على غرار آيا صوفيا.. لماذا أغضبت مرعش القبرصية مصر وأوروبا من تركيا؟
"بشرى سارة" زفها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أثناء زيارته قبرص التركية، في 20 يوليو/ تموز 2021، معلنا إعادة منطقة فاروشا (بالتسمية التركية: مرعش) المهجورة منذ التدخل العسكري التركي عام 1974، للحياة وفتحها للسياحة مرة أخرى.
خلال الزيارة، أعلن رئيس قبرص الشمالية (التركية) إرسين تتار، أن قسما تبلغ مساحته 3.5 كيلومتر مربع من منطقة فاروشا تخليه تركيا عسكريا ليصبح تحت السيطرة المدنية.
التحرك التركي، يأتي بعد تجميد وضع المنطقة منذ عام 1974، حين تدخلت تركيا بالثلث الشمالي من قبرص ردا على محاولة انقلابية هناك لإلحاق الجزيرة باليونان.
قسمت الجزيرة في 20 يوليو/ تموز 1974، لقسم شمالي تركي مسلم، وجنوبي قبرصي رومي، ولم تعترف إلا تركيا حتى الآن بـ"جمهورية شمال قبرص المسلمة".
"فاروشا"، تقع على الخط الفاصل بين شطري قبرص، وأغلق وجمد وضعها بموجب اتفاقيات عقدت مع الجانب القبرصي الرومي، عام 1974.
المفارقة هنا تمثلت في غضب بعض حكام العرب أكثر من غضب الأوروبيين من القرار التركي بإنعاش مدينة مهجورة منذ 46 عاما، وانضمامهم لليونان وقبرص الرومية في انتقاد تركيا.
ما يذكر بحالة غضبهم أيضا عند إعادة أردوغان فتح مسجد آيا صوفيا في يونيو/ حزيران 2020، بعد غلقه 86 عاما.
حينئذ رد عليهم أردوغان ساخرا 12 يوليو/ تموز 2020: "لا نستغرب إذا ما نادى هؤلاء لاحقا بتحويل الكعبة التي هي أقدم دار عبادة أو المسجد الأقصى إلى متحف"، لكنه تجاهلهم هذه المرة.
هبة تركية
تحرك تركيا في أكثر من ملف شائك مثل افتتاح مسجد آيا صوفيا، ثم فاروشا متحدية الغرب ومجلس الأمن الدولي، يؤشر على تحول أنقرة لقوة في الساحة الدولية، بفعل تفوقها العسكري والاقتصادي.
هذا التحرك رفع وتيرة التوتر المتزايد مع أوروبا عموما، واليونان وقبرص الرومية المتحالفتين مع أنظمة عربية تناهض الثورات العربية، وتتحالف مع إسرائيل ضد مشاريع تركيا في المنطقة العربية.
الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن ضغطت لإصدار بيان يوم 23 يوليو/ تموز 2021، يشجب "خطة زعماء تركيا والقبارصة الأتراك بإعادة فتح منتجع فاروشا".
لم تعر تركيا القرار الأممي الذي يطالبها "بالتراجع فورا"، أهمية كبيرة، لكن خارجيتها قالت: إنه "يستند إلى ادعاءات لا أساس لها".
ونفت اعتزام قبرص التركية مصادرة ممتلكات في فاروشا أو إسكان مستوطنين فيها خلافا لحقوق الملكية.
وأكدت أنه منذ إعلان 7 أكتوبر/تشرين الأول 2020، جرى فتح جزئي منها وتحويلها من منطقة عسكرية لمدنية وسط دعوة أصحاب الأملاك فقط للعودة.
ودعا مجلس الأمن لتسوية النزاع القبرصي "على أساس نظام فيدرالي بمجتمعين ومنطقتين مع مساواة سياسية"، وهو ما ترفضه تركيا وتطالب بدولتين مستقلتين.
الخارجية التركية ردت أيضا على بيان أصدره الاتحاد الأوروبي في 27 يوليو/ تموز 2021، يرفض إعادة افتتاح المنطقة.
وقالت: إن تصريحات الأوروبيين وغيرها من البيانات المماثلة "لا تعكس سوى آراء الجانب القبرصي اليوناني، وليس لها أي قيمة أو معنى بالنسبة لنا".
ونبهت إلى أنه يجب على الاتحاد الأوروبي أن يفي بالوعود التي قطعها للشعب القبرصي التركي بعد خطة عنان (أمين عام الأمم المتحدة السابق) عام 2004 وأن "يتعلم كيفية مخاطبة جمهورية شمال قبرص التركية".
وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن في 23 يوليو/ تموز 2021، انتقد ما أسماه بـ"الخطة التوسعية بنقل السيطرة على مدينة تشكل رمزا لتقسيم قبرص إلى القبارصة الأتراك".
وقال: إنها مخالفة لقرارات مجلس الأمن الدولي، وهو التصريح الذي تجاهلته تركيا.
"لاس فيغاس" المتوسط
تعرف فاروشا بـ"لؤلؤة قبرص" وكانت مدينة سياحية مزدهرة بفنادقها ومياهها الصافية حتى الانقلاب القبرصي يوليو/ تموز 1974.
إذ سعى لضمها إلى اليونان، لكن ردت تركيا بالتدخل عسكريا لحماية مسلمي الجزيرة، وسيطرت على قرابة 40 بالمئة منها.
"فاروشا" تعني "المكان المحصن"، ولها جذور باللغة التركية في كلمة "فاروس" أي "الضاحية".
ودخلت الكلمة للغة التركية عن طريق البلقان في العصر العثماني، عندما كانت معظم البلقان تابعة للدولة العثمانية.
عرفت "فاروشا" باسم "لاس فيغاس" البحر الأبيض المتوسط، إذ كانت أهم مركز سياحي وترفيهي ليس فقط بالجزيرة بل في البحر الأبيض المتوسط ككل.
كما كانت وجهة لأثرياء العالم ولرجال الأعمال الأوروبيين والأسماء السينمائية المشهورة مثل مارلين مونرو، وصوفيا لورين، وبريجيت باردو.
خلال الـ47 عاما الماضية، خلت من ساكنيها بعد إعلانها منطقة عسكرية مغلقة منذ انتهاء العملية العسكرية في 18 أغسطس/ آب 1974، ولم يعد بها سوى الجيش التركي وبعض الطلاب ومراقبي الأمم المتحدة.
ومنع دخول من لا يحمل بطاقة خاصة إلى المنطقة، وكذلك السياح الأجانب لتتحول من لاس فيغاس إلى "مدينة الأشباح" إلا من كنيسة "أيقونة مرعش"، التي فتحتها تركيا أخيرا.
إنهاء العزلة
قبل فتح "فاروشا"، كان معظم فنادقها العالمية ومنازل مشاهير العالم، ومبانيها مغلقة بسبب نزاع حول الملكية والتفاوض لمن ستعود تلك الممتلكات.
حين تركها سكانها عام 1974 تركوا أملاكهم، حتى معارض السيارات بها سيارات من صنع عام 1974 كما هي لم يركبها أحد، كما يقول موقع "قبرص الشمالية" 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2020.
التحرك التركي لاستعادة نشاطها، بدأ مبكرا في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، حين أعلنت أنقرة إعادة افتتاح ساحل "فاروشا".
حينئذ قيل: إن الخطة فتح نحو 1.5 كيلومتر فقط من شاطئ البحر وليس المنطقة الداخلية بمساحة 6 كيلومتر مربع والتي تضم فنادق ومساكن.
ذلك اليوم جاب نحو 200 شخص الشوارع المفتوحة والجزء الساحلي في لحظة التاريخية، حسب وكالة الأناضول 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2020.
وقتئذ، أعلن أردوغان "بدء عهد جديد سيستفيد منه الجميع"، داعيا من يملكون حقوق ملكية هناك، من القبارصة الأتراك أو الروميين، لاستعادته، وأطلق اسما تركيا على مدينة "فاروشا" هو "ماراش" Maraş بالتركية أو "مرعش".
لكن زيارة أردوغان الثانية لها 23 يوليو/ تموز 2021، فتحت مساحة تعادل 3.5 كيلومترا من منطقة "فاروشا" السياحية بمدينة "غازي ماغوصة".
أسباب تركيا
يعتقد أن إنهاء تركيا لعزلة "فاروشا" وراءه عدة أسباب، منها الرد على تكاسل الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة تجاه مفاوضات حل القضية القبرصية وتجاهل القبارصة الأتراك.
إذ تسعى تركيا لفرض أمر واقع، كما دعا أردوغان لسلام على أساس دولتين لا دولة فيدرالية كما تطالب أوروبا وأمريكا.
وكذا التوجه التركي العام لاستعادة أمجاد الماضي وموجة العثمانية الجديدة بعدما أصبح لأنقرة كلمة مسموعة في العالم.
