"تسقط الديكتاتورية".. لماذا عاد التونسيون للتظاهر من جديد ضد قيس سعيد؟
توجه منظمات حقوقية تونسية ودولية انتقادات شديدة لنظام سعيد
ما يزال التونسيون يلتقطون أنفاس الحرية، على الرغم من إجراءات الرئيس قيس سعيد غير الدستورية التي بدأها عام 2021 وانفرد بموجبها في حكم البلاد "بطريقة استبدادية".
إذ بقي الشارع التونسي يقظا أمام محاولات قمع الحريات التي نعمت بها تونس عقب نجاح الثورة التونسية قبل 13 عاما وإجبار الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي على مغادرة البلاد.
حراك تونسي
وفي وقت تمر فيه الحريات بأسوأ حال، عاد الحراك السياسي بشكل ملحوظ إلى تونس رافعا صوته أمامه "الديكتاتورية" هذه المرة.
فقد تظاهر مئات من الشباب في تونس العاصمة في 24 مايو/أيار 2024 احتجاجا على أحكام بالسجن وموجة توقيفات طاولت إعلاميين ومحامين من قبل سلطات سعيد.
وسار المتظاهرون في شارع الحبيب بورقيبة هاتفين "تسقط الديكتاتورية" و"يسقط المرسوم (54)" و"فاسدة المنظومة من قيس إلى الحكومة" و"جاك الدور جاك الدور يا قيس الديكتاتور".
كما حمل المحتجون ومن بينهم صحفيون وناشطون في منظمات المجتمع المدني لافتات كُتب عليها شعار رئيس في ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 "شغل، حرية، كرامة وطنية" و"تسقط الثورة المضادة".
وقضت محكمة تونسية في 23 مايو 2024 بسجن كل من المحلل والمعلق السياسي مراد الزغيدي ومقدم البرامج التلفزيونية والإذاعية برهان بسيّس سنة على خلفية تصريحات منتقدة للسلطة.
ووجهت إليهما تهمة "استعمال شبكة وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج وترويج وإرسال وإعداد أخبار وشائعات كاذبة بهدف الاعتداء على حقوق الغير والإضرار بالأمن العام".
وجرت محاكمتهما بموجب المرسوم رقم 54 الذي أصدره قيس سعيد في 13 سبتمبر/أيلول 2022 ولقي انتقادات واسعة.
ومرسوم 54 يعاقب على نشر "أخبار كاذبة" ويُنتقد بشكل واسع النطاق باعتباره “يحد من حرية التعبير”، وفق نقابة الصحفيين التونسيين.
وموجة الاعتقالات الأخيرة هذه ضد عدد من الصحفيين بموجب المرسوم 54، سبقها تهمة التآمر على أمن الدولة التي اعتقل بموجبها عدد من قادة الصف الأول في المعارضة التونسية خلال وقت سابق.
إذ أيدت محكمة الاستئناف بتونس، في 17 مايو 2024 حكما ابتدائيا على رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، بـ3 سنوات سجنا ودفع غرامة مالية.
ولا يزال نحو 40 شخصا بعضهم معارضون بارزون ورجال أعمال وناشطون سياسيون موقوفين منذ فبراير/شباط 2024، ويتهمهم سعيد "بالتآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي".
وأمام ذلك، توجه منظمات حقوقية تونسية ودولية انتقادات شديدة لنظام سعيد مؤكدة أنه "يقمع الحريات في البلاد". لكن الرئيس التونسي يكرر أن "الحريات مضمونة".
حتى إن منظمة "هيومن رايتس ووتش" غير الحكومية قالت في يناير 2024 إن تونس شهدت "مزيدا من التراجع في ما يتعلق بحقوق الإنسان وسيادة القانون في عام 2023".
وأضافت المنظمة أن "الحكومة اتخذت إجراءات جديدة لتكميم حرية التعبير وملاحقة المعارضين وقمع المهاجرين وطالبي اللجوء".
