العدوان الإسرائيلي على غزة.. كيف كشف كذبة الموضوعية بالإعلام الغربي؟
مع الانحياز الأعمى للإعلام الغربي إلى الرواية الإسرائيلية في تبرير العدوان على قطاع غزة والذي خلف أكثر من 15 ألف شهيد، بدأت أصوات إعلامية التذكير بأن تلك التغطية غير المتوازنة سقطت في امتحان المهنية.
فمنذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حذفت قنوات تلفزيونية غربية من قاموسها الإعلامي الأخلاق المهنية التي طبقتها بحذافيرها للتو عند غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022.
سقوط مهني
وقرر الإعلام الغربي إغماض عينيه عن جرائم الاحتلال بحق أهالي غزة، وباتت ازدواجية المعايير هي السائدة لدى مؤسسات إعلامية وصحفية عريقة، لطالما تحدثت عن الاستقلالية والحياد والموضوعية في تغطيات الأحداث.
فعلى سبيل المثال بدت التغطية لشبكة بي بي سي البريطانية منحازة إلى إسرائيل رغم شواهد "الإبادة الجماعية" بحق أهالي غزة، ووصلت لحد قلب الحقائق لصالح تل أبيب.
ولهذا لم يتوان صحفيون عن اتهام "بي بي سي" بالفشل في إضفاء الطابع الإنساني على الفلسطينيين، وتصوير ما جرى من تدمير ممنهج للبشر والحجر على أنه مجرد "دفاع إسرائيلي عن النفس".
وقد روج الخط التحريري في وسائل إعلام عالمية للرواية الإسرائيلية حول العدوان على غزة من دون تدقيق أو تحقق من الأخبار المتداولة، على الرغم من توثيق عدسة الكاميرات مشاهد القصف المباشر للأحياء السكنية وترك الأطفال والنساء في غزة يواجهون مصيرهم قتلا وتشريدا.
وعلى الرغم من انحيازهم لها، حث المسؤولون الإسرائيليون كذلك وسائل الإعلام الغربية على نقل الرواية الإسرائيلية وحدها.
وقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يائير لابيدفي كلمة متلفزة في 24 أكتوبر: "إذا كانت وسائل الإعلام الدولية موضوعية فهي تخدم حماس، وإذا عرضت رواية الجانبين فهي تخدم حماس.. إذا كانت تخلق تماثلا بين المعاناة دون أن تتحقق في المقام الأول من صنع هذا فهي تخدم حماس".
ومضى يقول: "أعلم أنكم لا ترغبون بذلك لكن هذه هي النتيجة.. لقد حان الوقت ليتغير ذلك، لا أقول لكم كيف تؤدون عملكم لكن يتعين أن يتغير ذلك سنكون سعداء بمساعدتكم لتغيير ذلك بأي طريقة ترغبون فيها للتأكد من أن هذا الصراع يجري تغطيته بشكل مختلف جذريا".
وأمام ذلك، عرض موقع قناة الجزيرة الإنجليزية، رسالة (ألفين و300 كلمة) من 8 صحفيين يعملون في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي،" اتهموا فيها قناتهم بالتحيز لإسرائيل وعدم عرض معاناة المدنيين الفلسطينيين بالقدر الكافي، وأكدوا أن الهيئة مذنبة بارتكاب "معايير مزدوجة في كيفية رؤية المدنيين".
وجاء في الرسالة التي نشرت في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2023: "لقد فشلت بي بي سي في سرد هذه القصة بدقة - من خلال الإغفال وعدم التعامل النقدي مع ادعاءات إسرائيل - وبالتالي فشلت في مساعدة الجمهور على التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان التي تتكشف في غزة وفهمها".
وراحت تقول الرسالة: "لقد قُتل آلاف الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر 2023، متى سيكون العدد مرتفعا بما يكفي لتغيير موقفنا التحريري؟".
وقال صحفيو بي بي سي إنه عبر منصات هيئة الإذاعة البريطانية، جرى تخصيص مصطلحات مثل "مذبحة" و"الفظائع" "فقط لحماس، مما يصور الحركة على أنها المحرض الوحيد ومرتكب العنف في المنطقة، وهذا غير دقيق ولكنه يتماشى مع التغطية الشاملة لبي بي سي.
وطالب الصحفيون "بي بي سي أن تفكر بشكل أفضل في النتائج القائمة على الأدلة التي توصلت إليها المنظمات الإنسانية الرسمية وغير المتحيزة". ودعوا المؤسسة البريطانية "لأن تكون معاملتها متساوية لجميع المدنيين في قلب تغطياتها".
كما كانت التغطية الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين غائبة في قصص بي بي سي الإخبارية، على الرغم من قدرتها على الاستفادة الكاملة من وفرة محتوى وسائل التواصل الاجتماعي من الصحفيين المستقلين في غزة والضفة الغربية المحتلة، بحسب الرسالة.
وقالت مجلة تايمز البريطانية إن صحفيين من "بي بي سي" يتهمونها بالتساهل الشديد مع إسرائيل و"تجريد" المدنيين الفلسطينيين من إنسانيتهم، وأكدوا أن موظفيها يبكون في المراحيض بسبب ذلك.
