توتر خطير بين صربيا وكوسوفو.. 3 أسئلة لفهم أسبابه ومستقبله والمسؤول عنه
تنذر الاشتباكات الحدودية الأخيرة بين جمهوريتي كوسوفو ذات الأغلبية المسلمة وصربيا الأرثوذوكسية بعودة الحرب في منطقة البلقان، ما أثار تحركات دولية سريعة.
ووقعت اشتباكات حدودية مساء 31 يوليو/تموز 2022 بين الطرفين، وتعرضت الشرطة الكوسوفية لإطلاق نار وأقام صرب كوسوفو حواجز شاحنات لغلق الطرق الحدودية.
وأعلن رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي، في 9 أغسطس/آب من العام نفسه، أن مخاطر نشوب صراع جديد بين بريشتينا وبلغراد "كبيرة"، إثر تغير الوضع في المنطقة بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
واتهم رئيس الوزراء الكوسوفي روسيا بالوقوف وراء التوترات التي شهدتها بلاده مع صربيا، وقال في مقابلة مع صحيفة "لا ريبابليكا" الإيطالية، إنه "قبل غزو أوكرانيا، كانت الاحتمالات (لنشوب صراع) قليلة، لكن الوضع تغير".
وذكر أيضا باجتماع مرتقب بشأن الوضع العام للعلاقات بين كوسوفو وصربيا في بروكسل الأسبوع المقبل (منتصف أغسطس)، معربا عن أمله في أن "يساعد ذلك في تخفيف التوتر".
ولفت كورتي إلى أن الانضمام إلى (حلف شمال الأطلسي) الناتو سيسهم في تحقيق سلام دائم، مضيفا: "موقفنا شفاف ويستند إلى القيم الأوروبية الأطلسية".
ما خلفيات الأزمة؟
انفصلت كوسوفو التي يمثل الألبان أغلبية سكانها، عن صربيا عام 1999 وأعلنت استقلالها عنها عام 2008، لكن بلغراد ما زالت تعدها جزءا من أراضيها، وتدعم الأقلية الصربية فيها.
وتعود جذور الصراع بين صربيا وكوسوفو إلى تفكك يوغوسلافيا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعد فترة طويلة من الصراعات العرقية بين جمهوريات يوغوسلافيا في التسعينيات.
في عام 1989 ألغى الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش، وهو صربي قومي متعصب، الحكم الذاتي لكوسوفو المنصوص عليه في الدستور اليوغوسلافي.
وردا على ذلك، شكل مسلحو ذلك البلد "جيش تحرير كوسوفو" وشنوا هجمات ضد صربيا وضغطوا من أجل إنشاء دولة مسلمة تضم الأقليات العرقية الألبانية.
شنت السلطات في بلغراد حملة عنيفة ضد السكان الألبان في بريشتينا، معتبرة أنهم مؤيدون لجيش تحرير كوسوفو وهجماته وجرى طرد أكثر من مليون ألباني من ديارهم في ذاك البلد.
خاضت صربيا وكوسوفو حربا شرسة بين عامي 1998 و1999 انتهت بمشاركة حلف شمال الأطلسي "الناتو" في حملة قصف مدعومة من الولايات المتحدة ضد الأراضي الصربية.
تدخلت الدول الغربية وحلف شمال الأطلسي عسكريا ثم دبلوماسيا بجمع الأطراف معا بفرنسا في فبراير/ِشباط 1999 للتفاوض على هدنة.
ووافق الجانب الكوسوفي على الهدنة، لكن يوغوسلافيا التي كانت تضم في ذلك الوقت صربيا والجبل الأسود، رفضت الهدنة.
واستمرت الفظائع المرتكبة ضد مسلمي بريشتينا ووصفت وزارة الخارجية الأميركية ما يجرى بأنها "حملة ممنهجة" من قبل "القوات الصربية والقوات شبه العسكرية" من أجل "التطهير العرقي في كوسوفو" ضد المسلمين.
وردا على ذلك، شن الناتو حملة قصف مدمرة استمرت 11 أسبوعا ضد يوغوسلافيا خشية تكرار جرائم الصرب في البوسنة، انتهت في يونيو/حزيران 1999، عندما وقعت صربيا اتفاقية مع الحلف للسماح بدخول قوة حفظ سلام إلى كوسوفو.
