ميلوراد دوديك.. رجل روسيا بالبلقان يهدد بالانفصال عن البوسنة ويعيد شبح الحرب

"البوسنة لن تقع في وعاء مليء بالعناكب والثعابين"
يخيم شبح الحرب من جديد على البوسنة والهرسك مع تصاعد الانقسامات والتوترات السياسية الداخلية وتدخل أطراف خارجية تتمثل بالمعسكرين الغربي والروسي.
وأثيرت أخيرا مخاوف من تقويض اتفاقية دايتون التي أنهت أكثر الحروب دموية في أوروبا الحديثة (1992 - 1995) وتعرض خلالها المسلمون البوشناق لعمليات إبادة جماعية على يد الصرب.

مشعل التوتر
ويعد رئيس ما تعرف بجمهورية صرب البوسنة ميلوراد دوديك أحد أبرز مشعلي التوتر في هذا البلد الذي يشهد خلافات مستمرة تعود بالأساس إلى التركيبة السياسية المعقدة والتنوع العرقي في البلاد.
إذ تتقاسم الحكم ثلاثة مكونات رئيسة: البوشناق المسلمون، والكروات الكاثوليك، والصرب الأرثوذكس، ولكل منها امتداداته السياسية والدينية والثقافية.
وبدأت التوترات الأخيرة في 26 فبراير/شباط 2025، بعدما أصدرت محكمة البوسنة حكما بسجن رئيس “صربسكا” ميلوراد دوديك لمدة عام (يرجح استبداله بغرامة مالية) ومنعه من تولي أي منصب رسمي أو سياسي لمدة ست سنوات.
وجاء هذا القرار لعرقلة دوديك تنفيذ قرارات الممثل السامي الدولي كريستيان شميدت الذي يشرف على تنفيذ اتفاقية دايتون للسلام بالبلاد.
وبناءً على هذه الاتفاقية، هناك كيانان رئيسان يُشكلان الدولة، هما اتحاد البوسنة والهرسك، الذي يضم غالبية البوسنيين والكروات البوسنيين (عاصمته سراييفو)، وجمهورية صربسكا التي تضم معظم صرب البوسنة (مركزها الإداري بانيا لوكا).
وفي 12 مارس/آذار، أصدر مكتب المدعي العام في البوسنة مذكرة توقيف بحق دوديك، ورئيس وزرائه ورئيس الجمعية الوطنية لجمهورية صربسكا (البرلمان) بتهمة "الاعتداء على النظام الدستوري" للبلاد.
لكن المتحدث باسم حزب دوديك نفى التهمة الموجهة للأخير، وقال: "لن يعتقله أحد ولا يستطيع أحد اعتقاله".
وقد تجول دوديك بالفعل في المناطق الصربية داخل العاصمة سراييفو بعد الحكم عليه دون أن تتمكن قوات الأمن من اعتقاله.
ويحيط دوديك نفسه بقوات مدججة بالسلاح، ولذلك فإن عملية اعتقاله قد تثير اقتتالا داخليا يتخوف أن يكون بمثابة شرارة اندلاع الحرب بالبلاد.
ووصل الأمر ذروته بعدما أيدت محكمة الاستئناف في البوسنة والهرسك، مطلع أغسطس/آب 2025، الحكم الصادر في فبراير.
ونتيجة لهذا الحكم، أعلنت لجنة الانتخابات المركزية بالبوسنة في 6 أغسطس، تجريد دوديك من منصبه في قرار اعتمد بالإجماع.
ويحقّ لمحامي دوديك الطعن في هذا القرار أمام دائرة الاستئناف في محكمة البوسنة والهرسك في غضون يومين من تاريخ استلامه.
وبعد أن يُصبح نهائيًا، ستُصدر اللجنة قرارًا بشأن الدعوة لانتخابات مبكرة لاختيار رئيس جمهورية صرب البوسنة المتمتعة بالحكم الذاتي في غضون 90 يومًا.
وقال محامو دوديك: إنهم يعتزمون رفع القضية إلى المحكمة الدستورية للبوسنة والهرسك. وكتب الزعيم المقال في منشور على موقع إكس: “الاستسلام والتخلي ليس خيارا”، مضيفًا أنه يتعهد بمواصلة مهامه.
