ترامب يلوح بضم كندا وغرينلاند.. ما موقف روسيا من السيناريوهات المثيرة؟
"قد يكون التوسع الأميركي المحتمل فرصة إستراتيجية لروسيا والصين لإعادة تشكيل النظام العالمي"
تلعب الجغرافيا السياسية دورا حاسما في تحديد إستراتيجيات الدول الكبرى، حيث يؤثر الموقع الجغرافي لكل دولة على سياساتها الخارجية وأهدافها الإستراتيجية.
وفي هذا السياق، تبرز فكرة توسع الولايات المتحدة من خلال ضم أراض مثل غرينلاند وكندا -كما لوح بذلك الرئيس الأميركي دونالد ترامب- كأحد السيناريوهات المثيرة للجدل، والتي قد يكون لها تداعيات كبرى على التوازن الجيوسياسي العالمي.
يطرح هذا مقال كتبه تيموفي بورداتشيف، مدير تحرير موقع "نادي فالداي" الروسي، مسلطا الضوء على تساؤلات حول ما إذا كان الاندماج الرسمي لهذه الأراضي مع الولايات المتحدة يمكن أن يؤدي إلى إنشاء “جزيرة أميركية كبرى”؟
وما قد يترتب على ذلك من تعزيز للنزعة الانعزالية الأميركية وزيادة تأثيرها الاقتصادي والسياسي.
كما يناقش مدى تأثير هذا السيناريو على روسيا وأوروبا، وكيف يمكن لدول مثل الصين وروسيا التكيف مع هذه المتغيرات الجيوسياسية؟
الجغرافيا السياسية
يستهل بورداتشيف مقاله بالتأكيد على أن "الموقع الجغرافي لأي دولة يحدد الأساس الذي تقوم عليه إستراتيجياتها".
حيث إنه “العامل الرئيس في تحديد الاستجابة الوطنية لسؤال: ما هو الشرط الأساسي للبقاء في عالم لم يصبح فيه التعاون فكرة عالمية بعد؟”
وأردف موضحا تأثير الموقع الجغرافي على إستراتيجيات كل من روسيا والولايات المتحدة: "بالنسبة لروسيا، التي تقع في قلب القارة الأوراسية الضخمة، فإن الجواب يكمن في قدراتها العسكرية، التي تضمن عدم تعرضها لهزيمة ساحقة في مواجهة أي خصم".
وتابع: "أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن موقعها كجزيرة جغرافية ضخمة، بعيدة عن مراكز القوى الأخرى، ويغطي تقريبا الشمال الأميركي بالكامل، يحدد طبيعة نظرتها للصراعات والأزمات. فعلى الرغم من مأساوية أي نزاع أو صراع في العالم، لا تؤثر تداعياته مباشرة على أمن جزيرتهم الخاصة".
وبحسب الكاتب، لا يمكن التنبؤ بما إذا كانت المناقشات حول اندماج غرينلاند أو كندا مع الولايات المتحدة ستؤدي إلى نتائج ملموسة.
لكنه يؤكد أنه "حال حدوث ذلك، فإنه سيعزز من الأساس الفكري (الجزيري) لخصومنا الأميركيين، وهو ما سيخلق ظروفا جديدة ستؤثر على الأمن والتنمية في روسيا".
وأضاف: "في الواقع، فكرة ضم غرينلاند أو كندا إلى الولايات المتحدة ليست غير منطقية أو سيئة من الناحية النظرية".
وأردف موضحا: "أحد الجوانب الرئيسة في الجغرافيا السياسية الحديثة هو أن الاعتراف الرسمي بالدولة لم يعد كافيا لضمان شرعيتها واستقرارها".
وأكمل: "فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين، نشأت دول جديدة كنتيجة لانهيار الإمبراطوريات الأوروبية وعمليات إزالة الاستعمار، ثم لاحقا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، حيث ظهرت دول لا تزال تواجه تحديات كبيرة تهدد سيادتها".
مشيرا إلى أن "هناك دولا تمتلك السيادة رسميا، لكنها عاجزة عن لعب دور فعال في الساحة العالمية، إما بسبب تأثير القوى الخارجية أو اعتمادها الاقتصادي على جيرانها الكبار".
وتابع: “على سبيل المثال، كندا تستفيد بشكل هائل من اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، مما يثير تساؤلات حول ما الفائدة التي يجنيها الأميركيون من سيادة كندا، إذا كانت تشكل لهم مخاطر أو تكاليف أكثر من الفوائد؟”
ولهذا السبب، يقول بورداتشيف إنه "إذا ما فرضت الولايات المتحدة سيطرتها المباشرة، فستتمكن من القضاء على أي مخاطر مرتبطة بتسلل خصوم واشنطن إلى كندا أو تأثيرهم على اقتصادها. ربما لن يعجب ذلك الصين، لكن الولايات المتحدة ليست ملزمة بمراعاة المصالح الصينية".
