توغل القوات الأوكرانية بالعمق الروسي.. لماذا يعد ضربة للكرملين؟

3 months ago

12

طباعة

مشاركة

شكل توغل القوات الأوكرانية في عمق الأراضي الروسية أكبر ضربة عسكرية لموسكو منذ عامين ونصف العام؛ كونها جاءت في ظل ميل موازين القوى لروسيا خلال الأشهر الأخيرة.

ففي هجوم مباغت وغير متوقع، تدفقت قوات كييف على منطقة كورسك الروسية المحاذية لأوكرانيا، من عدة اتجاهات في وقت مبكر من صباح 6 أغسطس/آب 2024.

وسرعان ما تغلبت على عدد قليل من نقاط التفتيش والتحصينات الميدانية التي يحرسها حرس الحدود المسلحون بشكل خفيف ووحدات المشاة على طول حدود المنطقة التي يبلغ طولها 245 كيلومترا بين البلدين.

التوغل الأوكراني

وقد توغلت وحدات من عدة ألوية من الجيش الأوكراني المتمرسة في القتال، أكثر من ثلاثين كيلومترا داخل الأراضي الروسية في منطقة كورسك.

واستخدمت القوات الأوكرانية طائرات بدون طيار على نطاق واسع لضرب المركبات العسكرية الروسية ونشرت أصول الحرب الإلكترونية لقمع الطائرات بدون طيار الروسية وتعطيل الاتصالات العسكرية.

وقد فشلت القوات الروسية، في الرد السريع على عملية التوغل التي بدا واضحا أنها اختارت خاصرة رخوة للقوات الروسية وجرى تنفيذها بعناية وسرية تامة، مما فاجأ الكرملين والعالم.

لا سيما أن الجزء الأكبر من الجيش الروسي كان منهمكا في الهجوم على منطقة دونيتسك بشرق أوكرانيا، حيث لم يتبق سوى عدد قليل من القوات لحماية منطقة كورسك الحدودية والتي شكل اقتحامها صدمة لموسكو في هذا التوقيت.

فالوحدات الروسية على طول الحدود مع أوكرانيا تتألف في الغالب من جنود مجندين غير مدربين بشكل جيد، وكان من السهل التغلب عليهم من قبل وحدات النخبة الأوكرانية وهذا ما اتضح من وقوع بعض المجندين الروس في الأسر.

كما أن نقص القوى العاملة دفع القيادة العسكرية الروسية إلى الاعتماد في البداية على الطائرات الحربية لمحاولة وقف الهجوم الأوكراني.

ووفقا لمدونين عسكريين روس، أسقطت القوات الأوكرانية المتقدمة مروحية روسية واحدة على الأقل وتضررت أخرى.

ولتدارك هذا الخرق العسكري الكبير الذي يعد الأول من نوعه منذ غزو أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 دفع الكرملين بتعزيزات شملت وحدات من القوات الخاصة الروسية والمحاربين القدامى من شركة فاغنر العسكرية، نحو منطقة كورسك.

لكن موسكو فشلت حتى الآن في طرد القوات الأوكرانية من مناطق مثل سودزا وأخرى بالقرب من الحدود.

وجرى إجلاء آلاف الأشخاص من منطقة كورسك، كما بثت وسائل إعلام روسية تسجيلات مصورة تظهر أشخاصا يعرفون أنفسهم بأنهم من سكان سودجا الروسية، يستنجدون بالرئيس فلاديمير بوتين.

وبحسب ما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية في 10 أغسطس 2024، جرى إجلاء 3000 مدني من مناطق حدودية روسية إلى حيث نقلت مساعدات عاجلة ومواد طبية فيما خُصصت قطارات إضافية لنقل الاشخاص الراغبين في الفرار إلى موسكو.

وشكلت عملية التوغل الأوكرانية، نكسة غير متوقعة لروسيا التي كانت تمسك حتى الآن بزمام المبادرة وتحرز تقدما ميدانيا في شرق أوكرانيا بمواجهة قوات كييف الأقل عددا والتي كانت التقارير الإخبارية تشير إلى عجزها الكبير في إمدادات الأسلحة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال كلمة في 8 أغسطس 2024 "يمكن للجميع أن يروا أن الجيش الأوكراني يعرف كيف يباغت وكيف يحصل على نتائج".