كان الهدف الأولي لقوة كوسوفو هو منع اندلاع الصراع بين الصرب والألبان بعد أن وقع الناتو ويوغوسلافيا اتفاقية سلام تسمح بعودة الألبان الذين نزحوا بسبب الحرب.
منذ ذلك الحين، جرى تخفيض القوة تدريجيا، من حوالي 50 ألفا إلى أقل من 4000 اليوم، وتعمل على الحفاظ على الأمن والاستقرار في المنطقة و"دعم تطوير كوسوفو مستقرة وديمقراطية ومتعددة الأعراق ومسالمة"، وفق مهامها.
وفي 19 أبريل/ نيسان 2013، وقّعت العاصمة الصربية بلغراد ونظيرتها الكوسوفية وبريشتينا "اتفاقية تطبيع العلاقات بين البلدين"، وصفها الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي بـ"التاريخية".
ولا تزال صربيا ترفض الاعتراف باستقلال كوسوفو، وتعيق انضمامها للأمم المتحدة رغم اعتراف 100 دولة بها.
ما الجديد؟
بدأت الأزمة الأخيرة حين شرعت شرطة كوسوفو في تطبيق قانون أعلنته الحكومة أول أغسطس/آب 2022 يُلزِم الأقلية الصربية داخل البلد، بتغيير لوحات سياراتهم القادمة من صربيا بأخرى كوسوفية لتعزيز سيادتها كدولة مستقلة.
أغضب القرار صرب كوسوفو الذين يتنقلون دائما عبر حدود صربيا واشتبك بعضهم من الشرطة.
ولدى صرب كوسوفو والبوسنة والهرسك حلم بالاندماج مع صربيا والانفكاك عن الدولتين المذكورتين أو تشكيل أقاليم منفصلة.
عللت حكومة كوسوفو القرار بأنه "تدبير للمعاملة بالمثل"، متهمة صربيا بمعاملة المواطنين الألبان المسلمين الذين يعيشون فيها بنفس المعاملة.
إذ تفرض بلغراد على الكوسوفيين العابرين إلى أراضيها تغيير لوحات ترقيم سياراتهم المسجلة في كوسوفو، ما أدى إلى نشوب نزاع مماثل للتوترات الأخيرة، في سبتمبر/أيلول 2021.
ولم تجبر صربيا المسلمين فقط على تغيير لوحات سيارتهم، بل وأوراق هويتهم الألبانية المسلمة إلى هوية صربية.
كما منعتهم من المشاركة في انتخاباتها أبريل 2022 الرئاسية بدعوى أنهم ليسوا "صربا" رغم أنهم صرب الهوية مسلمي الديانة.
أكد رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي، أن من أطلق الرصاص "مجموعات صربية غير شرعية"، وحركت صربيا طائراتها قرب الحدود، ما أدى لإطلاق صفارات الإنذار في المدن الحدودية لبلاده، بحسب ما نشرت وكالة رويترز البريطانية في 31 يوليو 2022.
واتهم "كورتي" رئيس صربيا "ألكسندر فوتشيتش" بأنه المجرم الرئيس في أعمال الشغب التي تحدث في البلاد وحذر من أن "الأيام والأسابيع القادمة قد تكون صعبة وإشكالية"، إذ "نواجه شوفينية قومية صربية معروفة جيدا لنا" حسب وصفه.
وبين كورتي أن "هذه الأعمال العدوانية" جرى التخطيط لها والتحريض عليها من قبل الكيانات الصربية غير الشرعية في الشمال التي وضعت حواجز على الطرق وأطلقت النار".
وأشعل الرئيس الصربي المواجهة بخطاب موجه إلى مواطني بلاده يقول فيه إن الوضع في كوسوفو وميتوهو أو Mitrovica (مقاطعة جنوبية تشكل 35 بالمئة من البلاد يقطنها صرب) أصبح معقدا بالنسبة للصرب، بحسب بيان من مكتبه في 31 يوليو 2022.
