الأول منذ حقبة هتلر.. ما دلالات غزو أوكرانيا المفاجئ للعمق الروسي؟

12

طباعة

مشاركة

في تطور فاجأ الجميع، اقتحم الجيش الأوكراني لأول مرة العمق الروسي يوم 6 أغسطس/آب 2024 وسيطر على أراض تمتد لعشرات الكيلومترات في مدينة "كورسك" الروسية وأباد كتيبة كاملة تقدر بـ500 جندي وأسر مئات الجنود.

غزو الجيش الأوكراني المضاد لأراضي روسيا، جاء بعد قرابة عامين ونصف العام منذ الغزو الروسي لأراضي أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022 واحتلال عدة مدن أوكرانية شرقي البلاد.

وجاء الغزو الأوكراني الأخير في أعقاب سلسلة قرارات غربية بدعم جيش أوكرانيا بأسلحة متقدمة أبرزها مقاتلات إف 16 الأميركية لأول مرة، وإعطاء كييف الضوء الأخضر لاستخدامها ضد المدن الروسية.

ويُعتقد أن الغزو يستهدف تحقيق مكاسب عسكرية تعزز وضع أوكرانيا على طاولة المفاوضات مع روسيا، لاستعادة أراضيها أو وقف الحرب، لكن رد فعل موسكو يشير إلى تصعيد كبير قادم.

ماذا جرى؟

صباح السادس من أغسطس 2024، اخترق حوالي ألف جندي أوكراني الحدود الروسية بالدبابات والمركبات المدرعة وأسراب من الطائرات المُسيرة والمدفعية، وفقاً لمسؤولين روس.

فوجئت القوات الروسية تماما عندما وجدت نفسها تقاتل قوة عسكرية أجنبية تقدر بألف جندي داخل حدودها لأول مرة منذ غزو ألمانيا لها في الحرب العالمية الثانية.

استيقظ سكان مقاطعة كورسك الروسية ليشاهدوا الجيش الأوكراني يسيطر على المدينة وجيشهم بين قتيل وأسير، ما غير شكل الحرب بين روسيا وأوكرانيا في غضون أيام، وسط مشاهد إذلال للجيش الروسي.

وأعلن معهد دراسة الحرب، ومقره في الولايات المتحدة، في تقريره الأخير أن القوات الأوكرانية تقدمت بعمق يصل إلى 10 كيلومترات واخترقت "خطين دفاعيين روسيين على الأقل".

وقالت شبكة "سي إن إن" الأميركية إن قرار أوكرانيا بإرسال كمية كبيرة من مواردها العسكرية الضئيلة عبر الحدود إلى روسيا، يوضح أنها تسعى وراء تحقيق هدف إستراتيجي غير واضح حتى الآن.

وأضافت أن هذا الغزو يمثل لحظة يأس أو إلهام بالنسبة لأوكرانيا، وربما يبشر هذا القرار بمرحلة جديدة من الحرب.

ورأت أن شن الجيش الأوكراني النظامي هجوما على روسيا، بمثابة مغامرة نادرة من جانب كبار القادة الأوكرانيين، بعد أسابيع من الأخبار السيئة لكييف، واحتلال القوات الروسية مراكز عسكرية في منطقتي بوكروفسك وسلوفيانسك الأوكرانيتين.

الشبكة الأميركية أوضحت أن هناك استراتيجية أوكرانية من وراء الهجوم، حيث تقع مدينة سودجا، التي تخضع الآن جزئيًا للسيطرة الأوكرانية، بجوار محطة غاز روسية، على الحدود مباشرة، وهي مفتاح لتوريد الغاز من روسيا، عبر أوكرانيا، إلى أوروبا، ما يعني أن الهدف حرمان روسيا من تصدير الغاز.

حيث توغلت القوات الأوكرانية في الحقول والغابات الحدودية باتجاه الشمال من بلدة ‬‬سودجا، وهي آخر نقطة شحن تعمل حالياً لنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا. 

وبحسب عدة محللين فإن التقدم الأوكراني يتركز في محيط سودجا في مقاطعة كورسك والتي تقع على بعد حوالي 10 كلم من الحدود وتضم محطة غاز لا تزال تؤمن إمدادات إلى أوروبا عبر أوكرانيا.

وقبل الغزو الأوكراني لأراضي روسيا، أعطي الرئيس الأميركي جو بايدن، إذنا لأوكرانيا بتنفيذ ضربات محدودة داخل روسيا باستخدام أسلحة أميركية الصنع، حسبما أكد مسؤولون أميركيون لصحيفة "نيويورك تايمز" في 30 مايو/أيار 2024. 

وهو ما عُدّ تحولا خطيرا في مسار الحرب الروسية الأوكرانية، لأنه أعقبه استخدام هذه الأسلحة ضد رادارات روسية.

