للوصول إلى الأسرى.. إسرائيل تلجأ لوسائل تجسس جديدة في غزة
زرع جيش الاحتلال أجهزة تعقب (قطع GPS) داخل بعض أكياس الطحين بغزة
بين خيام النازحين وداخل المعونات الإنسانية، يزرع جيش الاحتلال الإسرائيلي أجهزة تنصت في قطاع غزة، ضمن وسائل جديدة للوصول إلى معلومات حول أسراه لدى المقاومة الفلسطينية.
ومُني الاحتلال بنكسة كبيرة على صعيد العملاء الميدانيين (الجواسيس) خلال العدوان الذي يشنه على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ما دفعه للجوء إلى وسائل غير معهودة.
فمنذ سنوات ما قبل العدوان، جففت وزارة الداخلية والأمن الوطني في غزة منابع العمالة وأطلقت حملات دفعت العديد من العملاء للتوبة وتسليم أنفسهم مع عقوبات مخففة، كما اعتقلت آخرين ممن لم يستجيبوا.
وسائل جديدة
وأمام ذلك، اتبع جيش الاحتلال وسائل جديدة كان آخرها ما كشفته أجهزة الأمن في غزة أخيرا من زرع الاحتلال أجهزة تجسس في أكياس الطحين (الدقيق) الذي يجري توزيعه ضمن المساعدات الإنسانية على النازحين.
ونشر ناشطون نهاية عام 2024 صورا تظهر وجود أجهزة تعقب (قطع GPS) داخل بعض أكياس الطحين، ودعوا إلى إتلافها فورا حال العثور عليها.
وأرفقت منصة "الحارس" الأمنية (منصة إعلام أمن المقاومة)، على حسابها في "تلغرام" صورة لجهاز التعقب المذكور، ووجهت دعوة لـ"جميع أبناء شعبنا، تحديدًا المقاومين، إلى ضرورة الانتباه واليقظة ومراعاة إجراءات الأمن الشخصي"، داعية للإبلاغ عن أي سلوكيات أو تحركات مريبة.
وفي سبتمبر/أيلول 2024، كشفت المنصة ذاتها عن ضبط أجهزة الأمن في غزة معدات تجسس إسرائيلية مزروعة بين خيام النازحين في أحد مراكز الإيواء جنوب القطاع.
ونقلت المنصة، عن ضابط في أمن المقاومة تأكيده أن "مخابرات الاحتلال موهت أجهزة التجسس المضبوطة بأشكال مختلفة، بحيث تظهر كأنها جزء من البيئة المحيطة والطبيعية، وهي على شكل حجر صخري".
ورجح الضابط زرع مخابرات الاحتلال أجهزة التجسس المضبوطة عن طريق مسيرات من نوع "كواد كابتر"، في أوقات عدم وجود حركة نشطة للنازحين، داعيًا الجميع "إلى عدم العبث بأي أجهزة مشبوهة تُكْشَف والاتصال فورًا بضباط الأمن".
و"كواد كابتر" هي طائرات مُسيرة عن بعد صغيرة الحجم، وتعد أذكى من نظيرتها العادية، ويستخدمها الاحتلال في تنفيذ عمليات استخبارية وعسكرية متعددة.
ففي الجانب الاستخباري، لهذه المسيرات خصائص تكتيكية مختلفة، حيث تنفذ عمليات متعددة كالرصد والمتابعة وتعقب الأهداف الثابتة والمتحركة وتوجيهها والحديث من خلالها مع المستهدفين، كما أنها مزودة بكاميرات عالية الجودة.
وهذا فضلا عن جانبها العسكري، حيث يمكنها إطلاق النار والقنابل صوب الأهداف ما يجعلها سلاحا فتاكا يستخدمه الاحتلال ضد الفلسطينيين.
وأكثر من مجرد زرعها بين الخيام، تعمل مسيرات كواد كابتر على إسقاط أجهزة تجسس في كل أنحاء قطاع غزة، وفق تحذير أصدرته قناة موقع "المجد.. نحو وعي أمني" على تلغرام.
وقالت القناة الإعلامية التابعة لحركة المقاومة الإسلامية حماس في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، إنه جرى اكتشاف بعض الأجهزة و"هي عبارة عن كتلة مموهة بداخلها جهاز التجسس".
ودعت الجميع إلى "إجراء مسح لمحيط وسقف سكنه والتركيز على المباني العامة والمهجورة وإبلاغ الجهات المختصة في قطاع غزة فور العثور على أي جسم مشبوه دون العبث فيه".
وفي منتصف سبتمبر 2024، حذرت وزارة الداخلية في غزة من تقديم أي معلومات أو بيانات عبر الاتصالات لأي أشخاص يدّعون أنهم يعملون في جمعيات خيرية أو مؤسسات إغاثية، بحجة تقديم مساعدات أو طرود أو مبالغ مالية.
