سوق للهجرة.. كيف تحول لبنان إلى نقطة انطلاق للسوريين نحو أوروبا؟

رغم فصل الشتاء تتواصل عمليات الهجرة غير النظامية من سواحل لبنان نحو أوروبا، حيث يشكل السوريون السواد الأعظم بين هؤلاء المهاجرين.
وفي أحدث عملية انطلاق جماعية، تمكنت القوات البحرية التابعة للجيش اللبناني نهاية عام 2022، من إنقاذ أكثر من 200 شخص وانتشال جثتي شخصين، كانوا يسعون للهجرة إلى أوروبا، معظمهم من السوريين، بعد غرق مركبهم قبالة الساحل اللبناني الشمالي.
حياة بديلة
وقال الجيش اللبناني إن "القوات البحرية انتهت بالتعاون مع اليونيفيل (قوة الأمم المتحدة المؤقتة في جنوب لبنان) من إنقاذ الأشخاص الذين كانوا على متن المركب قبالة شاطئ سلعاتا وعددهم 232".
أنهت القوات البحرية بالتعاون مع اليونيفيل إنقاذ الأشخاص الذين كانوا على متن المركب قبالة شاطئ سلعاتا وعددهم ٢٣٢، ويجري حالياً نقلهم إلى مرفأ طرابلس. كما تم انتشال جثتَي شخصين غرِقا أثناء عملية الإنقاذ.#الجيش_اللبناني #LebaneseArmy pic.twitter.com/7uVuFs5p9w
— الجيش اللبناني (@LebarmyOfficial) December 31, 2022
وأوضح الجيش اللبناني، عبر تغريدة على تويتر في 31 ديسمبر/كانون الثاني 2022، أن هؤلاء الأشخاص "كانوا يحاولون مغادرة المياه الإقليمية اللبنانية بطريقة غير شرعية".
وبحسب وكالة "فرانس برس"، فإن الركاب كانوا من الرجال والنساء والأطفال غالبيتهم من الجنسية السورية ونحو 50 لبنانيا.
وقال اللاجئ السوري جمعة للوكالة: "كنت أنوي الذهاب مع أخي، لكنني لم أتمكن من جمع المبلغ المطلوب"، مشيرا إلى أن شقيقه "استدان ليرحل".
وتابع: "لم نعد نستطيع أن نعيش في هذا البلد ولا في سوريا".
من جهته، قال الشاب السوري أحمد ياسين الذي كانت شقيقته وزوجها من بين المهاجرين الذين جرى إنقاذهم من المركب الغارق ذاته: "نحن أشبه بأموات في هذا البلد، سنحاول يوميا الذهاب في البحر، لو كان لدي المال بنفسي، لذهبت معهم".
وفي 22 سبتمبر/أيلول 2022، غرق قارب أبحر من لبنان قبالة سواحل سوريا، ما أسفر عن مقتل نحو مئة شخص كانوا على متنه في أحد أكثر حوادث الغرق دموية شرق البحر المتوسط.
غرق مركب يقل مهاجرين غير شرعيين انطلق من لبنان وغرق قبالة سواحل #طرطوس و #جزيرة_أرواد
— صوت العاصمة (@damascusv011) September 22, 2022
مصادر رسمية أكدت 24 وفاة ونجاة 8 أشخاص حتى الان
تستمر فرق الإنقاذ بالبحث عن عشرات المفقودين
المركب كان يحمل قرابة 100راكب من #سوريا و #لبنان و #فلسطين بحسب المتداول
الرحمة للضحايا والعزاء لذويهم pic.twitter.com/k8STkwiZcN
ورغم أن ظاهرة الهجرة غير القانونية من السواحل لم تتوقف خلال السنوات الأخيرة، إلا أن السوريين باتوا يشكلون النسبة الأكبر من الراغبين للانطلاق نحو أوروبا من سواحل لبنان البلد المجاور.
وكانت سواحل تركيا الوجهة المعهودة للسوريين بقصد الوصول إلى أوروبا بحرا، إلا أن اختيار بعض هؤلاء لبنان كمنصة بديلة للهجرة سرا، يعد أقل تكلفة ماديا وأسهل من ناحية العبور برا خاصة عام 2022.
وأمام المراقبة الشديدة، باتت في الوقت الراهن وجهات الزوارق التي تقل مهاجرين حالمين بالوصول إلى أوروبا المنطلقة من سواحل لبنان متعددة.
نقاط الانطلاق
سابقا كانت قبرص الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي الواقعة قبالة السواحل اللبنانية، هي الوجهة الأبرز والواقعة على بعد 160 كيلومترا من لبنان، ولا تستغرق سوى بضع ساعات للوصول إليها.
