ملوك العالم.. كيف بات وعي الأجيال رهينة بيد مليارديرات التكنولوجيا؟
بعد تكهنات عديدة استمرت أسابيع طويلة، استيقظ العالم في 25 أبريل/نيسان 2022، على إعلان استحواذ رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك، على منصة "تويتر"، الأكثر تأثيرا عالميا في صفقة ضخمة قدرت قيمتها بـ44 مليار دولار.
وعقب هذا الإعلان، عمد ماسك، أغنى رجل في العالم، عبر حسابه بتويتر، إلى التأكيد أنه استحوذ على المنصة، من أجل "الحفاظ على حرية التعبير، بوصفها أمرا أساسيا لتفعيل الديمقراطية"، على حد تعبيره.
لكن هذه الرواية لم ترق إلى البيت الأبيض، الذي تدار منه الدولة الأقوى والأكثر تأثيرا بالعالم سياسيا واقتصاديا وعلميا وفنيا، وتقف وراء تشكيل الخريطة العالمية بصورتها الراهنة منذ أزيد من نصف قرن من الزمان.
وتعليقا على عملية الاستحواذ، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي إن الرئيس جو بايدن قلق منذ فترة طويلة بشأن قوة تأثير منصات التواصل الاجتماعي الكبيرة، بغض النظر عمن يمتلك منصة تويتر أو يديرها.
وأضافت ساكي أن الإدارة الأميركية تتعامل بانتظام مع جميع وسائل التواصل الاجتماعي، وثمة "إصلاحات" يمكن أن يتخذها الكونغرس بشأن المستجدات بمنصات التواصل قريبا، ما قد يمهد لمواجهة نفوذ كبيرة بين الجانبين على تشكيل وقيادة الوعي العالمي.
عالم جديد
وبمعزلٍ عن أهداف ماسك الحقيقية من وراء تحويل تويتر إلى شركة خاصة يكون فيها صاحب القول الفصل، فإن شراءه منصة إستراتيجية كتويتر، أعاد إلى الواجهة قضية استحواذ مليارديرات التكنولوجيا على وسائل الإعلام والتواصل المؤثرة في تشكيل وعي ووجدان الشعوب، لا سيما الأجيال الناشئة.
وخلال السنوات الأخيرة، شرع العالم في أن يكون رهينة بقبضة مجموعة صغيرة من المليارديرات الذين يستطيعون من خلال هذه المنصات التأثير فيه وفق أجندات خاصة، دون قيود أخلاقية أو قانونية.
فماسك ليس أول من يملك منصة بهذا التأثير، إذ إن الملياردير الأميركي جيف بيزوس، مؤسس شركة "أمازون" العملاقة للتجارة الإلكترونية والحوسبة السحابية، سبق أن استحوذ على صحيفة "واشنطن بوست" الشهيرة مقابل 250 مليون دولار في عام 2013.
وفي عام 2018 اشترى رجل الأعمال الأميركي مارك بينوف، مجلة "التايم" الشهيرة مقابل نحو 190 مليون دولار، وهو أيضا ملياردير تقني ويمتلك شركة "سيلز فورس" للبرمجة السحابية.
وبعد موافقة مجلس إدارة "تويتر" على بيع الشركة إلى ماسك، أصبحت هذه ثالث أكبر صفقة في تاريخ شركات التكنولوجيا.
إذ تأتي أولا صفقة استحواذ "مايكروسوفت"، أكبر شركة للبرمجيات بالعالم على "أكتيفيجن بليزارد" عملاق ألعاب الفيديو الأميركي صاحب الألعاب واسعة الشعبية والتأثير على فئة المراهقين والشباب مثل "كاندي كراش" و"كول أوف ديوتي" و"وورلد أوف ووركرافت".
وجرت هذه الصفقة مطلع 2022 قبل 3 أشهر من استحواذ ماسك على تويتر، وقدرت قيمتها بـ68.7 مليار دولار.
وتأتي ثانيا صفقة استحواذ عملاق الحاسوب والتكنولوجيا الأميركي "ديل" على شركة تخزين البيانات "إي إم سي" بقيمة 67 مليار دولار.