بدوره قال ميخايلو بودولياك مستشار زيلينسكي، إن الهجمات عبر الحدود ستجعل روسيا "تبدأ في إدراك أن الحرب تتسلل ببطء إلى داخل الأراضي الروسية". كما بين أن مثل هذه العملية من شأنها تحسين موقف كييف في أي مفاوضات مستقبلية مع موسكو.

وأضاف قائلا: "متى سيكون من الممكن إجراء عملية تفاوضية بطريقة نستطيع من خلالها دفعهم أو الحصول على شيء منهم؟ فقط عندما لا تسير الحرب وفق سيناريوهاتهم".

ومع ذلك فإن هذا التطور الدراماتيكي وفق المراقبين ألقى بتداعيات ضخمة على المستويين الرمزي والعسكري للكرملين.

فمن الناحية الرمزية يعد ضربة لسمعة بوتين، وعسكريا، فإنه بعد عامين ونصف العام من القتال يرى الروس كيف بدأت أوكرانيا تقضم أجزاء من أراضيهم.

"ذكاء تكتيكي"

هذا الهجوم شكل صدمة للمؤسسة العسكرية الروسية والكرملين، إذ إنه على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية، كانت موسكو هي التي تحدد ديناميكيات هذه الحرب.

كما كشف "الذكاء التكتيكي" للتوغل الأوكراني بعضا من نقاط ضعف روسيا في تلك المنطقة الحدودية.

لا سيما أنه في غضون 24 ساعة تقريبا، تغلبت القوات الأوكرانية على خطين رئيسين من التحصينات في منطقة كورسك استغرق بناؤها من روسيا أكثر من عامين ونصف العام وما يزيد على 170 مليون دولار، وفقا لموقع التحقيقات الروسي "أجنستفو".

كما أن مدينة سودجا التي دخلها الأوكران فيها منشأة قياس الغاز، التي تسهل تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا.

كما أعلنت الوكالة النووية الروسية في 10 أغسطس 2024 أن الهجوم الذي تشنه أوكرانيا "يشكل تهديدا مباشرا" لمحطة للطاقة النووية تقع على بعد أقل من 50 كيلومترا من منطقة القتال.

بالنسبة لأوكرانيا، فإن الغارة عبر الحدود تقدم دفعة معنوية ضرورية للغاية في وقت تواجه فيه قوات البلاد التي تعاني من نقص في العدد والتسليح هجمات روسية لا هوادة فيها على طول خط المواجهة الذي يمتد لأكثر من ألف كيلومتر.

ولكن على الرغم من تأكيد الولايات المتحدة، الحليف الأقرب لأوكرانيا، أنها لم تُبلغ بالخطة في وقت مبكر، فإنه من غير الواضح إذا ما كانت كييف تسعى لإنشاء وجود دائم في منطقة كورسك كونها ستشكل تحديا للقوات الأوكرانية وللحلفاء الغربيين.

وفي هذا التوقيت تطرح تساؤلات حول ما تهدف أوكرانيا إلى تحقيقه على المدى الأبعد، بعدما أظهرت أن حدود جارتها روسيا لم تعد آمنة.

ويقول المحللون إن الهجوم قد يكون مصمما للاستيلاء على الأراضي الروسية واستخدامها كورقة مساومة.

وذلك لتأمين انسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية التي تحتلها، حيث استولت موسكو منذ بدء الغزو وحتى 15 مايو/أيار 2024، على 65336 كيلومترا مربعا داخل أوكرانيا.

وهو ما يمثل نحو 12 بالمئة من أوكرانيا من دون احتساب الأراضي التي ضمتها روسيا عام 2014 كشبه جزيرة القرم، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية التي استندت على بيانات يصدرها يوميا المعهد الأميركي لدراسة الحرب.

ويعتمد الأخير على بيانات تنشرها موسكو وكييف إضافة إلى تحليل صور الأقمار الصناعية.