وأكدت الوزارة، في بيان صحفي أن تقديم المعلومات أو تحديث البيانات لدى المؤسسات والجمعيات التي تنشط في العمل الإغاثي، يجري حصراً عن طريق المقابلة الوجاهية أو داخل المقار المعروفة لتلك المنظمات.
وأشارت إلى أن تحقيقات تجريها الجهات المختصة أظهرت أن العديد من الاستهدافات الإسرائيلية لمنازل الفلسطينيين خلال الفترة السابقة، جرت عن طريق تقديم معلومات عبر الهاتف الجوال لأجهزة مخابرات الاحتلال التي انتحلت صفة جمعيات ومؤسسات إغاثة محلية ودولية معروفة.
ما الهدف؟
وكما هو الحال في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى، يتألف مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي من وكالات مختلفة تتعامل مع مهام منفصلة ولكنها متداخلة في بعض الأحيان.
وتشمل هذه الكيانات جهاز الاستخبارات والعمليات الخاصة الخارجي “الموساد” وجهاز الأمن العام (شين بيت أو الشاباك)، المكلف بالجبهة الداخلية، ومديرية الاستخبارات العسكرية (أمان)، المكلفة بالشؤون العسكرية.
ويستمر الجدل حول المسؤولية عن الفشل في اكتشاف الهجوم الذي قادته حماس في أكتوبر 2023، حيث تشير الأصابع إلى مسؤولين استخباراتيين وعسكريين وسياسيين مختلفين، بما في ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه.
وقد استقال عدد منهم بسبب هذه القضية، بما في ذلك قائد وحدة الاستخبارات الإسرائيلية "8200" يوسي شاريئيل، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون هاليفيا، إضافة إلى قائد المنطقة الجنوبية في جهاز "الشاباك"، والذي لم يكشف عن اسمه، وأشير له بالحرف أ.
وأمام هذا الفشل الذي اعترف به المستوى الأمني والعسكري في تل أبيب، يحاول مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي تدارك ما أطلق عليه “الكارثة” عبر إدخال وسائل جديدة إلى الخدمة.
وأوضح مصدر في جهاز الأمن الداخلي التابع لوزارة الداخلية في غزة، أن الأساليب الإسرائيلية الجديدة تأتي مع صعوبة عمل العملاء لدى الاحتلال وعدم تجاوبهم معه.
وقال المصدر لـ"الاستقلال" إن الواقع الأمني والعسكري الجديد في غزة، قضى على عمل العملاء وصعب من أداء مهامهم، حيث يطال القصف الجميع ومن الصعب التحرك وتحديد أماكن المقاومين مقارنة بفترات الهدوء.
وخلص تحقيق لجهاز "الشاباك" إلى أن عددا من عملاء الجهاز في غزة كانوا (قبل الطوفان) يخدعون إسرائيل ولا يعملون معها.
وقالت القناة 12 العبرية التي نشرت تفاصيل التحقيق نهاية عام 2024 إن “إسرائيل تدرك صعوبة اختراق حماس بالعملاء نظرا لكونها منظمة مغلقة”.
وأكدت أن "عناصر حماس ينفذون إعدامات فورية بحق من يشتبه في تعاونه مع إسرائيل"، وهو أسلوب درجت الحركة على اتباعه في كل الحروب السابقة.
واستدلت على هذا الفشل بعدم كشف أي عميل، مبكرا عن هجوم "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر، أو إحباطه قبل وقوعه.
ويقول المصدر الأمني لـ"الاستقلال" إن لدى الاحتلال هدفين من الوسائل التجسسية الجديدة لتعويض غياب العملاء وصعوبة عملهم.
الأول، الوصول إلى أهداف عسكرية وسياسية ثقيلة في حركة حماس يقدمها كنصر إلى مجتمعه، والثاني، محاولة تخليص بعض أسراه من يد المقاومة.
وبين أن هذين الأمرين يمكن أن يساعدا نتنياهو على المماطلة في دفع الثمن بهدف الإبقاء على مستقبله السياسي عبر عدم الذهاب إلى صفقة تبادل أسرى تنهي العدوان.
وتقدر إسرائيل وجود 100 أسير إسرائيلي بقطاع غزة، في حين أعلنت حماس مقتل العشرات منهم لديها في غارات عشوائية إسرائيلية.
أسباب الفشل
وبعد تعرضها لانتكاسة مذهلة عندما قادت حماس عمليتها المفاجئة، سعت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى استعادة سمعتها بموجة من العمليات الحربية الغامضة.
ومع اتساع الصراع وتعمقه، مع فتح إسرائيل جبهة برية جديدة ضد حزب الله في لبنان قبل عقد اتفاق لوقف إطلاق النار، قال مسؤولون سابقون لمجلة نيوزويك الأميركية إن ترسانة إسرائيل من الأدوات السرية ستلعب دورًا أكثر محورية - وإن لم يكن بدون تحديات كبيرة.
