رغم انتكاساته في أوكرانيا.. هكذا يجرى الترويج لشعبية بوتين في روسيا
لا تتوقف الآلة الإعلامية في روسيا عن محاولات إبقاء صورة وشعبية الرئيس فلاديمير بوتين، كما هي بعيون المواطنين "ناصعة"، قبل قرار غزو أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022.
وتواصل مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي المقربة من الكرملين، تقديم نسب عالية لشعبية بوتين داخل الاتحاد الروسي.
واللافت أن هذه الأرقام، تأتي رغم الانتكاسات الروسية غير المسبوقة عسكريا في الميدان الأوكراني، وفي ظل انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 5 بالمئة على أساس سنوي في سبتمبر/ أيلول 2022، بفعل العقوبات الغربية.
سياسيا أيضا، اهتزت صورة بوتين البالغ من العمر 70 عاما، فيما وصفه نظيره الأميركي جو بايدن بأنه "مجرم حرب" في 16 مارس/ آذار 2022، أي بعد أقل من شهر على بدء الغزو المستمر.
ترويج للشعبية
وفي استطلاع نشره مركز "فتسيوم" لاستطلاعات الرأي العام التابع للدولة الروسية، في 30 ديسمبر/ كانون الأول 2022، جاء فيه أن مستوى ثقة الروس في الرئيس بوتين بلغت 78.5 بالمئة.
وبحسب الاستطلاع الجديد الذي جرى عبر الهاتف في الفترة من 19 إلى 25 ديسمبر 2022، وشارك فيه 1600 مواطن أعمارهم من 18 عاما، بلغت نسبة الموافقة على نشاط رئيس الدولة 74.9 بالمئة.
وسبق أن نشر مركز "فتسيوم"، في 26 أغسطس/ آب 2022، استطلاعا للرأي العام جاء فيه أن بوتين يحظى بثقة 81.2 بالمئة من المواطنين الروس.
وبلغ تصنيف شعبية بوتين الشخصية 83 بالمئة في مارس 2022، وبقيت عند هذا المستوى حتى أغسطس، قبل أن تنحدر شعبيته عند 77 بالمئة في سبتمبر، وفقا لمركز "ليفادا" الروسي غير الحكومي لدراسة الرأي العام.
وجاء الانحدار عقب بدء "هجوم خاركيف" المضاد المذهل في أوكرانيا، وتمكنت آنذاك كييف من استعادة أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر مربع من قوات موسكو، مما شكل ضربة موجعة للغزو الروسي.
لكن شعبية بوتين عادت وارتفعت عند مستوى 79 بالمئة عقب إعلانه في سبتمبر 2022 ضم نحو 15 بالمئة من أراضي أوكرانيا إلى بلاده، في أكبر عملية ضم في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وبحسب دراسة لمركز "فتسيوم" نشرت في 12 مارس 2022، فإن شعبية بوتين من 10 فبراير إلى 14 فبراير من العام المذكور، كانت بحدود 67.2 بالمئة.
لكن المركز قال في الدراسة، إن بوتين يحظى بثقة 77.4 بالمئة من المواطنين، رافعا شعبيته "أكثر مما كان عليه قبل الحرب".
وفي عام 2015 بلغت شعبية بوتين ذروتها التاريخية حينما حصد نسبة ثقة بلغت 89 بالمئة وفق استطلاع مركز "ليفادا"، والذي قال إن نسبة المستحسنين لعمل الرئيس كانت 86 بالمئة في يونيو/ حزيران 2014، بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني.
آلة الدعاية
ويرى مراقبون أنه قد لا يزال العديد من الروس يشعرون بالضغوط لإبداء رأي إيجابي عن رئيس الدولة بسبب النظام القمعي الذي يعيشون فيه.
يأتي ذلك بعدما تعاظمت الضغوط على السلطة الحاكمة مع استمرار تكبد القوات العسكرية الروسية خسائرها بأوكرانيا واضطرار وزارة الدفاع لإعلان التعبئة الجزئية من جنود الاحتياط لسد النقص في الجبهات.
وجرى تسجيل رد فعل سلبي على "التعبئة الجزئية"، كما فر آلاف الشباب من البلاد في محاولة لتجنب استدعائهم، وتعرضت العديد من العائلات الروسية لخطر فقدان حياتها المريحة وحتى معيلها.
ولهذا فإنه مع رفض بوتين كل مساعي السلام ووقف الحرب التي أضرت باقتصاد بلاده وباتت شبه محاصرة دوليا، فإن الروس يتخوفون من موجات استدعاءات جديدة تفرضها تطورات المعارك.
الأمر الذي يفقد الناس المزيد من الأبناء والأصدقاء والمعارف، خاصة أن من يقتلون يصنفون في خانة "المفقودين في القتال" حتى لا تضخم الدفاع الروسية عدد قتلى جنودها في الحرب.
لكن مع ذلك، فإن هذه هي اللحظة الأكثر خطورة في رئاسة بوتين منذ توليه السلطة كرئيس عام 2012.
لعبت آلة الدعاية الإعلامية الروسية، دورا في تسويق رواية الكرملين من دوافع غزو الجارة أوكرانيا، عبر تكثيف البرامج الإخبارية لكسب قلوب وعقول المواطنين وجعلهم يرددون تبريرات الكرملين.
وتتمثل هذه التبريرات بأن الروس نجحوا "في تحرير أوكرانيا من الأوكرانيين النازيين الجدد" الذين اغتصبوا النساء الروسيات وقتلوا أزواجهن، وأن الغرب يحاول في الوقت الراهن زعزعة استقرار روسيا.