"التوسع والتجذر"
ويعاكس المشهد التونسي ما يقوله سعيد، فخلال عام ونيف، جرت محاكمة أكثر من 60 شخصا، بينهم صحفيون ومحامون ومعارضون للرئيس، بحسب النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.
إذ إن مشوار التضييق على مناخ الحريات في تونس، واستفحال توظيف السلطة للتضييق على المعارضين، بدأ منذ احتكار سعيد الذي انتخب في العام 2019، السلطات في البلاد منذ صيف 2021 وعمد إلى تغيير الدستور وحل البرلمان.
وتنظم جبهة الخلاص الوطني وقفة احتجاجية أسبوعيا وسط العاصمة تونس للتضامن مع المعتقلين السياسيين وتدعو لإطلاق سراحهم وضمان الحريات كمكسب أساسي لثورة 14 يناير.
ويسعى التونسيون إلى مواجهة المرسوم 54 كونه صمم وفق الخبراء لإسكات أي صوت معارض لسعيد مستقبلا ولا سيما أنه فضفاض وبنوده متعددة.
وينص المرسوم على "العقاب بالسجن لمدة خمسة أعوام" وبغرامة تصل إلى 50 ألف دينار "لكلّ من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني".
كما يعاقب كل من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر "أو إشاعة أخبار أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو بيانات تتضمّن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية".
وهناك عقوبات أشد قسوة إذا كان الشخص المستهدف موظفا حكوميا، وفق المرسوم المذكور.
وفي ظل هذا المشهد، فإن حراك الشباب من أجل منع تقييد مناخ الحرية الذي أوجدته تونس منذ 14 يناير 2011، عده رفيق عبد السلام وزير خارجية تونس سابقا، بمثابة ”جزء من الحراك العام الذي يشهده المجتمع التونسي في مواجهة الانقلاب".
وأضاف عبد السلام لـ “الاستقلال”: "ربما هذه المرة الأولى التي ينطلق فيها تحرك قطاعي شبابي، وهو ما يؤشر على أن الجميع بات ينفض يديه من قيس سعيد بعدما اكتشف نزوعاته الاستبدادية".
ولفت إلى أن "الشباب كان قوة رئيسة في الحملة الانتخابية لسعيد وفي إيصاله لقصر قرطاج، ثم اكتشف فيما بعد أنه وقع ضحية تضليل كبير من طرف رجل مخادع لم يحترم عهوده ونكث بوعوده، وكان من أولى خطواته إلغاء دستور الثورة الذي مكنه من المنافسة الانتخابية، وكسر السلم الديمقراطي الذي صعد عبره".
وألمح إلى أن "هذا التحرك الشبابي مهم وقابل للتوسع والتجذر إذا تجاوز الحاجز الأيديولوجي وفكرة الصراع مع (حركة) النهضة وتخلص من وهم ما يسمى بالبديل الثالث بين قيس سعيد والحزب (الإسلامي المذكور) لأنه لا يوجد سوى بديلين: وهو إما تكون مع الانقلاب أو مع الدكتاتورية".
ومضى يقول: "النظام لم يتوقف عن توسيع أذرعه الاستبدادية التي طالت السياسيين والمحامين والقضاة والصحفيين والمدونين وغيرهم، ولذلك فإن التجمعات والمسيرات الاحتجاجية لم تتوقف بدورها في مواجهة الانقلاب".
ونوه عبد السلام إلى أنه "كان لجبهة الخلاص الوطني دور متقدم في تأطير الجهود المقاومة للانقلاب وتحولها نحو الشارع منذ 25 يونيو (حزيران) 2021، واليوم بدأ الحراك الاحتجاجي يشمل قطاعات أوسع من المجتمع بما ينم عن رفض الشعب" لسياسات سعيد.