وأوضحت المجلة -في تقرير لها بقلم المراسل أليكس فاربر، نشر في 26 أكتوبر أن مخاوف أثيرت من قبل كبار الشخصيات التحريرية في اجتماع لهم.
وأُرسل على إثرها بريد إلكتروني إلى المدير العام تيم ديفي يوضح أن بي بي سي تتعامل مع حياة الإسرائيليين على أنها مهمة أكثر من حياة الفلسطينيين.
واتهم رامي رحيم -مراسل "بي بي سي" المقيم في العاصمة اللبنانية بيروت- الإدارة بتقدير حياة الإسرائيليين أكثر من الفلسطينيين.
وأوضح في رسالة البريد الإلكتروني الموجهة إلى تيم أنه "من الشائع استخدام كلمات مثل مذبحة ومجزرة) وفظائع بشكل بارز في الإشارة إلى تصرفات حماس، ولكنها نادرا ما تستخدم أو لا تستخدم إطلاقا عند الإشارة إلى تصرفات إسرائيل".
وتساءل: "ألا يثير هذا مسألة التواطؤ المحتمل لهيئة الإذاعة البريطانية في التحريض والتجريد من الإنسانية والدعاية للحرب؟".
وقال رحيم إن صحفيي "بي بي سي" يتساهلون في كثير من الأحيان مع المسؤولين الإسرائيليين في المقابلات ويمنحونهم "وقت بث مريحا" لتبرير أفعالهم، ودعا إلى "تمثيل دقيق ومتوازن وعادل وصادق" للأحداث المتعلقة بغزة.
تحيز أعمى
الرد الإسرائيلي الشرس، الذي أتى على الأخضر واليابس في غزة ردا على عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في عمق مستوطنات غلاف غزة، كشف "التحيز اللاإنساني" لوسائل إعلامية ذائعة الصيت مثل "بي بي سي"، وشبكتي "سي إن إن"، و"إيه بي سي نيوز" الأميركتين.
ونشرت شبكة "إيه بي سي نيوز"، في 11 أكتوبر، تقريرا أشارت فيه إلى أن "المدنيين في غزة، يشعرون بالخوف نتيجة للضربات الإسرائيلية التي تستهدف مقاتلي حركة حماس الإرهابية".
ويلاحظ أن مثل هذه الصياغة تعفي إسرائيل، من المسؤولية المباشرة عن قصف المدنيين، وتوحي بأن قتل الفلسطينيين هو نتيجة غير مباشرة للضربات الإسرائيلية.
كما أن الشبكة ذاتها عندما تذيع أخبار القصف الإسرائيلي الذي يستهدف قطاع غزة، غالبا ما تتعمد غض الطرف عن تحديد الجهة منفذة الهجوم.
فهي تصيغ الخبر بطريقة لا تُحدد مسؤولية منفذ الهجوم، وتستخدم صيغة المبني للمجهول، فتقول مثلا أن القطاع "تعرض لأضرار" أو "دُمر"، دون توضيح ملابسات القصف.
كما اتهم الكثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي شبكة بي بي سي البريطانية الممولة من القطاع العام، بالتسبب في قصف المستشفى الأهلي العربي المعمداني بغزة بعد نشرها تقريرا قبيل الهجوم الذي خلف أكثر من 500 شهيد بعنوان: "هل تبني حماس أنفاقها تحت المستشفيات والمدارس".
زعمت الهيئة في التقرير بناء حركة حماس العديد من الأنفاق أسفل المستشفيات والمدارس ودور العبادة.
بل وأرفقت في تقريرها المذكور خريطة نشرها الجيش الإسرائيلي تظهر مزاعم الوجود المفترض للأنفاق بغزة بدون أن تلجأ لمصادر مستقلة بشأن هذه المزاعم.
وحينما استضافت "بي بي سي" على أحد برامجها شقيقة أحد الرهائن الإسرائيليين في غزة، وبدأت تحكي قصة أخيها، أبدت المذيعة تعاطفا معها، قائلة: "أنا آسفة حقا لأجلك"
لكن عندما تحدث ضيف من منظمة الصحة العالمية عن الوضع الحرج في غزة، إثر قطع الكهرباء والماء، لم تبد المذيعة نفسها أي تعاطف مع تلك المأساة الإنسانية.
وخلقت التغطية الإعلامية الغربية لما حدث في غزة بشكل غير مهني، حالة من ردة الفعل غير المسبوقة من الإعلاميين العاملين في تلك الوسائل لحثها على الالتزام بالتغطية الأخلاقية والموضوعية طبقا لشعاراتها التي تنادي بها.
وقد وقع أكثر من 750 صحفيا في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 على رسالة مفتوحة تدين قتل إسرائيل للصحفيين في غزة وتنتقد تغطية الإعلام الغربي للعدوان.
وقالت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، إن أكثر من 750 صحفيا من عشرات المؤسسات الإخبارية وقعوا على رسالة مفتوحة تدين قتل إسرائيل الصحفيين في غزة وتنتقد تغطية الإعلام الغربي للحرب.
