تسعير السلع والخدمات بالدولار في لبنان.. كيف يؤثر على الاقتصاد المأزوم؟

طارق الشال | 2 years ago

12

طباعة

مشاركة

فرض التدهور المستمر لليرة اللبنانية منذ عام 2019 واقعا جديدا داخل السوق المحلية التي ذهبت لتسعير منتجاتها بالدولار بقرار رسمي، خاصة مع تراجع ثقة المتعاملين في العملة المحلية وعدم وجود إرادة حقيقية للعمل على الإصلاحات اللازمة لإنقاذها.

وفي 28 فبراير/شباط 2023، أعلن وزير الاقتصاد اللبناني في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، بدء اعتماد التسعير في السوبر ماركت بالدولار، بذريعة حماية المستهلك من جشع تجار الأزمات وهوامش الربح التي كانت تتخطّى 30 و40 بالمئة.

يأتي هذا الإجراء الجديد ليزيد من رقعة الدولرة (التخلي عن الليرة مقابل الدولار) التي باتت تشمل أكثرية القطاعات والخدمات في لبنان، علما أن العدد الأكبر من اللبنانيين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية، ما من شأنه أن يزيد من تراجع قدرتهم الشرائية.

وشهدت الليرة مزيدا من الانهيار خلال الآونة الأخير لتسجل في 14 مارس/آذار 2023 نحو 100 ألف ليرة أمام الدولار الواحد، وهو ما يعد أدنى مستوى تاريخي تسجله الليرة اللبنانية مقابل الدولار.

وفي أول مارس 2023، عندما وصل سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى 90 ألف ليرة لبنانية، تدخل البنك المركزي.

وأعلن وقتها أنه سيبدأ بيع الدولار نقدا بسعر 70 ألف ليرة على منصته صيرفة ابتداء من الثاني من نفس الشهر.

وهذا التدخل أدى إلى تراجع الدولار وقتها إلى ما دون 80 ألفا في السوق الموازية، ليعود بعد ذلك الدولار بالارتفاع مجددا مقابل العملة المحلية اللبنانية.

أزمة التسعير

خلقت تلك الاضطرابات التي تشهدها الليرة اللبنانية أزمة لدى المستهلكين فأصبح المواطن غير قادر على تحديد القيمة الفعلية للمنتج المسعر بالليرة, 

وأصبحت يافطات الأسعار في المتاجر في ازدياد مستمر، وأشبه بمؤشرات البورصة التي لا تستقر، ما دفع البعض لاعتبار آلية التسعير بالدولار أمرا إيجابيا.

وبحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، باتريك مارديني، فإن تسعير السلع في المتاجر بالدولار أمر إيجابي، مشيرا إلى أن المواطن كان في السابق عند ذهابه لشراء سلعة من متجر ما يجد أنها زادت بمجرد خروجه لمعرفة قيمة نفس السلعة في متجر آخر.    

وأضاف مارديني، لـ"الاستقلال"، أن التغيرات السريعة في أسعار المنتجات بالليرة اللبنانية بسبب تقلبات سعر الصرف كانت تمنع المقارنة الجدية بين أسعار مختلف المتاجر ما كان يسمح للمتاجر بتحقيق هوامش أرباح كبيرة.

 وبالتالي تسعير السلع بالدولار مكن المواطن من معرفة القيمة الحقيقية للمنتج وأضفى حالة من الشفافية.

ومع تسعير المنتجات في المتاجر بالدولار بدأ المستهلك يجد أسفل كل منتج سعره ما يمكنه من تقدير قيمة مشترياته الإجمالية بشكل دقيق.

وهو عكس ما كان معمولا به سلفا، عندما كان المواطن يتبضع دون وجود أسعار للمنتجات الموضوعة على الأرفف نتيجة التقلبات السريعة لسعر صرف الليرة.

وبالتالي كان المواطن يعمل على تعبئة أغراضه من المتجر ومن ثم يفاجئ بفاتورة مشترياته عند الكاشير. 

وانضمت قطاعات عديدة للتسعير العلني بالدولار بجانب المتاجر مثل وسائل النقل والحلاقين والمصابغ ومياه الشرب ومحلات الخضار والفاكهة. 