خلال زيارته لقبرص قال أردوغان: "عازمون على دخول عام 2023 الذي نحيي فيه مئوية جمهوريتنا كدولة قوية ومستقلة تنعم بالرفاه اقتصاديا وعسكريا وسياسيا ودبلوماسيا".
ومن الأسباب أيضا: تصاعد الصراع على النفوذ بين تركيا وقبرص واليونان بشأن الحقوق الإقليمية في شرق البحر المتوسط.
يضاف لهذا "السعي لجعل فاروشا منطقة جذب سياحي وفرصة للاقتصاد القبرصي التركي"، كما قال أردوغان.
تضم المدينة 50 فندقا، والعديد من المنتجعات والمباني الشاهقة والمشافي والمدارس التي تنتظر إعادة الحياة إليها.
مفاوضات إعادة توحيد الأجزاء الشمالية والجنوبية من الجزيرة توقفت منذ عام 2017، إذ يرفض الاتحاد الأوروبي وأميركا حل الدولتين لتسوية الصراع، بينما يضغط أردوغان لأجل حل الدولتين.
ووفقا لقرار مجلس الأمن "رقم 550"، فإن أي محاولات لتوطين أي جزء من فاروشا لأشخاص بخلاف سكانها القبارصة اليونانيين غير مقبولة، ويطالب القرار بنقل المدينة لإدارة الأمم المتحدة.
قلق مصري إسرائيلي
مثلما أثار قرار تركيا فتح مسجد آيا صوفيا قلق دول عربية، تضامنت مع الدول الغربية والأرثوذوكسية (روسيا واليونان)، لمجرد العداء لتركيا، صدرت مواقف عربية سياسية وإعلامية رافضة لقرار فتح "فاروشا".
رد الفعل المصري كان الأكثر استغرابا، حيث أعربت خارجية مصر عن "عميق القلق إزاء ما تم إعلانه بشأن تغيير وضعية منطقة فاروشا"، واعتبرت ذلك "يخالف قرارات مجلس الأمن ذات الصلة".
دفع هذا مصريين كانوا ينتظرون بيانا مشابها من الخارجية عن" عميق القلق" من بدء إثيوبيا الملء الثاني لسد النهضة، للسخرية من بيان الخارجية المصرية على موقع الوزارة.
كتب أحدهم معلقا: "طب مفيش بـ 2 جنيه قلق لإعلان انتهاء الملء الثاني لسد الخراب الإثيوبي؟".
رد مصر يشير لتأزم العلاقات مع تركيا مجددا، وكشف أيضا عن غضب القاهرة واستيائها وتصعيدها بعد رفض تركيا الاستجابة لمطالبها في عدة ملفات بينها الظهور الإعلامي للمعارضين من تركيا وكذلك الملف الليبي.
مصر تريد انسحاب القوات التركية من ليبيا ضمن خطة ما يسمى "إخراج كل المرتزقة" التي أقرها مؤتمر "برلين 2"، لكن أنقره ترفض ربط وجودها الشرعي باتفاق مع حكومة طرابلس، بوجود المرتزقة الأجانب الذين تم جلبهم بالمال الإماراتي.
الخبير في الاستشارات الإستراتيجية محمد سليمان، يقول لموقع "مونيتور" 27 يوليو/ تموز 2021: إن الموقف المصري من فاروشا "يعود لاتفاقها مع قبرص بشأن التزام القاهرة بدولة فيدرالية هناك لمنطقتين وطائفتين".
ويضيف: "مصر تنظر إلى إعادة فتح فاروشا الجزئي كخطوة تركية جديدة لاختبار حدود القوى الإقليمية بالبحر المتوسط".
إسرائيل أيضا عبرت عن "القلق" من الموقف التركي في فاروشا، ووصفت التحركات التركية بـ"الاستفزازية"، معلنة تضامنها ودعمها الكامل لقبرص.
وهناك تحالف قبرصي يوناني مصري إماراتي إسرائيلي ضد تركيا في شرق البحر المتوسط؛ يسعى لحصار تحركات أنقرة في ملفات إقليمية حيوية منها غاز المتوسط وليبيا وغيرها.
وفي 15 أبريل/نيسان 2021، جرى تدشين منتدى رباعي في تل أبيب على مستوى وزراء خارجية إسرائيل واليونان وقبرص والإمارات "يركز على القضايا الاقتصادية والأمنية".
ووقعت مصر مع قبرص اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في ديسمبر/ كانون الأول 2013، واتفاقية مماثلة مع اليونان في أغسطس/ آب 2020، وترى أنقرة أن الأخيرة تقع في منطقة الجرف القاري لتركيا.