رمضان بلا مآذن.. غزة تصلي في العراء بعد تدمير 90 بالمئة من المساجد

تطغى على أجواء رمضان هذا العام قسوة الحرب ومرارة الفقدان في غزة
للعام الثاني على التوالي، يحل شهر رمضان على قطاع غزة وسط أجواء يطغى عليها الحزن والدمار، بعد 15 شهرا من العدوان الإسرائيلي الذي قضى على كل مقومات الحياة.
وفي ظل هذه المعاناة، يجد الأهالي أنفسهم محرومين من قضاء طقوس الشهر الفضيل بشكل طبيعي، منشغلين بكفاح يومي لتأمين أدنى الاحتياجات.
وبينما كان رمضان يجمع عائلات القطاع بالدفء والروحانية، باتت تطغى على أجوائه قسوة الحرب ومرارة الفقدان وغياب المأوى وانعدام السلع والخدمات الأساسية.
غياب الطقوس
ويصف الثلاثيني أحمد دبابش من شمال قطاع غزة الأوضاع خلال الشهر الكريم بـ"الكارثية" بعد أن أصبح المواطنون بلا مأوى مع استمرار النقص في الغذاء والمساعدات.
وروحانيا، يقول دبابش لـ"الاستقلال": "كان لدينا 3 مساجد قريبة من منزلنا يمكن الصلاة فيها خلال رمضان، وجميعها أصبحت أثرا بعد عين كَحالِ بيتنا والمنطقة بأكملها".
وبعد عودة آلاف الفلسطينيين من جنوب قطاع غزة إلى الشمال على إثر اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في يناير/كانون الثاني 2025، صُدم المواطنون بحجم الدمار الذي نال كل شيء وكان على مد البصر.
ويتابع دبابش: "انتقلنا من الشمال إلى مدينة غزة لعدم توفر أي مقومات للحياة في منطقتنا التي أحالها الاحتلال إلى دمار وخراب حيث تغيب الكهرباء والماء بالكامل".
وعلى عكس كل عام، قال: إنه صلى التراويح في رمضان الفائت داخل الخيمة؛ حيث كان العدوان مستمرا وعلى أشُدّه عام 2024.
وبيّن أن ما تغير في رمضان هذا العام هو المكان فقط؛ حيث "نقيم اليوم صلاة التراويح والقيام في المنزل، بعد أن كنا من المحظوظين القلائل الذين عثروا على شقة للإيجار في مدينة غزة".
ويرتبط أهالي قطاع غزة الذين يفوق عددهم المليونين بالمساجد بشكل كبير، خاصة في شهر رمضان؛ حيث يقرأون القرآن فرادى وفي حلقات جماعية ويعتكفون ويحرصون على صلاة التراويح والقيام.
ومع أذان صلاة العشاء، تتوافد الجموع إلى المساجد التي كانت يوما تضج بالحياة، قبل أن يحيلها الدمار إلى أطلال صامتة، شاهدة على معاناة لا تنتهي وغياب غير معهود للطقوس الدينية.
ويقول الشاب محمد سليمان من جنوب القطاع: إن الانهماك في توفير لُقمة العيش يوميا قضى على الأجواء الروحانية لشهر رمضان.
وتابع لـ"الاستقلال" أن غياب الاستقرار هذا العام قتل طعم الحياة بالكامل في غزة التي كانت تنبض شوارعها خلال رمضان بشكل لا مثيل له مقارنة بباقي شهور العام.
ولفت إلى أن “الاحتلال حوّل مساجد القطاع إلى ركام وكان يتعمد استهدافها حتى أصبح الدخول إليها والصلاة فيها أحد هواجس السكان”.
وذكر أن "احتمال استهداف المساجد خلال العدوان كان مرتفعا جدا، وهو ما شهدناه خلال الشهور الماضية عندما كان الاحتلال يقصفها على رؤوس المصلين".
وواصل القول: "نعاني اليوم في كل شيء، حتى في توفير المياه للوضوء، لم تعد الحياة كالسابق، فالدمار وانعدام سبل الحياة الأساسية البسيطة، قضى على فرحة استقبال رمضان وطقوسه".