إلا أن آلية تسعير المنتجات بالدولار يحوم حولها الكثير من المخاوف لدى المواطنين خوفا من استمرار التسعير العشوائي حتى بالعملة الأميركية، خاصة في ظل غياب الرقابة وانعدام المحاسبة، فضلا عن حديث بعض الخبراء عن أن تلك الخطوة تسهم في عدم استقلالية العملة الوطنية وسيادتها.

بدوره، يرى نسيب غبريل كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك "بيبلوس" في لبنان، أن قرار الحكومة لمحاولة السيطرة على تلك المشكلة جاء وسط اضطرابات سعر صرف الليرة على المدى الطويل التي أربكت الأسواق المحلية.

وأيضا مع وجود اتهامات من قبل المستهلكين للتجار بالتلاعب بأسعار المنتجات وتسعيرها بأكثر من قيمتها بهدف التربح. 

وأشار غبريل، في حديث لـ"الاستقلال"، أن تسعير المنتج بالدولار لا يعني أن على المواطن دفع تكلفة المنتج بالعملة الأميركية، بل يستطيع المستهلك الدفع بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف الدولار بالسوق الموازي. وبين أن قرار دولرة التسعير ليس حلا ولكنه محاولة لإضفاء الشفافية على الأسعار.

تداعيات "الدولرة"

ويرى بعض الاقتصاديين أن تلك القرارات لا تعد حلولا جذرية وإنما هي مسكنات اقتصادية، خاصة أن السيطرة على التضخم يتطلب اقتصادا حقيقيا قائما على الإنتاج لتوفير الاحتياجات اللازمة محليا وتقليص الحاجة إلى الخارج وتوفير مدخول دولاري وإعادة الاستقرار لليرة وضبط الميزان التجاري.

وقال مارديني، إن قرار تسعير السلع والخدمات بالدولار محليا قد يمهد لدولرة الرواتب من خلال منح الموظفين رواتبهم بالدولار من قبل الشركات اللبنانية.

وهو ما يعني الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن بطريقة ما، خاصة أنهم يعانون في الوقت الحالي من تدهور قدرتهم الشرائية نظرا لكونهم يتقاضون أجورهم بالعملة المحلية المتدهورة بشكل يومي.

وأشار إلى أنه من الممكن في مرحلة لاحقة أن يجري دولرة القروض، "فاليوم المصارف لا تقرض عملاءها بالليرة كونها تخسر قيمتها أولا بأول".

 وبالتالي في حال دولرة القروض فإن هذا يعني عودة النشاط المصرفي في البلاد من خلال تمويل مشروعات وغيرها، فضلا عن كونها قد تفتح المجال لتطورات إيجابية أخرى، وفق تقديره.

ومع بداية العام 2023، جرى اعتماد مبلغ 4 مليون و500 ألف ليرة لبنانية كحد أدنى للأجور في البلاد، حينما كان سعر الليرة اللبنانية أمام الدولار عند 60 ألف ليرة.

 أي أن الحد الأدنى كان يساوي 75 دولارا، ليتراجع خلال أقل من ثلاثة أشهر إلى 45 دولارا مع تقهقر الليرة مقابل الدولار عند 100 ألف ليرة.

من جهته، أوضح غبريل، أن الأزمة المالية والاقتصادية التي يعيشها لبنان جعلته ينتقل إلى اقتصاد نقدي بعيد عن المصارف بالإضافة إلى كونه أصبح مدولرا. 

 وهو ما يسمح بزيادة فرص التهرب الضريبي واستخدام أقل للمصارف التجارية والاعتماد على عملة لا يمكن طباعتها محليا، "وبالتالي مع زيادة الاعتماد على الدولار لا بد أن يكون هناك مصادر لهذا النقد الأجنبي".

ورغم تسعير المنتجات بالدولار لتثبيت أسعار السلع فإن أغلب اللبنانيين العاملين في البلاد يتقاضون رواتبهم بالليرة ما يعني أنه عند ارتفاع سعر صرف العملة الأميركية مقابل المحلية فستزيد فاتورة المواطن وبالتالي المشكلة الحقيقية تتمثل بضرورة ضبط التضخم، وفق غبريل.