وفيما يتعلق بغرينلاند، يشير المحلل السياسي الروسي إلى أن "السيطرة الدنماركية الرسمية عليها قد تعد قديمة وغير ضرورية، خاصة أن الدنمارك عضو في الناتو وسياساتها العسكرية موجهة بالكامل من واشنطن عبر هذا التحالف".
وبناء على ما سبق، يزعم المقال أن "الدنمارك وكندا ليستا دولتين ذات سيادة حقيقية، حيث لا تمتلكان حرية تقرير ما يشكل تهديدا لأمنهما القومي، وبذلك فإن سيطرتهما على هذه الأراضي ما هي إلا إرث تقليدي من الماضي".
التكتلات الكبرى
ويشير الكاتب الروسي إلى أن "سعي الولايات المتحدة لفرض سيطرة أوثق على الأراضي المجاورة يتماشى مع التوجه العالمي نحو تشكيل تكتلات إقليمية كبرى لمواجهة التنافس الدولي بشكل أكثر استدامة".
وللمقارنة، يقول: "على عكس أوروبا، التي تحتاج إلى جهود لوجستية ضخمة للسيطرة عليها، فإن كندا وغرينلاند تقعان بالقرب من الولايات المتحدة ويمكن دمجهما بسهولة في المنظومة العسكرية والاقتصادية لجزيرة أميركا الجيوسياسية".
مؤكدا أن "هذا لن يغير من الإستراتيجية الجيوسياسية الأساسية للولايات المتحدة، بل سيجعل الجزيرة أكبر فقط، مع الاحتفاظ بجميع خصائصها في النظام الدولي. وبالتالي، لا يمكننا توقع أن يؤدي توسع الأراضي الأميركية إلى تغيير نظرة واشنطن إلى العالم".
واستدرك: "بل على العكس، فإن فكرة التوسع المثالية تستند إلى رغبة واشنطن في الحفاظ على تفرد موقعها الجغرافي".
هذا يعني أن روسيا والصين وباقي الدول الأوراسية بحاجة إلى التفكير بجدية في تأثير مثل هذا التوسع الأميركي على خططهم المستقبلية.
وقد يؤدي توحيد الغرب في دولة عملاقة إلى جعله أكثر مسؤولية تجاه الأمن العالمي، ولكن هذا السيناريو غير مرجح.
ويتابع الكاتب: وستبقى أوروبا مجرد تابع للقوة العسكرية والسياسية الأميركية، خاضعة بالكامل دون أن تحصل على أي امتيازات ملموسة.
انعكاسات متوقعة
بالنسبة لروسيا، وبصفتها القوة المركزية في أوراسيا، وكذلك بالنسبة لجيرانها وحلفائها، هناك عدة نتائج محتملة ذكرها كاتب المقال.
حيث يقول إن "الولايات المتحدة -إذا ما ضمت كندا وغرينلاد- لن تتحمل مسؤولية أكبر عن الاستقرار العالمي، بل على العكس، سيؤدي ازدياد قوتها الداخلية إلى زيادة انعزالها عن مشاكل العالم، وهو ما قد يؤدي إلى انخفاض الدور الأميركي في استقرار المناطق الإقليمية".
وأشار المقال إلى أن "أقرب جيران الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية يعانون بالفعل من أزمات حوكمة شديدة، بسبب تدخل واشنطن".
مضيفا أن الولايات المتحدة "قد تتحول إلى قوة أكثر أنانية، مما يقلل من جاذبية التحالفات الأميركية في نظر بقية العالم".
لافتا إلى أن "الدول لا تتحالف مع قوى كبرى فقط بسبب التهديدات العسكرية، بل أيضا بناء على المصالح الاقتصادية والسياسية".
"وبالتالي، إذا أصبحت الولايات المتحدة أكثر انغلاقا وأقل سخاء في تقديم الدعم، فسيكون من الأسهل على روسيا والصين كسب المزيد من الحلفاء"، وفق الكاتب الروسي.
كذلك يرى أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى تغييرات في هيكلة النظام العالمي، حيث إن "العديد من الدول الأوراسية لا تزال تربط مستقبلها بالنظام الذي تفرضه أميركا، ليس فقط بسبب الخوف أو الفساد السياسي، ولكن لأن التعاون مع واشنطن كان مصدرا للتمويل والاستقرار".
وعليه، إذا تحولت الولايات المتحدة إلى "جزيرة أميركية عملاقة" وأصبحت أكثر تطلبا وأقل دعما لحلفائها، فقد يبدأ النظام العالمي في التغير تدريجيا لصالح مراكز قوة جديدة مثل روسيا والصين.
واختتم الكاتب مقاله قائلا: "في نهاية المطاف، قد يكون التوسع الأميركي المحتمل في أميركا الشمالية بمثابة فرصة إستراتيجية لروسيا والصين لإعادة تشكيل النظام العالمي لمصلحتهما".