تدمير المساجد
ومن بين أقسى مشاهد رمضان هذا العام، الدمار الواسع الذي لحق بمعظم مساجد قطاع غزة جراء العدوان الإسرائيلي؛ إذ حُرم الأهالي من أداء صلواتهم وطقوسهم الروحانية في بيوت الله التي كانت رمزا للسكينة والتجمع الإيماني خلال الشهر الفضيل.
ودمر الاحتلال خلال حرب الإبادة 1109 مساجد من أصل 1244، تدميرا كليا أو جزئيا، وفق ما أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في قطاع غزة في 18 فبراير/شباط 2025.
وأوضح وكيل الوزارة عبد الهادي الأغا خلال مؤتمر صحفي أمام المسجد العمري المدمر في مدينة غزة، أن "ما نسبته 89 بالمئة من مساجد القطاع جرى تدميرها".
وأشار إلى أن "834 منها دمرت كليا وتحوَّلت إلى أنقاض، فيما تضرر 275 منها بأضرار جزئية بليغة مما جعلها غير صالحة للاستخدام، الأمر الذي أثر بشكل مباشر على أداء الشعائر الدينية وإقامة الصلوات".
كما "دمر الاحتلال أيضا 643 عقارا وقفيا؛ حيث نال العدوان الصهيوني مؤسسات التعليم الشرعي والعمل الدعوي مما أدى إلى تعطيل خدماتها الحيوية وأثر على آلاف الطلبة والمستفيدين من خدماتها" وفق البيان.
وخلال العدوان، نشر جنود الاحتلال مقاطع فيديو عديدة لهم وهم يدنسون مساجد قطاع غزة. وفي إحدى المرات، ألقى أحدهم درسا دينيا من التوراة داخل جامع مدمر.
وأظهر الفيديو وقتها تمدد بقية الجنود على جنبات المسجد الذي تضررت جدرانه ومرافقه بشكل كبير نتيجة القصف الإسرائيلي.
وفي مقطع آخر، اعتلى جنديان إسرائيليان منبر أحد المساجد بزيهما العسكري وسلاحهما في مشهد استعراضي كان فيه أحدهما يمسك بالمصحف الشريف ساخرا.
وفي منتصف نوفمبر 2023، انتشر على مواقع التواصل مقطع فيديو لعدد من جنود جيش الاحتلال وهم يدنسون مسجدا في مدينة بيت حانون شمال قطاع غزة بعد احتلالها، ويعملون على تحويله لكنيس يهودي يرددون فيه شعائر تلمودية تدعو للقتل والإبادة.
وظهر في الفيديو جنود الاحتلال داخل المسجد مدججين بأسلحتهم، وقد التفوا حول شخص بدا من رجال الدين اليهودي، وقد وضع هو الآخر سلاحا على كتفه ثم بدأ بحمل مجسم للفائف التوراة عاليا.
وفيما يسمع الجنود الآخرون يرددون بعض عباراته المحرّضة على القتل، يشاهد علم دولة الاحتلال الإسرائيلي معلقا على أحد جدران المسجد الذي يعتقد أنه المسجد الكبير في المدينة.
وإلى جانب التدمير والتدنيس، قتلت قوات الاحتلال 315 من موظفي الأوقاف ودعاتها وأئمتها فيما بلغ عدد المعتقلين 27 شخصا، وفق بيان رسمي للوزارة.
وكشفت الوزارة أن التكلفة الإجمالية للخسائر والأضرار التي تعرض لها القطاع الديني والوقفي تبلغ أكثر من 500 مليون دولار نتيجة تدمير المساجد والمقابر والعقارات الوقفية والمقار الإدارية، والمراكز الدينية "التي تمثل جزءا أساسيا من النسيج الاجتماعي والديني للسكان".

أجواء متواضعة
وفي محاولة لاستعادة بعض الأجواء الرمضانية، أقام الفلسطينيون في غزة صلاة التراويح في ساحات المساجد التي دُمّرت بالكامل، أو داخل ما تبقى من المساجد التي تضررت جزئيا، متحدّين آثار العدوان ومتشبثين بروح الإيمان والصمود.