وارتفع مؤشر تضخّم الأسعار بنسبة 1500 بالمئة منذ ديسمبر/كانون الأول 2019 وحتى نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، وفق تصريحات مدير عام إدارة الإحصاء المركزي بالتكليف مرلين باخوس لموقع "سكاي نيوز" في 16 يناير/ كانون الثاني 2023.

وطالب غبريل، بضرورة عودة تفعيل دور القطاع المصرفي وإعادة الثقة به وبالعملة اللبنانية حتى يتمكن من استخدام أداة الفائدة للسيطرة على التضخم فضلا عن عودة الكتلة النقدية إلى البنوك وتقليص المعاملات بالكاش ووقف طباعة النقود.

وأشار إلى أن هناك حاجة أيضا للسيطرة على التضخم من خلال السياسة المالية عبر تخفيض الإنفاق والحاجة إلى الاستدانة من قبل الدولة في الموازنة العامة للبلاد.  

استمرار الانهيار

وسط تلك المعطيات الاقتصادية القاتمة وفي ظل الابتعاد عن الإصلاحات الهيكلية اللازمة وعدم الاستقرار السياسي وغياب الإرادة الحقيقية لدى متخذي القرار، يبقى اقتصاد لبنان يسير من قاع إلى آخر ليبقى المواطن أسير الفقر والبطالة والتضخم.

وتضاعف معدل الفقر في لبنان من 42 بالمئة في عام 2019 إلى 82 بالمئة من إجمالي السكان في عام 2021، مع وجود ما يقرب من 4 ملايين شخص يعيشون في فقر متعدد الأبعاد.

وهؤلاء يمثلون نحو مليون أسرة، بينها 77 بالمئة، أو ما يقرب من 745 ألف أسرة لبنانية، بحسب تقييم أجرته إسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا).

ويرى مارديني، أن الاقتصاد اللبناني سيستمر بالانهيار خاصة مع استمرار البنك المركزي في طباعة الليرة لتمويل النفقات العامة وسحوبات اللبنانيين من المصارف.

وهو ما يعني تفاقم انهيار الليرة وبالتالي مزيد من تخلي اللبنانيين عن التعامل بالعملة المحلية في تعاملاتهم اليومية.

وتابع: "هذا الأمر قد يدفع الموظفين لرفض تقاضي رواتبهم بالليرة، ما يعني أن الليرة أصبحت غير صالحة كوحدة للقياس أو الادخار أو للتبادل التجاري واستبدالها بعملة أفضل وهي الدولار".

وفقدت العملة المحلية اللبنانية أكثر من 98 بالمئة من قيمتها منذ أن بدأ الاقتصاد في الانهيار عام 2019، واستنزفت خزائن الدولة وعانت الخدمات العامة نتيجة لذلك.

من جانبه، قال غبريل، إنه لا توجد رؤية واضحة للاقتصاد والقطاع الخاص بلبنان نتيجة شلل المؤسسات والشغور الرئاسي ووجود حكومة تصريف أعمال لا تستطيع الاجتماع بشكل دوري لأخذ قرارات حاسمة منذ مايو/أيار 2022.

واستدرك: "بالإضافة للإضرابات المتعددة سواء للقطاع العام أو القضاء فاليوم الاقتصاد في حالة انتظار ما يراكم الفرص الضائعة عليه".

وبين أن "الاقتصاد المحلي يحتاج إلى إعادة الثقة به لعودة تدفق رؤوس الأموال إلى لبنان والخروج من الأزمة تدريجيا، فكلما تأجلت الإصلاحات زادت أعباء الاقتصاد اللبناني والقطاع الخاص تحديدا".

ويسعى لبنان لإبرام حزمة إنقاذ مع صندوق النقد الدولي حجمها ثلاثة مليارات دولار وفق اتفاق مبدئي مشروط في أبريل/ نيسان 2022 من شأنه أن يساعده على الخروج من الانهيار المالي الذي يعاني منه.

 إلا أنه ورغم مرور نحو عام على الاتفاق فإن الإصلاحات المشروطة للحصول على القرض لم يجر إنجاز سوى اليسير منها ما عطل تلك الحزمة حتى الآن.