لكن بعد الاتفاق بين سلطات الجزيرة وبيروت على إعادة المهاجرين الواصلين إلى سواحلها في سبتمبر/أيلول 2020، تقلصت الوجهة نحوها واستدارت نحو اليونان وإيطاليا.
تعد اليونان، الوجهة الثانية للمهاجرين من سواحل لبنان، إذ تحتاج "رحلة الموت" نحو يومين للوصول لها، من لحظة مغادرة القارب المياه الإقليمية والدخول للمياه الدولية التي تعد هي الجزء الأصعب، والتي قد تظهر فيها الأمواج القوية أو الصخور التي تهدد مسير الرحلة التي غالبا ما يتوفر فيها هاتف اتصال "ثريا" و"جي بي أس".
أما "الهجرة الكبرى" فهي التي تنطلق من لبنان إلى سواحل إيطاليا، والتي تستغرق من أسبوع إلى عشرة أيام، حيث يؤكد من خاضوا هذه التجربة ووصول هذا البلد الأوروبي، أنها "أيام من الجحيم".
وللتنويه، فإن قبرص واليونان وحتى إيطاليا هي المحطة الثانية للمهاجرين السوريين، كون نسبة 95 بالمئة من هؤلاء يقصدون بالدرجة الأولى طلب اللجوء في الدول الثلاث (ألمانيا وهولندا والسويد) ومن ثم تأتي بقية دول أوروبا بنسب ضئيلة جدا.
ويعد ساحل لبنان الشمالي، وتحديدا من مدينة طرابلس، والتي أيضا وفق تصنيف البنك الدولي، تعد أفقر مدينة مطلة على البحر المتوسط، نقطة انطلاق سرية وبعيدة عن أعين الجيش، إلى جانب شاطئي الميناء والقلمون كنقطتي عبور رئيسيتين أيضا.
ولا توجد إحصائية دقيقة لأعداد القوارب التي تنجح في الوصول إلى اليونان وحتى إيطاليا.
وفي نهاية أبريل/نيسان 2022 انتشرت صور ومقاطع فيديو لفرح مهاجرين غير نظاميين بالوصول إلى إيطاليا بعد ثمانية أيام من إبحار قاربهم الذي يقل 35 عائلة من قبالة شاطئ طرابلس.
وتستضيف لبنان بشكل رسمي، مليونا ونصف مليون لاجئ سوري في بلد يعيش فيه أربعة ملايين لبناني، ضمن ألف بلدة وفي خيم ومخيمات وفق ظروف غير إنسانية.
وعبر هؤلاء الحدود إلى لبنان المجاور هربا من بطش أجهزة نظام بشار الأسد منذ عام 2011، لكنهم باتوا يواجهون تضييقا أكبر على وجودهم، فضلا عن حملات عنصرية يطلقها بعض ساسة لبنان ضدهم.
وحذر بيان مشترك أصدرته منظمات أممية في 16 ديسمبر/كانون الأول 2022، من أن 90 بالمئة من اللاجئين السوريين في لبنان يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية "للتمكن من البقاء على قيد الحياة".
لكن عمليات الهجرة غير النظامية للسوريين، لا تشمل فقط اللاجئين في لبنان الذي يشهد انهيارا اقتصاديا منذ عام 2019، بل تزايد من أولئك القادمين من "جحيم" الوضع المعيشي في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد.
كما يشاطر اللبنانيون أشقاءهم السوريين حلم الهجرة، ولا تكاد رحلة جماعية تخلو من مواطنين لبنانيين ضاقوا ذرعا من وضعهم المعيشي أيضا بعدما بات 80 بالمئة منهم وفق الأمم المتحدة "تحت خطر الفقر".
إلا أن حلم الوصول إلى أوروبا رغم "المهالك"، بدأ يتزايد دون الاكتراث لاحتمالية حوادث الغرق المتكررة في المتوسط.
خيار وحيد
وفي هذا الإطار، أكد الصحفي السوري محمد أبو الحسن، أن "الحال في لبنان وسوريا يكاد يكون متشابها من قلة العمل وغلاء المعيشة بنسبة 300 بالمئة وهبوط الليرتين السورية واللبنانية، لذلك يرى هؤلاء أن المستقبل هو بالوصول لأوروبا".
وأوضح أبو الحسن المقيم في لبنان، لـ"الاستقلال"، أن "هناك فئة من السوريين سواء بمناطق النظام أم لبنان، اختاروا ركوب البحر كخيار وحيد للنجاة من الوضع الاقتصادي والأمني السياسي".