وأعلنت حكومة صرب البوسنة رفضها حكم المحكمة؛ لأنه "غير دستوري وله دوافع سياسية".
وحظي دوديك بدعم من حلفائه الدوليين، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والصربي ألكسندر فوتشيتش ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، فيما صرّح الاتحاد الأوروبي بأن "الحكم ملزم ويجب احترامه".
والبوسنة مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، إلا أن أنشطة دوديك الانفصالية والموالية لروسيا أعاقت التقدم نحو ذلك.
وقالت السفارة الروسية في سراييفو: إن “بقاء البوسنة والهرسك دولة موحدة أصبح على المحك بسبب رغبة عمياء وجنونية لرهنها بأيدي الآخرين (أوروبا)”.
وأردفت خلال بيان في 7 أغسطس أن على البوسنة أن “ترفض الإملاءات الخارجية حتى لا تصبح مثل المجلس العسكري في كييف ولا تقع في وعاء مليء بالعناكب والثعابين”، متسائلة: "هل نسوا حقا سمعتهم كبرميل بارود أوروبي؟
وأعلنت أن "لحظة الحقيقة قد حانت قبل خروج الوضع عن السيطرة؛ لأنه بعد ذلك قد تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة"
وهذا الحظر السياسي قد يُزعزع مستقبل البوسنة، المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، وغرب البلقان عموما.
وفي وسط هذه التوترات، سافر دوديك في أبريل/نيسان، إلى موسكو للقاء بوتين؛ إذ يعد الزعيم الصربي على نطاق واسع الحليف الرئيس لموسكو في البلقان، وقد استخدم نفوذ الكرملين علنًا لتأجيج الانقسامات في الداخل.

داعم لترامب ونتنياهو
ميلوراد دوديك ولد في مارس 1959 في بانيا لوكا المركز الإداري لجمهورية صرب البوسنة، ودرس التعليم الأساسي والثانوي فيها وتخرج في كلية العلوم السياسية بجامعة بلغراد.
بين عامي 1986 و1990، وبصفته أصغر مسؤول في جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية آنذاك، تولى عددًا من المناصب البلدية.
أسس نادي النواب البرلمانيين المستقلين، الذي كان بمثابة الأساس لتأسيس تحالف الديمقراطيين الاجتماعيين المستقلين عام 1996، والذي ترأسه منذ إنشائه بنفس السنة.
انتخب ثلاث مرات لعضوية البرلمان في جمهورية صربسكا أعوام 1990 و1997 و2002، وانتخب رئيسا لوزراء هذا الكيان أيضا 3 مرات في أعوام 1998 وفي فبراير وديسمبر/كانون الأول من عام 2006. كما تولى رئاسة الجمهورية ثلاث مرات في أعوام 2010 و2014 و2022.
وفيما يخص مواقفه الجدلية، يعد دوديك داعما صريحا لإسرائيل، ففور وقوع عملية طوفان الأقصى، أدان الهجوم وأمر بإضاءة مبنى الرئاسة في بانيا لوكا، باللونين الأبيض والأزرق، بينما رفعت مباني سراييفو العلم الفلسطيني.
وفي خضم العدوان الإسرائيلي على غزة، سافر دوديك الذي ينكر حدوث إبادة جماعية في سربرينتسا إلى القدس المحتلة في 26 مارس 2025 للمشاركة في "المؤتمر الدولي لمكافحة معاداة السامية".
وأثناء كلمة له باجتماعات المؤتمر الذي عقد في القدس، قال: إنه "في بانيا لوكا، رفعنا في 7 أكتوبر، علم إسرائيل لكن هكذا احتفلوا بالجانب الآخر في سراييفو"، رافعا بيده صورا تظهر البوسنيين المسلمين يحملون أعلام فلسطين.
وخلال الحرب على غزة، لم يتوقف دوديك عن محاولة ربط البوشناق المسلمين بحركة المقاومة الإسلامية حماس ووصم الطرفين بـ"الإرهاب".
وفي نهاية أبريل 2024، أثار العديد من العواصف بوصفه اتحاد البوسنة والهرسك بـ"وكر المسلمين". وقال أيضا إنه "يجب علينا دعم إسرائيل" وأنه “لا فرق بين حماس والمسلمين” البوشناق.
ويُصنّف دوديك ومن حوله دعمهم لحرب إسرائيل على غزة في سياق "مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي"، وفق زعمه.