"لذلك أكثر ما يخيف سعيد اليوم هو الذهاب لانتخابات حرة ونزيهة خصوصا وأنه مثقل بفشل مركب على جميع الواجهات والأصعدة"، وفق تقديره.
وختم بالقول: "الشعب التونسي بصدد استعادة ثورته المغدورة ولن يستسلم لدكتاتورية سعيد وهو يربح بالنقاط مقابل تراجع المشروع الانقلابي وانحساره أكثر، وكما كان للتونسيين شرف إطلاق شرارة الربيع العربي سيكون لهم بحول الله شرف تجديدها مرة أخرى".
قطع الطريق
وراهنا يؤكد المراقبون أن مكسب الحريات بات مهددا في تونس، في ظل توظيف مراسيم رئاسية تسعى إلى تكميم الأفواه.
وضمن هذا الصدد، يؤكد الصحفي هيثم المكي أنه "جرى إصدار المرسوم 54 لتكميم الأصوات غير المرغوب فيها من جانب السلطة، وهو ما يفسر الملاحقات القضائية المتعدّدة التي رُفعت فقط ضد أشخاص انتقدوا السلطات".
ويُلاحق المكي بدوره بموجب هذا المرسوم لنشره تدوينة عن حالة بيت الموتى بمستشفى بمحافظة صفاقس (وسط)، إثر شكوى تقدّمت بها المؤسسة الصحية.
وعدّ في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية، في 3 مايو 2024 أن هذا التشريع "نجح في تخويف الدوائر الإعلامية والمساس بشكل كبير بحرية التعبير".
ومضى يقول: "لم نعد نجرؤ بعد الآن على انتقاد الرئيس ولو بشكل ساخر، بينما كنا في مرحلة معينة نمثل كل المسؤولين في الدولة على شكل دمى".
في المقابل، يطالب الشارع المناهض لسياسات سعيد عام 2024 بتحديد موعد الانتخابات الرئاسية القادمة.
إذ إنه من المرجح أن تشكل الانتخابات الرئاسية المرتقبة مسرحا لمعركة جديدة بين سعيد والمعارضة، حيث تصاعدت حدة الخطاب السياسي بينهما في الفترة الأخيرة، واتهم الرئيس بعض المرشحين بـ"الارتماء في أحضان الخارج".
بينما حذرت المعارضة من تنظيم انتخابات على المقاس وخالية من كل شروط المنافسة النزيهة.
وضمن هذا السياق، قال الباحث السياسي التونسي محمد اليوسفي، إن "وضع الحريات في أسوأ حال رغم محاولات أبواق النظام التونسي التسويق على أن ما يجرى هو تطبيق للقانون إذ إنه لا يمكن الحديث عن دولة قانون دون حريات دستورية".
وأضاف خلال تصريح تلفزيوني في 25 مايو 2024: "الرئيس هو المسؤول عن حماية الدستور، والشباب الغاضب نزل إلى الشارع للحفاظ على أهم مكسب في الثورة وهو حرية التعبير والتداول السلمي للسلطة".
ورأى اليوسفي، أن "الاحتجاجات الحالية تمثل ضمير الثورة وتريد التأكيد على أنه لا للدكتاتورية في تونس".
ومضى يقول: "يجب إسقاط المرسوم 54 الذي وضع في غرف مظلمة، لأن المعتقلين في السجون متهمون بتهم لا أنزل الله بها من سلطان بل لضرب العمل المدني".
وأوضح أنه "إن لم يسقط هذا المرسوم الكارثي والساقط أخلاقيا ودستوريا، فإنه سيزج بآلاف التونسيين والتونسيات في السجون لمجرد التعبير عن الرأي أو إبداء وجهة نظر أو نشر تدوينة منتقدة للسلطة".
وختم بالقول: "يجب إقرار قانون جديد ينظم حرية التعبير في تونس، لأن أبواق وأنصار منظومة الحكم الحالي لا يطبق عليهم المرسوم 54 ولهم حصانة بخلاف معارضي هذه المنظومة".