ولفت أبو الحسن إلى "تزايد انطلاق السوريين بشكل غير مسبوق من لبنان نحو اليونان ومنها إلى دول أوروبية محددة، حيث تبلغ التكلفة على الشخص الواحد بحدود 8 آلاف دولار".
وبين الصحفي، أن "هناك من يدخل من سوريا تهريبا من مناطق النظام من الحدود اللبنانية عبر معابر غير شرعية تديرها شبكات تهريب متخصص بذلك مقابل مبالغ زهيدة تصل إلى 300 دولار للشخص الواحد".
واستدرك قائلا: "إن خيار لبنان للهجرة من سواحلها للسوريين، يأتي من كون التكلفة تكاد تكون الضعف في حال قرر الشخص التوجه إلى تركيا والتي باتت عملية التهريب إليها خلال عام 2022 شاقة وطويلة، وقد يضطر الشخص للانتظار أسبوعين للوصول، إضافة إلى المخاطر الأمنية وهو عامل جديد خلال رحلة الوصول للحدود التركية".
وألمح أبو الحسن إلى أن "عامل السرية بات أهم شرط لموافقة المهربين على ضم الشخص للرحلة من لبنان، لدرجة أن البعض لا يجرؤ على إخبار أقربائه أو أصدقائه على ترتيبه للهجرة بحرا من لبنان، خشية أولا إلقاء القبض على شبكات المهربين وثانيا كشف مكان الانطلاق من قبل السلطات اللبنانية".
ونوه إلى أن "هناك هجرات تنظم بشكل شخصي عبر مجموعات يقومون بشراء قارب مطاطي وتأمين باقي التجهيزات والانطلاق، حتى إن بعضهم جرى إرجاعهم من قبل اليونان".
ويرى أبو الحسن أن "دوافع هجرة السوريين ورمي أنفسهم في البحر لا تحصى، لكن حالة اليأس من الوضع الاقتصادي ومحدودية فرص العمل، سواء في سوريا أم لبنان يعد المحرك الأكبر".
إحصائيات دولية
وبحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن عدد الأشخاص الذين غادروا لبنان أو حاولوا مغادرته بحرا تضاعف تقريبا في 2021 مقارنة بعام 2020، وارتفع مرة أخرى بأكثر من 70 بالمئة في عام 2022 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021، وفق ما نقلت وكالة "رويترز" منتصف سبتمبر/ أيلول 2022.
ووفقا للأمم المتحدة، غادر أو حاول ما لا يقل عن 38 زورقا يحمل أكثر من 1500 شخص مغادرة لبنان عن طريق البحر منذ 2020.
وفي 13 سبتمبر/ 2022، أعلن جهاز خفر السواحل التركي مقتل ستة مهاجرين بينهم طفلان في عرض بحر إيجة، فيما جرى إنقاذ 73 آخرين كانوا يحاولون الوصول إلى إيطاليا بعدما انطلقوا من طرابلس في شمال لبنان.
وكان المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، دعا عبر بيان له في 24 سبتمبر 2022، المجتمع الدولي إلى تقديم المساعدة الكاملة لـ"تحسين ظروف النازحين قسرا والمجتمعات المضيفة في الشرق الأوسط".
وفي بيان مشترك مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين ومنظمة الهجرة الدولية، أكد على أن "الكثيرين يُدفع بهم نحو حافة الهاوية".
وخلال تصريحات صحفية نقلتها وكالة "فرانس برس"، في 24 سبتمبر/أيلول 2022، قال المدير العام للمنظمة الدولية للهجرة أنطونيو فيتورينو: "لا يجدر بالأشخاص الباحثين عن الأمان أن يجدوا أنفسهم مضطرين لخوض رحلات هجرة محفوفة بالمخاطر ومميتة".
رغم ذلك، فإنه لم تسهم التدابير التي اتخذتها القوى الأمنية في الحد من ظاهرة الهجرة التي ازدادت وتيرتها على وقع الانهيار الاقتصادي الذي يعصف بالبلاد منذ نحو عام 2019، والذي دفع باللبنانيين واللاجئين للمخاطرة بأرواحهم بحثا عن بدايات جديدة.
ومرارا، تُعلن الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية عن إحباط محاولات هجرة غير شرعية، خصوصا من منطقتي طرابلس وعكار شمالا، الأكثر فقرا في لبنان.
وسبق أن أعلن الجيش اللبناني في 24 سبتمبر/أيلول 2022، أنه أوقف شخصا للاشتباه في تورطه بتهريب مهاجرين عبر البحر، وقد "اعترف بالإعداد لعملية التهريب الأخيرة من لبنان إلى إيطاليا".