وبالفعل شنت إسرائيل هجومين كبيرين ومنسقين، هزا لبنان، يومي 17 و18 سبتمبر 2024، في أحدث عمليات تفخيخ لأجهزة الاتصال الإلكترونية، "بايجر" التايوانية، و“أيكوم” اليابانية، مما أدى إلى مقتل العشرات وإصابة الآلاف من اللبنانيين وجلهم من عناصر حزب الله وأسرهم.
وتحدث مراقبون عن اختراق الاحتلال الإسرائيلي، سلسلة التوريد للشركة التايوانية، والعبث بأجهزة "بايجر" أو استبدال أجهزة مفخخة بها تحتوي على متفجرات وصاعق في مرحلة ما قبل وصولها لبنان.
لكن مثل هذه الوسائل لم تفلح في غزة على تقدير الظروف المختلفة مقارنة بلبنان، وانغلاق المجتمع المقاوم في القطاع المحاصر، واعتماده على تصنيع أسلحته بنفسه واستخدام شبكة اتصالات محلية خاصة صنعتها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس بنفسها.
وقال الضابط السابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية مايكل ميلشتاين لمجلة نيوزويك في 30 أكتوبر 2024، إن "دور الاستخبارات أثناء الحرب مهم للغاية لعدة مهام".
وأضاف ميلشتاين، الذي يرأس منتدى الدراسات الفلسطينية التابع لمركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا (إسرائيلي)، إن هذه المهام "تتمثل في تحديد الأهداف، وفهم الضرر الذي لحق بالعدو، وكذلك تحديد أهداف العدو".
وبين أن "كل الاغتيالات البارزة والهجمات الدقيقة (بحق قادة حماس وحزب الله) هي نتيجة لمعلومات استخباراتية جيدة تم نقلها من مصادر متقدمة".
ولكن في الوقت نفسه، أكد أن "المشكلة في السابع من أكتوبر وحتى اليوم تتعلق بالقدرة على فهم منطق وخطط الأعداء بعمق".
وحذر من أن "هناك فجوة بين القدرات العملياتية غير العادية والقدرة على تحليل منطق الآخر، وهو أمر لا يزال مليئاً بالتعقيدات".
وتقول المجلة الأميركية إنه لإعادة الأسرى الإسرائيليين وتحقيق هدف القضاء على حماس، ضاعفت أجهزة الأمن الإسرائيلية جمع المعلومات الاستخبارية في غزة، بالعمل مع قوات الجيش لتعقب مواقع العدو والبنية التحتية والأهداف ذات القيمة العالية.
وبدوره، يقول الزميل البارز في المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي جون هانا إن “غزة لم تكن هدفاً ذا أولوية عالية لجمع المعلومات، في حين كان حزب الله وإيران كذلك لعقود من الزمان”.
وبين لمجلة نيوزويك: “لقد قدرت إسرائيل خطأً أن حماس قد ردعت، وأنها غير قادرة إلى حد كبير على شن غزو بري واسع النطاق”.
وأضافت: “من المدهش أن إسرائيل ربما لم يكن لديها أي أصول بشرية داخل حماس قبل السابع من أكتوبر”، في إشارة إلى العملاء.
ويبدو أن هذه الأزمة مستمرة في ظل الحرب، حيث تحاول إسرائيل تجنيد عملاء جدد من أجل تحقيق أهدافها الصعبة في غزة.
وكان آخرها اللجوء إلى حيلة من نوع غريب عبر دفع السكان إلى محاربة المقاومة وتجريمها وصولا إلى التعاون مع جيش الاحتلال.
ففي أغسطس/آب 2024، فوجئ سكان خانيونس جنوبي قطاع غزة، بإلقاء قوات الاحتلال منشورات تحرض على المقاومة، مستهدفة المدخنين.
إذ ألصقت سيجارة واحدة بكل منشور، ومعها رقم هاتف وعبارة "في حال أردت المزيد من السجائر، اتصل على الرقم".
ومنذ سيطرة الاحتلال على معبر رفح بين مصر وقطاع غزة، تراجع حجم المساعدات الإنسانية التي كانت تدخل القطاع بشكل كبير، ولم تعد أي سلعة تمر من دون تفتيش إسرائيلي دقيق، وكان من بينها السجائر.
وجاء في المنشورات التي أسقطت على المواطنين: “التدخين خطير، لكن حماس أكثر خطورة”، وفق تعبيره. ولجأ الاحتلال إلى هذه الحيلة لتجنيد العملاء بعد أن وصل سعر السيجارة الواحدة إلى أكثر من 30 دولارا مع صعوبة توفيرها.
واستهزأ الناشط سلامة العجرمي وقتها بالمنشورات قائلا إن “إسرائيل تعتقد أن المدخن يمكن أن يصبح عميلًا بسبب حاجته للسجائر نتيجة انقطاعها، في محاولة لاستهداف طبقة مجتمعية تعتقد أنها الأضعف حاليا، ولكن ستثبت الأيام أنها ستفشل كما فشلت سابقا”.