وفي مقابلة أجراها دوديك مع صحيفة جيروزالم بوست عام 2022، زعم أن "لا أحد يفهم اليهود مثل الصرب"، مبينا أن ما يربطهما هو "التطرف الإسلامي، الذي يحاول زعزعة استقرار إسرائيل، والذي حاربناه أيضًا في الحرب الأهلية في التسعينيات"، وفق تعبيره.
ويُؤطّر دوديك الصراعات في البوسنة وفي فلسطين المحتلة من منظور قومي إثني وديني، مساويا بين الصرب والإسرائيليين والبوشناق والفلسطينيين.
وفي مقابلة أخرى أجراها مع صحيفة إسرائيل اليوم خلال زيارته الأخيرة، قال دوديك: “لم ينتهِ الأمر برفع علم منظمة التحرير الفلسطينية على مبنى الحكومة في سراييفو، ولكن رفعت في المظاهرات أعلام حماس وحزب الله”.
وتابع: “في بانيا لوكا، وفي جميع أنحاء جمهورية صرب البوسنة، لا يمكن أن يحدث هذا. دعم إسرائيل مطلق”.
وقالت صحيفة إسرائيل اليوم في 4 أبريل 2025: إن دوديك لا يشك في أن عاصمتنا هي القدس، وأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب كان على حق في نقل سفارة بلاده إليها.
وبشكل عام، يُعدّ الزعيم الصربي داعمًا قويًا لترامب، ولهذه الصلة تاريخ طويل. وقال دوديك للصحيفة العبرية: "لم أخفِ دعمي له حتى قبل انتخابه لأول مرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، ودفعتُ ثمنًا باهظًا لذلك".
ويضيف: “عندما فاز ترامب في الانتخابات الأولى، كان من المفترض أن أسافر لحضور حفل تنصيبه، وقبل يومين من الرحلة، فرضت إدارة (الرئيس الأسبق) باراك أوباما المنتهية ولايته عقوبات سياسية عليّ”.
ومنذ ذلك الحين، "استحق" دوديك أيضًا عقوبات من الرئيس السابق جو بايدن، الذي ذهب إلى أبعد من ذلك وأدرج القيادة السياسية لجمهورية صرب البوسنة بأكملها، وحتى أفراد عائلته، على قائمة العقوبات.
وخلال الحملة الانتخابية الأخيرة في الولايات المتحدة، دعم دوديك ترامب علنًا ودعا الصرب المقيمين هنا للتصويت له، وتجول مرتديًا القبعة الحمراء التي كُتب عليها شعاره الشهير "لنجعل أميركا عظيمةً مجددًا"، وأغدق المديح عليه وعلى برنامجه الانتخابي.
ولم يتضاءل هذا الدعم قيد أنملة، على الرغم من أن الإدارة الجمهورية لم تتحرك بعد لرفع العقوبات عن دوديك.
كما دعم اقتراح ترامب لتهجير سكان قطاع غزة “المعادين” قائلا إنهم “أظهروا عداءهم، ورأينا ما يريدون فعله بكم، مع أن يد إسرائيل كانت دائمًا ممدودة للسلام”.

مسعر انقسام
ولطالما هدد دوديك بالانقسام عن البوسنة ورأى أن مستقبل الصرب في هذا البلد مرتبط بما يطلق عليه “صربيا الكبرى”
ففي 23 يونيو/حزيران 2025، قال دوديك: إن جمهورية صربسكا ستصبح أكثر استقلالا مع مرور الوقت وستكون في النهاية "دولة مستقلة"
وأردف: “نمتلك القوة والموارد اللازمة للدفاع عن أنفسنا من أي هجوم محتمل من كيان بوسني آخر، وهو اتحاد البوسنة والهرسك”.
وفي أبريل 2024، قال دوديك: إنه يفكر بجدية في إعلان استقلال جمهورية الصرب عن بقية البوسنة ما لم يتم حل الخلاف بشأن قانون الملكية.
وجاء ذلك بعد إلغاء قانون ينص على أن الممتلكات غير المنقولة هي ملك للكيانات التي تشكل اتحاد البوسنة والهرسك (سراييفو).
وقد ألغت المحكمة الدستورية في مارس 2023، قانون الممتلكات غير المنقولة المثير للجدل في كيان جمهورية صرب البوسنة.
