لوضع حد لأزمته المتفاقمة.. لماذا لا ينفذ لبنان "إصلاحات" صندوق النقد الدولي؟
ما تزال القوى السياسية الحاكمة في لبنان تماطل في الإصلاحات التي طالب بها صندوق النقد الدولي من بيروت لإقراضها قرضا ماليا بقيمة 3 مليارات دولار، علها تمنع من انهيار هذا البلد.
لكن يبدو لبنان الذي يعاني من أزمة اقتصادية حادة عمقها الواقع السياسي المتأزم في ظل حالة الشغور الرئاسي، غير جاد في تطبيق الخطة التي توصل إليها مع الصندوق في أبريل/نيسان 2022.
"شريان حياة"
وتقضي الخطة المبرمة بين لبنان وصندوق النقد الدولي قبل عام بإبرام اتفاق مبدئي بينهما لمنح بيروت مساعدة بقيمة ثلاثة مليارات دولار على أربع سنوات.
لكن العقبة الكبرى هي أن تطبيق تلك الخطة لإعادة إحياء اقتصاد البلاد المنهار منذ عام 2019، مرتبط بالتزام الحكومة بتنفيذ إصلاحات مسبقة وهنا "مربط الفرس" في هذه المعادلة المركبة.
ولا سيما أن ذلك يتطلب إقرار البرلمان لمشاريع قوانين ملحة، أبرزها موازنة 2022 وقانون "كابيتال كونترول" (ضبط رأس المال) الذي يقيد عمليات السحب وتحويل العملات الأجنبية من المصارف.
إضافة إلى حاجة الحكومة اللبنانية إلى إقرار تشريعات تتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعديل قانون السرية المصرفية وتوحيد سعر صرف الليرة أمام الدولار التي هبطت قيمتها نحو قاع تاريخي فاق الـ140 ألف ليرة للدولار الواحد.
ومن هنا أكدت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، في زيارة إلى بيروت، أنه لا بديل أمام تعافي لبنان الاقتصادي، سوى إحراز تقدم صوب إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وقالت ليف، في إفادة إعلامية بتاريخ 31 مارس/آذار 2023، إنها حثت مسؤولي لبنان على إحراز تقدم في الاتفاق بأكمله وإنهاء فراغ منصب رئيس لبنان منذ أن غادر قصر بعبدا رئيس الجمهورية ميشال عون في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
وحثت المسؤولة الأميركية الزعماء اللبنانيين على تفهم الطبيعة الملحة العاجلة للأمر، مؤكدة أن حزمة إنقاذ صندوق النقد الدولي هي بمثابة "شريان حياة، وليس هناك مخرج آخر غيرها فحسب"، وفق قولها.
لكن حديث واشنطن عن المخرج الوحيد لأزمة لبنان الاقتصادية الخانقة التي تسببت في إلقاء نحو 80 بالمئة من المواطنين في براثن الفقر من مجموع السكان البالغ عددهم ستة ملايين، وانخفاض قيمة الليرة لـ 90 بالمئة، جاء متسقا مع تحذير صندوق النقد الدولي من أن هذا البلد يمر بـ"لحظة خطيرة للغاية".
إذ قال رئيس بعثة الصندوق أرنستو راميريز ريغو، في ختام زيارة لبيروت بتاريخ 23 مارس 2023، أن التقاعس عن تطبيق الإصلاحات من شأنه أن يدخل البلاد في "أزمة لا نهاية لها".
تحذيرات متتالية
الحديث الدولي عن أن لبنان بات عند "مفترق طرق" حول وضعه الاقتصادي، يقابله تقدم بطيء من قبل ساسة بيروت حول إنجاز وتطبيق وإقرار التشريعات المرتبطة بالإصلاحات المطلوبة لإيداع أموال الصندوق التي من شأنها تحريك عجلة الاقتصاد من جديد.