وكانت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية أول من نقل عن مسؤول أميركي ومصدرين آخرين مطلعين في 30 مايو 2024 قولهم، إن بايدن أعطى الإذن سرا لأوكرانيا باستخدام أسلحة أميركية في ضرب أهداف داخل روسيا.

أيضا اتخذ المستشار الألماني أولاف شولتس، قرارا مماثلا يمنح أوكرانيا الإذن باستخدام أسلحة ألمانية لضرب أهداف داخل روسيا.

وهو ما عده مستشارو بوتين تحولا خطيرا قاد لغزو أوكرانيا لأراضي روسيا، خاصة أنه واكبه ضرب رادارات روسية هامة لرصد الصواريخ النووية.

فهي المرة الأولى التي يسمح فيها رئيس أميركي بشن هجمات عسكرية، ولو محدودة، على القواعد والمراكز القيادية داخل حدود خصم نووي هو روسيا، لذا عدت موسكو هذا بداية لانخراط مباشر للغرب في هذه الحرب.

أهداف الغزو المضاد

مجلة "فورين بوليسي" أوضحت أن أحد أهداف هذا الاختراق المفاجئ ربما هو أن تتمكن كييف من اكتساب نفوذ في المفاوضات مع روسيا لإنهاء الحرب.

رجحت في تقرير نشرته في 9 أغسطس/آب 2024 أن يكون غزو ​​أوكرانيا لروسيا هدفه أن "يؤدي إلى نهاية أسرع للحرب".

أكدت أنه إذا تمكنت القوات الأوكرانية من الصمود والحفاظ على السيطرة على الأراضي الروسية في هذه المدينة، فقد يعزز ذلك من نفوذ أوكرانيا في أي مفاوضات محتملة لإنهاء الحرب.

وتقول المجلة الأميركية إن هدف الغارة الأوكرانية الخاطفة هو تقويض الفكرة السائدة بأن فلاديمير بوتين يملك كل الأوراق لإملاء شروط وقف إطلاق النار على الأوكرانيين.

وأضافت: يبدو أن أنصار أوكرانيا الغربيين على استعداد للوقوف إلى جانبها بعد هذا الهجوم، حيث أصدر البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي بيانات تفيد بأن "الأمر متروك لأوكرانيا لاتخاذ القرار بشأن العملية".

في السابق، كان هناك الكثير من النقاش في واشنطن وبرلين وبين وسائل الإعلام التي تتكهن حول "الخطوط الحمراء" المفترضة للكرملين والتي من شأنها أن تؤدي إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة، وكان أحد هذه الخطوط هو نقل الحرب إلى روسيا بأسلحة غربية.

صحيفة "واشنطن بوست" رأت في 10 أغسطس، أن استمرار الهجوم والتوغل الأوكراني في عمق أراضي روسيا لعدة أيام، يشير إلى أن "هذه العملية ليست غارة قصيرة بل احتلالاً محتملاً لأراضي روسيا لمبادلتها بأراضٍ أوكرانية محتلة.

نقلت عن محللين ومسؤولين غربيين أن هدف هذه العملية "المطولة" هو تحويل هجوم القوات الروسية على أوكرانيا للدفاع عن أراضيهم، متسائلة عن الهدف النهائي لكييف مع توغل قواتها في عمق منطقة كورسك الروسية.

وبدأت القوات الروسية بالفعل سحب قواتها من جبهات خيرسون وزابوريرجيا وكوبيان وخاركيف وبيلغورود وبوكروفسكي ولوهانسك الأوكرانية ونقلها إلى مدينة كورسك لوقف الهجوم الأوكراني.

حيث جاءت التوغل الأوكراني، بالتزامن مع هجوم قوات روسية على طول الأجزاء الوسطى والجنوبية لأوكرانيا خاصة في منطقة دونباس.

وكانت روسيا تركز في تقدمها على مراكز لوجستية رئيسة مثل بوكروفسك وتوريتسك، بهدف إضعاف الدفاعات الأوكرانية تدريجيا.

ويقول محللون غربيون إنه أيا كانت النتيجة النهائية لتوغل أوكرانيا في روسيا، فقد نجح هذا التوغل في تحويل مسار الرواية بالنسبة لكييف.

فبدلا من التباكي على التقدم الروسي على الجبهة الشرقية كل يوم، يراقب الأوكرانيون بشغف، الأخبار التي تتحدث عن توغل قواتهم بشكل أعمق في كورسك الروسية.

وقد ألمح لهذا مستشار للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قال لصحيفة واشنطن بوست: "سيمنحهم هذا النفوذ الذي يحتاجون إليه للمفاوضات مع روسيا، وهذا هو كل ما في الأمر".

أيضا ألمح الرئيس زيلينسكي في مقابلة مع "بي بي سي نيوز" في يوليو 2024 أن كييف مستعدة للتفاوض، لكنه قال: "ليس علينا استعادة جميع الأراضي بالوسائل العسكرية، أعتقد أنه يمكن تحقيق ذلك أيضاً بمساعدة الدبلوماسية".