وتهدف آلة الدعاية للكرملين، إلى إبقاء الشعب الروسي مضللا وسلبيا سياسيا، ولا سيما عقب التطهير الأخير لجميع وسائل الإعلام المستقلة الرئيسة ومنع أي صوت إعلامي مناهض للحرب على أوكرانيا.
وبات سلب الحرية السياسية من الروس عقب غزو أوكرانيا "مشهودا"، وخلقت طبقة جديدة في المجتمع يعيشون فيه هؤلاء حالة من اللامبالاة الناتجة عن الدعاية الرسمية الواحدة.
لعبة استطلاعات
وفي السياق، يرى ديمتري موراتوف، الحائز على جائزة نوبل للسلام ورئيس تحرير صحيفة "نوفايا جازيتا" المستقلة، في مقابلة صحفية أجريت معه بتاريخ 29 سبتمبر 2202، أن "منظمي الاستطلاعات في روسيا لديهم معلومات أكثر عن الأشخاص الذين يتصلون بهم أكثر من مجرد رقم هواتفهم".
وأضاف قائلا: "الروس يدركون ذلك وعندما يتلقون مكالمة، يسألونهم عما إذا كانوا يدعمون بوتين، فمن المرجح أن يجيبوا بنعم، خوفا من أن يكون للرفض (لا) عواقب سلبية عليهم".
ومضى موراتوف يقول: "علاوة على ذلك فإن معدل أولئك الذين يرفضون الرد في المقام الأول مرتفع للغاية -ربما حوالي 75 في المئة- مع مثل هذه التحليلات المنحرفة، فلا عجب في أن النتائج الرسمية تظهر أن معدل تأييد بوتين مرتفع".
فضلا عن العقوبات الهائلة المفروضة على روسيا والتي دفعت الروبل الروسي إلى الانخفاض مقابل الدولار، مما تسبب في ارتفاع تكاليف المعيشة لكثير من الروس.
ومع احتمال أن يكون الألم الاقتصادي أشد قسوة هذه المرة على الروس، يقول المحللون: إن غزو أوكرانيا من غير المرجح أن يعطي بوتين دفعة شعبية، خاصة أن الحرب تشبه الـ"حرب بين الأشقاء" بالنظر إلى الروابط التاريخية الوثيقة والعرقية بين الشعبين.
بالمقابل، فإن غزو أوكرانيا مدفوع برغبة بوتين في رؤية تغيير النظام في كييف والإطاحة بنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الموالي للغرب، والذي ارتفعت شعبيته إلى 91 بالمئة من الأوكرانيين لدفاعه عن البلاد ضد روسيا.
ويرى مساعد مدير مركز "ليفادا" في موسكو، أندريه كوليسنيكوف، أنه "بالنسبة للعديد من المستجيبين لاستطلاعات الرأي حول شعبية بوتين فإنه بطبيعة الحال، الخوف وعدم الرغبة في الكشف عن آرائهم يعملان، لكن لا ينبغي للمرء أن يبالغ في نسبة هؤلاء الأشخاص بين أولئك الذين يدعمون بوتين".
وأضاف كوليسنيكوف لصحيفة "واشنطن بوست" مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2022 أن "هناك أيضا فئة كبيرة من المؤيدين الأيديولوجيين، القوميين والإمبرياليين، إضافة إلى من اعتادوا ببساطة على بوتين وليس لديهم أدنى فكرة عمن يمكن أن يصبح زعيما بعده، خاصة أن بوتين مستمر في السلطة بحكم الأمر الواقع منذ 23 عاما".
بوتين المخلص
ولا يتوقف الترويج لشعبية بوتين إعلاميا، بل وظف بوتين المؤسسة الدينية خدمة لتعزيز ثقة المواطنين الروس به، وبما يسعى إليه.
ووقفت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، إلى جانب بوتين في تبرير الحرب على أوكرانيا، لدرجة أن رئيس الكنيسة كيريل الأول، وصل به الأمر لإصدار "فتوى نارية" قال فيها "إن الموت في قتال أوكرانيا يغسل كل الذنوب".
ولم يتوقف كيريل، عند هذا الحد، بل راح يسبغ على بوتين صفات من رحم الحرب وتصوره على أنه "المخلص" للاتحاد الروسي.
كما قام البطريرك كيريل، بتعيين بوتين في 27 أكتوبر 2022، بمنصب "كبير طاردي الشياطين".
ولذلك فإنه بحسب صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، فإن ثلث الروس لا يؤيدون قرار بوتين بشن "عمليات عسكرية'' في أوكرانيا، وهو رقم يرتفع إلى ما يقرب من 50 بالمئة في المدن الكبرى.
وأمام ذلك، فإن بوتين متمسك بأن المعركة الحالية وجودية بين روسيا والغرب "الشيطاني"، رغم أن بلاده باتت حاليا معزولة وخاضعة للعقوبات، وتبدو كأنها يعاد تشكيلها على صورة رئيسها.
وبالمحصلة، فإن بوتين الذي تنتهي فترة رئاسته الحالية عام 2024، تتركز حاليا كل القوة في يديه، في وقت يلاحظ أن النخب الروسية مفككة ولا تثق في بعضها البعض، وتخضع للعقوبات وكل ما يمكنهم فعله هو أن يكونوا قرب بوتين، وفق محللين.
ويحكم بوتين روسيا سواء في منصب الرئيس أو رئيس الحكومة منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، مما يجعله أكثر الزعماء بقاء في الكرملين منذ الراحل جوزيف ستالين.
وأجرت روسيا تعديلات دستورية عام 2020 تسمح لبوتين بالمنافسة على فترتي رئاسة إضافيتين كل منهما ست سنوات، ولولا هذه التعديلات لكان متعينا عليه أن يترك الحكم عام 2024.