واللافت كذلك أن لبنان تحاصره أزمات مركبة سواء أكانت تلك الداخلية المرتبطة باختلاف القوى السياسية حول الإصلاحات من ناحية أحقية شروطها من عدمه، أم من ناحية حتى مد يد العون العربية في ملف الطاقة لانتشال هذا البلد من عتمته ونقصف الكهرباء الذي يعاني منه بسبب نقص الفيول المخصص لتشغيل المحطات.
ولهذا أكد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره اللبناني عبدالله بوحبيب، في العاصمة عمان بتاريخ 28 مارس 2023، أن تزويد لبنان بـ100 ميغاواط كهرباء من الأردن سيبدأ فور توصل لبنان لاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
في إشارة للمشروع "المعطل" لاستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن عبر سوريا المجاورة.
ومع ذلك تشكل الانقسامات السياسية التي تمنع انتخاب رئيس للجمهورية العقبة الكبرى أمام تحقيق تقدم واقعي من أجل وقف هذا النزف.
علما أن حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات بقياة نجيب ميقاتي تقود لبنان حاليا، ما يعطل اتخاذ القرار على المستويات كافة.
ويتزامن الانهيار الاقتصادي المتسارع منذ ثلاثة أعوام مع أزمة سيولة حادة وقيود مصرفية مشددة، لم يعد بإمكان المودعين اللبنانيين معها الوصول إلى مدخراتهم العالقة.
ويتفق كثير من المراقبين، على أن خروج لبنان الذي يحتل المرتبة 150 بين 180 بلدا في الترتيب الأخير لمؤشّر الفساد لدى منظمة الشفافية الدولية، من أزمته الاقتصادية مرهون بمدى الضغط الدولي على قادته لإنجاز الإصلاحات في هذه المرحلة الحساسة.
لا سيما أن تداعيات الانهيار لم تثتسن أي فئة اجتماعية أو قطاع في لبنان، حيث باتت السلطات عاجزة عن توفير الخدمات الأساسية وتوقفت إلى حد كبير عن دعم سلع رئيسة بينها الوقود والأدوية.
سلاح الشارع
ولهذا كان الشارع هو الساحة الأبرز لتعبير اللبنانيين عن سخطهم من تردي الأوضاع المعيشية عبر خروج مظاهرات بالعاصمة بيروت، وسط شلل حكومي وبرلماني وقضائي على نطاق واسع.
لدرجة أن اللبنانيين باتوا عاجزين منذ أشهر عن القيام بأبسط المعاملات مثل تسجيل عقارات أو سيارات اشتروها أو إنجاز أوراق رسمية.
وسبق أن حضت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا، في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2022، السياسيين اللبنانيين على "العمل لإرساء الاستقرار في البلاد" و"وضع بلادهم وشعبهم في المقام الأول" بغية الخروج من الأزمة الاقتصادية، لكون هذا "التأخير قد يكون مكلفا للبلاد".
وأمام ذلك، هناك من يرى أن صندوق النقد الدولي يريد تفكيك الطبقة الفاسدة في لبنان وحتى شطبها بعدما وصلت هذه الطبقة لطريق مسدود، وسلمت رقبتها إلى الصندوق حينما لم يعد بإمكان الدولة الاستدانة من الاسواق المالية لتغطية العجز المالي الحاصل.
إذ يدرك صندوق النقد الدولي أن الأموال التي ستضخ في لبنان في حال تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، ستذهب في القنوات التي يفترض أنها لن تتعرض للهدر والفساد والتبديد من جديد.
كما أن الاتفاق مع الصندوق يشجع عددا من الدول والجهات المانحة والمقرضة على مساعدة لبنان بخطوط إئتمان ميسرة وطويلة الأمد وبمساعدات تسعف لبنان للخروج من أزمته باتجاه إعادة النمو إلى الاقتصاد وخلق فرص عمل جديدة.
لكن بات من الواضح أن هناك من يشد الاتفاق مع صندوق النقد من الوراء، خشية من كشف "الجرائم المالية" التي ارتكبها بعض السياسيين في لبنان على مدى عقود وأصبحت جيوبهم "كالقطط السمينة".