ودوت صفارات الإنذار لأكثر من ثلاث ساعات في بلدة ميتروفيتشا الصغيرة شمالي كوسوفو، التي يشكل الصرب أغلب سكانها، تحسبا لوقوع غارات جوية صربية، بعدما نفذت المقاتلات التابعة لبلغراد طلعات جوية قرب الحدود الكوسوفية.
وزعم بعد دوي صفارات الإنذار في المناطق الشمالية التي يسكنها الصرب في كوسوفو، أن "صربيا ستنتصر" في حال حدوث "أعمال عدوانية".
ولإجبار بريشتينا على سحب قرار إلزام الصرب بتغيير أوراق ولوحات سياراتهم إلى هوية كوسوفية لا صربية، أغلقت تلك الأقلية الطريق بين كوسوفو وصربيا بالشاحنات والآليات الثقيلة.
وقالت الشرطة الكوسوفية في بيان إن صربا غاضبين اعتدوا بالضرب على عديد من الألبان الذين كانوا يمرُّون على الطرق التي أغلقت، وبعض السيارات تعرضت للهجوم.
وفي أعقاب التوترات والمشاورات مع سفراء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، قالت حكومة كوسوفو في تغريدة عبر تويتر، إنها ستؤجل خطتها لمدة شهر واحد، وستبدأ التنفيذ أول سبتمبر/أيلول 2022.
وهو ما يعني أنه سيتعين على أي شخص يدخل كوسوفو ببطاقة هوية صربية استبدالها بوثيقة هوية مؤقتة أثناء إقامته في البلاد، وتغيير لوحات السيارات الصربية بكوسوفية.
وقالت الباحثة الصربية الألبانية المسلمة فلورا فرحاتي في 19 نوفمبر/تشرين ثان 2021، إن السلطات تجرد الألبان المسلمين داخل جمهورية صربيا من بياناتهم الوطنية، وأوراق الثبوتية التي تخول لهم المشاركة في الانتخابات.
أكدت لموقع "بلقان انسيت" (غير حكومي له فروع في أوروبا الشرقية والغربية) أنه خلال دراستها في جنوب صربيا، أكد لها ألبان مسلمون "إنهم يحذفوننا (الصرب) من بطاقات الهوية"، وأن وزارة الداخلية الصربية تبرر ذلك بدعوى أنهم "يسكنون في كوسوفو ولا يمكن الاعتراف بهم كمواطنين صرب".
وعقب انفصال كوسوفو، ضيقت صربيا على المواطنين المسلمين الذين يعيشون على أرضها وعدتهم كوسوفيين لأنهم يعبرون الحدود لزيارة أقاربهم في بريشتينا وفرضت على من يحملون منهم أوراق هوية كوسوفية تغييرها إلى صربية.
ووصل الأمر إلى حرمان بعضهم من الانتخابات بدعوى أنهم ليسوا صربا لأنهم لا يحملون أوراق هوية صربية، ترفض السلطات أصلا إعطاءها لهم.
وفعلت حكومة كوسوفو ذات الأمر في أبريل 2022، ومنعت صربيا من إجراء انتخاباتها الرئاسية داخل أراضيها، معتبرة ذلك انتهاكا لسيادتها ودستورها.
من وراءه؟
رغم أن القانون الكوسوفي صدر منذ فترة، كما أن صربيا تعامل المسلمين الألبان بالمثل، لكن التصعيد عبر الحدود واحتمالات اشتعال حرب مدمرة جديدة يطرح ثلاثة احتمالات:
أولها: أن التصعيد ربما جاء بطلب أو تحريض من موسكو التي تدافع عن الصرب في البوسنة وكوسوفو وتدعم بلغراد لأسباب تاريخية ودينية (يشتركون في اعتناق الأرثوذوكسية والخلفية العرقية)، وذلك لفتح جبهة صراع جديدة تشغل الغرب عن أوكرانيا وتخفف الضغوط على روسيا.
ويشترك الروس والصرب في العقيدة الأرثوذكسية والخلفية العرقية السلافية، وينقسم السلاف إلى شرقيين (بيلاروسيون وروس وأوكرانيين) وغربيين (منهم التشيك، والبولنديين، والسلوفاك)، وجنوبيين (صربيا ومونتينيغرو ومقدونيا).