وجاء في الرسالة أن غرف الأخبار (وسائل إعلام غربية) مسؤولة عن الخطاب اللا إنساني الذي خدم التطهير العرقي للفلسطينيين.
وتضم الرسالة موقعين من وكالة رويترز البريطانية وصحف لوس أنجلوس تايمز و وستون غلوب وواشنطن بوست الأميركية.
وهي تعكس وفق الصحيفة الأخيرة الانقسامات والإحباطات داخل غرف الأخبار.
ونوهت بأن توقيع الرسالة لبعض الصحفيين كان خطوة جريئة وحتى خطيرة، مضيفة أنه جرى طرد صحفيين في مؤسسات إعلامية، بسبب تبنيهم مواقف سياسية عامة قد تعرضهم لاتهامات بالتحيز، على حد تعبيرها، دون أن تحدد هذه المواقف.
ويرى مراقبون أن مثل هذا الانحياز الصارخ يقف وراءه جماعات ولوبيات داعمة لإسرائيل سرا وعلنا، تسعى لتعزيز الضغط على وسائل الإعلام الغربية لضمان تغطية أكثر دعما لإسرائيل.
مشاركة في الإبادة
وضمن هذه الجزئية، رأى الكاتب التركي "عبد الله مراد أوغلو"، أنه "من الواضح منذ 7 أكتوبر 2023 أن تصرفات وسائل الإعلام الغربية وكأنها امتداد لإسرائيل.
وبذلك يكونون قد شاركوا في جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، وفق تقديره.
وأضاف في مقال له بصحيفة "يني شفق": "لقد عاملوا الصحفيين الذين يحاولون عكس الأحداث بما يتوافق مع الحقائق على أنهم مذنبون".
ونوه الكاتب التركي إلى أن "الحكومات ووسائل الإعلام الغربية كانت على علم بأكاذيب إسرائيل".
ولكن حتى مع فضح الأكاذيب الإسرائيلية لم يحدث تغيير ملموس في مواقف الحكومات ووسائل الإعلام الغربية، حيث لعبت عن طيب خاطر دورا في نشر هذه الأكاذيب للحفاظ على الدعم غير المشروط لإسرائيل، وفق قوله.
بدورها أكدت الكاتبة الأسترالية كيتلين جونستون، في مقال نشرته على منصة "ميديام" بتاريخ 27 نوفمبر: "أن العدوان الإسرائيلي على غزة لا يستهدف المقاومة الفلسطينية بل هو حرب إبادة شاملة لكل الفلسطينيين في القطاع المحاصر" منذ 17 عاما.
وأشارت جونستون إلى أن “إسرائيل استخدمت رواية استهداف المقاومة كعذر مكشوف لارتكاب المجازر، وشن حملة تطهير عرقية بحق الفلسطينيين".
وبالمحصلة، فإن العدوان على غزة والذي وثق المكتب الإعلامي الحكومي بالقطاع ارتكاب الجيش الإسرائيلي فيه أكثر من 1400 مجزرة، أدت إلى تقسيم غرف الأخبار في الغرب إلى أولئك الذين يرغبون بوقاحة في الترويج للأكاذيب وأولئك الذين لا يرغبون في التنازل عن مبادئهم وأخلاقياتهم الصحفية.
إذ أُجبر بعض الصحفيين العاملين مع وسائل الإعلام الغربية على الاستقالة، بينما اختار آخرون عدم التعاون مع مؤسساتهم الإخبارية في إخفاء حقيقة ما يجري في غزة.
فخلال شهر أكتوبر 2023 استقالت "آن بوير"، الشاعرة وكاتبة المقالات ومحررة الشعر الحائزة على جائزة بوليتزر في مجلة نيويورك تايمز، من منصبها احتجاجا على التغطية غير العادلة وغير المتوازنة للعدوان الإسرائيلي على غزة.
كما استقال ثلاثة صحفيين تونسيين من وظائفهم في مؤسسات إعلامية غربية احتجاجا على تغطيتها للحرب في غزة.
أما وكالة الأنباء الفرنسية فتعرضت لضغوط من الجمهور والسياسيين لعدم اتباعها سياسة بث "مؤيدة بشكل كافٍ لإسرائيل" خلال العدوان الأخير على غزة.
ووفقا لتقارير في الصحافة المحلية نشرت في منتصف نوفمبر 2023، جرى استدعاء فابريس فرايز رئيس الوكالة ومديرها التنفيذي إلى مجلس الشيوخ للإدلاء بتصريح حول سياسات البث التي لم تكن "موالية لإسرائيل" بما فيه الكفاية.
وأوضح فرايز في كلمته أمام المجلس، أن الوكالة متهمة "بزيادة معاداة اليهود" لأنها قالت "إن حماس معترف بها كمنظمة إرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وإسرائيل" بدلا من القول "حماس إرهابية" وذلك منذ بداية الهجمات الإسرائيلية على القطاع.
ووصف فرايز هذه الاتهامات بأنها "خطيرة ودنيئة"، مؤكدا أن التغطية "المستقلة" التي تقدمها الوكالة للهجمات الإسرائيلية على غزة لا يمكن وصفها بأنها "منحازة".