وفي السابق، قضت المحكمة الدستورية بأن سلطة إدارة الممتلكات العامة تعود إلى الكيان، وأن حقوق الملكية تعود إلى اتحاد البوسنة والهرسك.
بينما تقول إدارة صرب البوسنة: إن حقوق الملكية ينبغي أن يعود إلى الكيان أيضا وليس إلى الاتحاد ككل.
ومع تصاعد تهديداته الانفصالية، قدم أعضاء في الكونغرس الأميركي في 26 يونيو 2025، مشروع قانون بشأن احترام اتفاق دايتون للسلام، ينص على فرض عقوبات على الأفراد والمنظمات الأجنبية التي تُخلّ بالاستقرار والنظام الديمقراطي في البوسنة، وأشاروا بشكل خاص إلى تصرفات دوديك.
تشمل العقوبات تجميد الأصول وحظر الدخول إلى الولايات المتحدة، بينما تتمتع وزارة الخزانة بسلطة اتخاذ إجراءات ضد المؤسسات المالية التي تتعاون مع الأشخاص الخاضعين للعقوبات.
البيان المشترك لأعضاء الكونغرس وصف دوديك بـ"المجرم" وقال: إنه يسعى لتدمير المؤسسات التي تحافظ على السلام الهش في البوسنة.
وأردف: “يُشجع محور الشر الجديد، المكون من الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية، الجهات الشريرة مثل دوديك، ومن الضروري للاستقرار العالمي وقف هذا الشر في مساعيه”.
ولفت إلى أن المشروع يرسل رسالة مفادها أن العالم لن يتسامح مع الانفصاليين الفاسدين مثله (دوديك) في ترسيخ أقدامهم من جديد.
وبين عامي 1992 و1995، اندلعت الحرب عندما تمرد صرب البوسنة على استقلال هذا البلد عن يوغوسلافيا السابقة، وسعوا إلى تشكيل دولة مصغرة، بهدف ضمها إلى صربيا.
وقتل في الحرب نحو 100 ألف شخص جلهم من المسلمين البوشناق، وشملت ارتكاب إبادة جماعية في مدينة سربرينيتسا راح ضحيتها أكثر من 8000 شخص.
وقد دخل دوديك مرارا وتكرارا في صدام مع المبعوث الدولي للسلام كريستيان شميدت، وأعلن أن قراراته غير قانونية في جمهورية صرب البوسنة.
وعلى الرغم من التحذيرات المتواصلة، واصل دوديك نفس النهج التوتيري الانفصالي وقرر في 3 يوليو/تموز 2025 إنشاء قوة شرطة احتياطية.
وينظر إلى تلك القوة على أنها جيش حزبي لتحالف الديمقراطيين الاجتماعيين الأحرار بزعامة رئيس هذا الكيان الصربي.
وتثير هذه الخطوة أجواءً من الخوف في البلاد وتهدد بزعزعة الاستقرار خاصة أن اتحاد البوسنة والهرسك هدد باتخاذ إجراء مماثل.
وبعدها بثلاثة أيام، قال دوديك: إن الهدف التاريخي للشعب الصربي يجب أن يكون توحيد جمهورية صربسكا وصربيا.
وتابع: “الصرب اليوم لديهم دولتان ونريد بناء دولتنا مع صربيا وليس مع البوسنيين والكروات (أي الانفصال عن البوسنة)”.
ورأت صحيفة بوليتيكو الأميركية في 6 أغسطس 2025 أن تصعيدات دوديك الأخيرة نتيجة مباشرة لتغيير الإدارة الأميركية.
إذ أعرب حلفاء الرئيس، مثل رودي جولياني (عمدة نيويورك السابق ومحامي ترامب السابق) ورود بلاغوفيتش (حاكم إلينوي السابق)، عن دعمهم لدوديك بعبارات حرب ثقافية تصوره كزعيم مسيحي ضحية في دولة ذات أغلبية مسلمة.
ولا يزال الغموض يكتنف الجهة التي ستنفذ قرار العزل حال تحداه دوديك، وهي مشكلة تتفاقم بفعل قيامه بزيادة رواتب قوات الشرطة أخيرا وتزويدها بالأسلحة في المنطقة ذات الأغلبية الصربية.