصحية، وعندما وجدت أصبحت غالية الثمن".
وتابعت "منذ وصولنا للمدرسة لم نستطع الاستحمام، وكذلك غسل الملابس أمر نادر لندرة المياه، وعدم وجود مكان فارغ للغسيل ونشر الملابس".
وواصلت أنه "ومنذ الصباح نشارك في محاولة تحصيل المساعدات في مناطق بعيدة عن المدرسة، فقد نفد مالنا، وبقي زوجي في الشمال".
وشددت على أن هناك أمراضا انتشرت بشكل كبيرة في محيط النساء في المدرسة، كالأمراض الجلدية والأنفلونزا وحساسية الصدر.