والآن يمكن مقايضة روسيا المحتلة بأوكرانيا المحتلة، كما اقترح رئيس الوزراء السويدي السابق كارل بيلت على منصة "أكس"، متسائلا: "هل ستكون الفكرة أن تنسحب كلتا الدولتين إلى داخل حدودهما المعترف بها؟".

واعترف الرئيس الأوكراني في 11 أغسطس بغزو بلاده لأراضي روسيا وبرر ذلك بـ"دفع الحرب إلى أراضي المعتدي"، وفق شبكة "سكاي نيوز" البريطانية.

كيف سترد روسيا؟

لأن هذه أول مرة تغزو فيها دولة أخرى أراضي روسيا منذ الغزو الألماني في الحرب العالمية الثانية، فقد شكل دخول جيش أوكرانيا إلى روسيا إحراجا بالغا.

لذا يتوقع خبراء أن تحول هذه العملية المفاجئة مسارات الحرب وتدفع موسكو لشن هجمات أوسع وأعنف على كييف وربما بأسلحة جديدة.

وقد علق دميتري ميدفيديف الرئيس الروسي السابق على الهجوم الأوكراني قائلا إنه "يتعين على روسيا توسيع أهداف حربها لتشمل أوكرانيا بالكامل".

وكان أول رد فعل روسي هو وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتن ما جرى بـ "الاستفزاز الكبير".

وسارع القادة العسكريون بإرسال تعزيزات في مواجهة التوغل العسكري الأوكراني، الذي وصف بأنه "التحدي الأكبر" لموسكو منذ أزمة تمرد قائد مجموعة "فاغنر".

تقارير غربية توقعت أن يؤدي هذا الهجوم الأوكراني إلى تصعيد روسي ليس ضد أوكرانيا وحدها بل ضد الغرب وربما استخدام سلاح نووي تكتيكي سبق أن هدد به الروس ضد أوكرانيا.

حيث تحاول كييف تغيير سيناريو المفاوضات، من صفقة "الأرض مقابل السلام" إلى صفقة "الأرض مقابل الأرض"، ما يضع بوتن في مأزق بحسب مجلة “فورين بوليسي”.

حيث إن فقدان السيطرة على أجزاء من روسيا ولو كانت صغيرة، يشكل إحراجاً هائلاً للكرملين، الذي عليه أن يحافظ أيضا على الأراضي التي ضمها من أوكرانيا لروسيا والدفاع عنها.

أكدت أن الهجوم الأوكراني المدعوم علنا من الولايات المتحدة، التي أعطتها الضوء الأخضر لاستخدام الأسلحة والذخائر التي قدمتها لها في العملية، سيدفع إلى تصعيد روسي أكبر ضد كييف، حسب تقدير خبراء لموقع "ناشيونال إنترست" الأميركي في 10 أغسطس.

أشارت إلى أن ما حدث في كورسك ليس كبيرا من ناحية موازين القوى لكنه كبير من زاوية القرار الذي اتخذه حلفاء أوكرانيا في الغرب وتنفيذه بقرار من الولايات المتحدة ما سيضر روسيا للرد بعنف أكبر لحفظ ماء وجهها كدولة كبرى.

موقع "ناشيونال إنترست" عد الموقف الإستراتيجي لأوكرانيا محفوفا بالمخاطر، حتى لو نجح في كبح جماح روسيا والحفاظ على تدفق الأسلحة الغربية. 

وذلك لأنه لا يمكن استبعاد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 ووقفه المساعدات الأميركية بشكل مفاجئ، وربما عدم قدرة إدارة كامالا هاريس لو فازت في توفير حزم دعم مستقبلي لأوكرانيا لو احتفظ الجمهوريون بأغلبيتهم في مجلس النواب الأميركي.

وضمن ردود روسيا، سلط تقرير من مجلة "فورين أفيرز" في 9 أغسطس الضوء على "تنامي دور وكلاء روسيا من المخربين والقتلة الذين يهددون الغرب ويخدمون الكرملين بنشر الفوضى".

وادعت أنه "بالاعتماد على قوة تجسس روسية متجددة وجيش جديد من المجندين المحليين في البلدان المستهدفة، فتح بوتين فصلا جديدا في عمليات المنطقة الرمادية الروسية في الغرب.

وأضافت أن “القوات المدعومة من روسيا مستعدة لمهاجمة البنية التحتية الصناعية والنقل الغربية، وأيضا، في بعض الحالات، المواطنين الغربيين”.

المجلة زعمت أن الشكوك تحوم حول تورط روسيا في حادث تخريب السكك الحديدية في فرنسا في يوم حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس.

وأشارت إلى ربط مسؤولي الاستخبارات الأوروبيين والأميركيين سلسلة من عمليات التخريب في جميع أنحاء أوروبا بجهاز المخابرات الروسي "GRU".