وقد وصف "فيوزا عثماني" مدير مكتب رئيس كوسوفو تصرفات صربيا بأنها "تكرار كتابي لكتاب قواعد اللعبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين".
واتهم حكومة صربيا بإغراق وسائل الإعلام بادعاءات كاذبة واستخدام "خطاب عسكري"، بحسب ما نشرت صحيفة الغارديان البريطانية في الأول من أغسطس 2022.
أيضا أكد السفير الأميركي لدى بريشتينا جيفري هوفينيه، في 31 يوليو 2022 أن كوسوفو ستؤجل تنفيذ اللوائح لمدة 30 يوما "لأنه يبدو أن هناك معلومات مضللة وسوء فهم لهذه القرارات"، حسب وكالة أسوشيتد برس الأميركية.
وقد ذكر موقع "بلقان إنسيت" في الأول من أغسطس 2022 أن "المعلومات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي والتحريض ينشر الذعر من حرب كوسوفو وصربيا".
وأوضح أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في روسيا وصربيا خصوصا، ينشرون معلومات مضللة حول "حرب" واسعة النطاق يُزعم أنها اندلعت بالفعل بين كوسوفو وصربيا، ربما لتأجيج الأوضاع.
بين الموقع أن 250 ألف تغريده مضللة انتشرت عبر تويتر من أوكرانيا وروسيا وتركيا وإسبانيا وصربيا وكوسوفو وألبانيا، تؤكد أن الحرب اندلعت، بينما جرى احتواء التوتر مؤقتا.
وقد أعلنت روسيا دعمها لصربيا في الأزمة الأخيرة رافضة إجراءات بريشتينا لإجبار الصرب على حمل هويتها ولوحات سيارتها. وترفض موسكو الاعتراف باستقلال كوسوفو منذ نشأتها.
وقال المتحدث الرسمي باسم الكرملين الروسي دميتري بيسكوف، في الأول من أغسطس 2022 إن مطالب كوسوفو بحصول جميع مواطني صربيا على وثيقة إضافية على الحدود لمنحهم الإذن بالدخول "ليس لها أساس"، مؤكدا دعم روسيا لبلغراد.
وأشار إلى انضمام صربيا إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهو تحالف عسكري أوراسي يضم 6 دول من الفضاء السوفيتي السابق، فيما يبدو إعلان واضح عن دعم الحلف الروسي لصربيا ضد كوسوفو وحلف الناتو الداعم لها.
ثانيها: رغبة صرب كوسوفو والبوسنة معا في الانضمام إلى بلغراد وريثة الاتحاد اليوغسلافي القديم لتشكيل جمهورية صربيا الكبرى.
وسبق لصرب البوسنة أن افتعلوا مشاكل مماثلة في العام 2021 كادت تشعل الحرب، وتؤدي إلى عودة اشتعال الصراع التاريخي مجددا.
الثالث: اشتعال صراع كوسوفو، وقبله صراعات البوسنة وأوكرانيا، في نفس الوقت الذي يحبس العالم أنفاسه الآن بسبب مواجهة محتملة بين أميركا والصين حول تايوان وهو ما ينذر بحروب دولية خطيرة ومتعددة.
لهذا قالت قوة الناتو في بريشتينا إنها مستعدة للتدخل "إذا تعرض الاستقرار للخطر في شمال كوسوفو"، إثر تصاعد التوترات الحدودية.
ويقول دانيلو مانديتش، الباحث في قسم علم الاجتماع بجامعة هارفارد، إنه على الرغم من أنه لا كوسوفو ولا صربيا لديهما مصلحة في تصعيد عنيف، فليس من المستبعد أن تخرج التطورات عن نطاق السيطرة.
ويرجع ذلك، في تصريح لمجلة "تايم" بالأول من أغسطس إلى أن "كل من بلغراد وبريشتينا ينخرطان في نوع من الاستدراج العرقي القومي"، معتبرا أنهم "يلعبون بالنار، بمجرد أن تشتعل ستخرج الأمور عن السيطرة".