ولهذا إلى الآن فقد أحرز المسؤولون اللبنانيون تقدما محدودا في الإصلاحات المطلوبة لإبرام الصفقة التي تشمل إعادة هيكلة ديون البلاد ونظامها المصرفي المتعثر، وإصلاح نظام الكهرباء العام الذي يعمل بالكاد وإجراء إصلاحات في الحوكمة.
عقبة القوى
وفي هذا الإطار، رأى الكاتب والمحلل السياسي وائل نجم، أن قوى سياسية في لبنان تتحجج بأن "هذه الإصلاحات عبارة عن شروط لمصادرة القرار اللبناني بحيث إن بعض الإصلاحات في الجوانب القانونية والاقتصادية والسياسية تجعل قرار لبنان بيد صندوق النقد الدولي".
وأضاف لـ"الاستقلال": "لذلك تضغط القوى هذه والتي تملك كتلا نيابية وازنة في البرلمان على حكومة تصريف الأعمال كي لا يتم التوقيع على كل الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد لقاء منح لبنان القرض المالي".
وأشار نجم إلى أن "الفساد المستشري في البلد منذ عقود تستفيد منه قوى سياسية متحكمة في القرار اللبناني وهي لا تريد أن يكون هناك أي نوع من الإصلاحات الحقيقية التي تحد من مسألة الفساد وهذا أحد أبرز أسباب عرقلة تطبيق شروط صندوق النقد".
وذهب نجم للقول: "وأمام هذه الحالة فإن الشعب اللبناني يقع تحت هذه الضائقة الاقتصادية، خاصة أن الشعب لا يحرك ساكنا أمام عجلة الأزمة الاقتصادية التي تسير بسرعة نحو الهاوية في لبنان".
بينما يؤكد مراقبون أن الظروف الجديدة التي يشهدها الإقليم، لا سيما التطبيع بين إيران والسعودية قد تؤثر على المشهد اللبناني الذي يمسك بحباله عددا من الأحزاب المحسوبة على دول إقليمية وغربية، لكنها ستأخذ بعض الوقت حتى إتمام صفقة مرضية لجميع الأطراف.
وفي عام 2020، خاضت الحكومة اللبنانية السابقة مفاوضات مع الصندوق توقفت بعدما اختلف المفاوضون اللبنانيون أنفسهم على تقدير حجم الخسائر.
وبحسب تقديرات البنك الدولي، انخفضت قيمة إجمالي الناتج المحلي من حوالى 55 مليار دولار عام 2018 إلى نحو 20,5 مليار دولار العام 2021.
لكن المفاوضين اللبنانيين اتفقوا لاحقا على تقدير حجم الخسائر بـ69 مليار دولار، وفق ما قال نائب رئيس الحكومة ورئيس فريق التفاوض اللبناني سعادة الشامي لوكالة فرانس برس بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2021.
ويخشى اللبنانيون من حدوث شطب للودائع في البنوك والمصارف اللبنانية، حيث رأى رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية والخبير السابق لدى صندوق النقد الدولي منير راشد، في تصريحات صحفية بتاريخ 28 مارس 2023، أن اتفاق لبنان مع صندوق النقد الدولي صعب جدا إلا إذا تخلى الأخير عن فكرة شطب الودائع، لأنه إجراء غير دستوري ومخالف لقانون النقد والتسليف لمصرف لبنان.
وأمام تعثر لبنان على التوقيع على اتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي سيفتح دعما ماليا كبيرا لهذا البلد كما وعد الاتحاد الأوروبي يبقى الاستعصاء السياسي هو سيد الموقف.
ولذلك رأى رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، أن الأوضاع "تقتضي عملية طوارئ سريعة لإنقاذ البلد"، وذلك خلال لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة بتاريخ 23 مارس 2023.
ورأى ميقاتي أن لبنان اليوم أمام ثلاثة خيارات، إما الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، أو نتفق مع بعضنا البعض (يقصد القوى السياسية) أو لا نتفق بتاتا، ومضى يقول: "نحن اخترنا الخيار الأسوأ وهو أن لا نتفق بتاتا".