وغرد الطبيب الغزي عز الدين شاهين بالقول: "صلينا التروايح في هذا المسجد (في دير البلح وسط قطاع غزة) الذي تعرض للقصف سابقا، كان يعج بالنازحين، قصفوهم بعد منتصف الليل وهم نيام، فارتقى أكثر من 25 شهيدا وعشرات الجرحى".
وتابع: "وضعنا جباهنا للسجود وكان هناك بركة دماء، هذه الشوادر تغطي خلفها جدرانا التصقت بها أشلاء الشهداء، كنت شاهدا على الجريمة ولا تزال رائحة البارود والدماء في أنفي".
وبعد انقطاع خلال العام 2024، أقام الفلسطينيون صلاة التراويح على أنقاض المسجد العمري التاريخي المدمر بمدينة غزة.
ويعدّ “العمري” الذي أسس قبل أكثر من 1400 عام، من أكبر وأعرق مساجد غزة، وثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجدين الأقصى وأحمد باشا الجزار في عكا، ويوازيه بالمساحة جامع المحمودية في يافا.
وجرى ترميم جزء من الجامع الذي يطلق عليه الغزيون "أقصى غزة"، في إشارة إلى المسجد الأقصى، بالأخشاب والنايلون من أجل إقامة الشعائر الدينية فيه خلال رمضان.
كما أقام الغزيون صلاة التراويح في مراكز الإيواء داخل المدارس التي نزحوا إليها منذ أكثر من 15 شهرا وتحولت إلى ملجأ لهم بعد تدمير منازلهم.
ورغم الدمار الذي يحيط بهم، علق الأهالي الفوانيس وزينوا بعض الشوارع بالإضاءات الرمضانية، التي بدت كأشعة أمل وسط أنقاض المنازل والمباني المهدمة.
كما نظموا موائد إفطار جماعية في عدد من المناطق، ليجسدوا بذلك روح التكافل والتحدي في وجه الحصار والمعاناة.
وعلى الجانب الرسمي، أعلنت وزارة الأوقاف إطلاق "ائتلاف مآذن لإعمار المساجد والمؤسسات الدينية في قطاع غزة".
وذكرت أنه "ائتلاف عالمي يضم رؤساء المؤسسات الشرعية والخيرية والشخصيات الدينية داخل غزة وخارجها ويضم عضويات من أكثر من 30 دولة".
ولفتت إلى أن "الائتلاف يمثل مرجعية عليا لرعاية وإسناد مشاريع المجال الديني والوقفي في القطاع في المجالات المختلفة، من خلال إشراك مكونات الأمة الرسمية والأهلية في ذلك".
وأفادت بأن "رسالة الائتلاف تتمثل في توجيه الجهود الحكومية والأهلية داخليا وخارجيا نحو إعادة إعمار المساجد والمؤسسات الدينية التي دمرها الاحتلال وأدائها واجبها وفق منهجية شرعية ورؤية عصرية تواكب الواقع وتستجيب لتحدياته".
وأشارت إلى أن "أهم المشاريع المطلوبة إنشاء المصليات المؤقتة، وإعمار المساجد والمؤسسات الدينية المدمرة، وكفالة الأئمة والدعاة والعلماء والمحفظين، ورعاية حلقات تحفيظ القرآن والمبادرات الدعوية والتعليمية".
وكذلك "إنشاء مدارس شرعية، ومراكز تعليمية، وإنشاء الوقفيات المساندة للقطاع الديني، وتوفير المصاحف والأجزاء القرآنية والمكتبات الشرعية، وإنشاء آبار المياه وتشغيل محطات التحلية في المساجد والمصليات".
وشددت على أن إعادة إعمار المساجد "ليست مجرد ضرورة دينية فقط، بل هي أولوية إنسانية لضمان استمرارية الخدمات التي يقدمها قطاع الأوقاف في مواجهة الظروف القاسية التي يعيشها أهل غزة".