"التسوية التفاوضية"

وفي ظل فشل كل المحاولات الدبلوماسية للتوصل إلى سلام بين موسكو وكييف، فإن الهجوم المفاجئ ربما يهدف إلى كسب نفوذ في محادثات وقف إطلاق النار المحتملة بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

وضمن هذا السياق، يرى اللواء المتقاعد في الجيش الأسترالي ميك رايان، أن الهجوم الأوكراني عبر الحدود "يظهر أن المفاجأة لا تزال ممكنة" في الحرب وأن كييف ربما تحاول "إبطاء أو قتل الزخم الروسي في هجماتها".

وأضاف في مقال رأى نشر على موقع “سابستاك” في 8 أغسطس 2024 أن "هذه العملية قد تجبر روسيا أيضا على إعادة النظر في توزيع قواتها في أماكن أخرى على خط المواجهة، وتحويل الرواية بشأن الحرب إلى أخرى أكثر إيجابية بالنسبة لأوكرانيا، وتعزيز الروح المعنوية لدى السكان الأوكرانيين".

ووفقا لريان، قد يكون الهدف الآخر هو "الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي في حالة اضطرار أوكرانيا إلى التوصل إلى نوع من التسوية التفاوضية نهاية عام 2024 أو في أوائل عام 2025".

لكن مثل هذه الخطوة في كورسك تتطلب التزاما ضخما من القوات الأوكرانية بمرور الوقت لمواجهة الجهود الروسية لدفعهم إلى الوراء، وليس من الواضح إذا ما كانت كييف تملك القوة البشرية اللازمة.

وهناك احتمال آخر يتمثل في أن تأمل أوكرانيا في سحب القوات الروسية بعيدا عن مواقع الخطوط الأمامية في شرق وجنوب أوكرانيا لتعزيز دفاعاتها رغم أن هذا قد لا يكون ضروريا نظرا لعدد القوات الاحتياطية داخل روسيا التي لا تزال قادرة على الانتشار.

وهناك نظرية ثالثة مفادها أن أوكرانيا قد تسعى إلى الاستيلاء على المحطة النووية في كورسك لاستخدامها كوسيلة ضغط لإجبار القوات الروسية على الانسحاب من منشأة رئيسة للطاقة النووية في منطقة زابروجيا في أوكرانيا، والتي تم الاستيلاء عليها في الأيام الأولى من الغزو.

 ولكن مرة أخرى فإن هذا سيكون بمثابة مهمة ضخمة، تتطلب تعزيزات أوكرانية كبيرة.

وقد كان لافتا أن الجيش الأوكراني، أعلن في 10 أغسطس 2024 عن انخفاض عدد "الاشتباكات القتالية" داخل أوكرانيا، في إشارة محتملة إلى أن توغله في روسيا ينجح في تخفيف الضغط على أجزاء أخرى من خط المواجهة المترامي الأطراف حيث تسجل القوات الروسية تقدما.

أمام ذلك، فإنه عقب التوغل الأوكراني داخل العمق الروسي، لا يزال من غير الواضح مدى سرعة القوات الروسية في احتواء هذا الهجوم، وفق المراقبين.

ولهذا قالت وزارة الدفاع الروسية في  10 أغسطس 2024، إن قواتها "تواصل التصدي لمحاولة غزو القوات المسلحة الأوكرانية".

وأضافت أن معارك ضارية تركزت حول مالايا لوكنيا وأولجوفكا وإيفاشكوفسكوي، وهي تجمعات سكنية تقع على بعد يتراوح بين 10 و20 كيلومترا داخل روسيا.

وفي إشارة إلى خطورة الوضع، فرضت روسيا نظاما أمنيا شاملا في ثلاث مناطق حدودية بدءا من 10 أغسطس 2024.

كما أمر مدير جهاز الأمن الاتحادي الروسي ألكسندر بورتنيكوف بفرض نظام لمكافحة الإرهاب في مناطق كورسك وبريانسك وبيلجورود التي تبلغ مساحتها الإجمالية نحو 92 ألف كيلومتر مربع.

وتمنح هذه الإجراءات أجهزة الأمن سلطات واسعة تمكنها من إغلاق منطقة ما، بما يشمل فرض قيود على الاتصالات وتقييد بعض الحريات.