وتعليقا على هذا التطور، كتبت الخبيرة الأميركية بالشؤون التقنية بارمي أولسون، أن "ما يزعج حقا بشأن صفقة شراء شركة تويتر أن ماسك لن يكون مسؤولا أمام أي شخص سوى نفسه".
وأضافت في مقال نشرته وكالة "بلومبيرغ" في 28 أبريل: "عندما تصبح الشركة خاصة، يمكن لماسك حل مجلس إدارة تويتر، وفي حال لم يفعل ذلك، فإن أي مجلس آخر ربما لن تكون له سلطة".
ولفتت أولسون إلى أن "هذا ليس شيئا جديدا في مجال التكنولوجيا، إذ غالبا ما تكون الضوابط والتوازنات فاقدة لفاعليتها. ومع ذلك، فإن لهذا الاتجاه تداعيات مدمرة بشكل متزايد".
ومضت تقول "يقدم مؤسسو شركات التكنولوجيا الضخمة مثل مارك زوكربيرغ (ميتا بلاتفورمز)، وسيرجي برين ولاري بيج، (ألفابت) أنفسهم على أنهم مستبدون في العصر الحديث للأعمال".
وأرجعت الخبيرة بالشؤون التكنولوجية هذه المقاربة إلى الطريقة التي ينظم بها هؤلاء المليارديرات طرح أسهم شركاتهم للاكتتاب العام الأولي وأسهم التصويت على مدار العقد الأخير.
وقالت أولسون: ففعليا، يملك زوكربيرغ غالبية أسهم التصويت في ميتا بلاتفورم، بينما يتحكم المليارديران برين وبيج حصة 51 بالمئة من أسهم ألفابت، ما يمنحهم التحكم المطلق في منصات مؤثرة مثل فيسبوك وإنستغرام وواتساب (للأول)، وغوغل ويوتيوب (للثاني والثالث).
وتابعت: كما يمتلك كل من مؤسسي "إير بي إن بي" (Airbnb) و"سناب" (Snap) حوالي 44 بالمئة من السيطرة على التصويت في شركتيهما.
رؤية فردية
ورغم انتقاداته للقيود التي تستهدف حرية التعبير، وادعاءاته بأنه سيجلب لتويتر مزيدا من التعديلات لدعم قيم الديمقراطية والرأي الآخر، فإن رؤية ماسك الحقيقية بشأن مستقبل المنصة لا تزال ضبابية.
في المقابل، يرى خبراء أن غياب الإشراف على المحتوى في منصة تواصل اجتماعي مثل تويتر، سيصبح مصدر قلق للمعلنين المهتمين بالعلامة التجارية الخاصة بهم، والذين لا يرغبون في ظهور إعلاناتهم إلى جانب مشاركات مثيرة للجدل.
وهناك قلق من أن يجعل ماسك تويتر ساحة متفلتة من الرقابة الفعلية، تسمح لمستخدميها بنشر تغريدات تدعو إلى الكراهية والعنف أو نشر مواد مضللة وإباحية.
وكبقية منصات التواصل الاجتماعي، يعتمد تويتر بشكل كبير على الإعلانات، التي تمثل نحو 90 بالمئة من إيرادات الشركة، التي بلغت 5.1 مليارات دولار في 2021.
ولا يعد تويتر منصة رابحة بشكل كبير مقارنة بفيسبوك وتيك توك، لكنه في المقابل المنصة الأكثر مصداقية فيما يتعلق بالأخبار والمحتويات الجادة، والأكثر استخداما من قبل الساسة، والصحفيين، ورجال المال والأعمال.
وفي هذا الخصوص، ذكرت مجلة "التايم" في 26 أبريل، أن استحواذ ماسك على تويتر يمكن أن "يقوض محاولات موظفي الشركة لسنوات جعل المنصة أكثر أمانا، وينسف ما تعهدت به الشركة من تقليل الوصول إلى المعلومات الضارة أو المضللة".
من جانبها ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، في 24 أبريل، أن "أغنى رجال العالم مثل ماسك، يستخدمون ثرواتهم الهائلة لبناء عالم لا تقيده القوانين أو المساءلة".
وأوضحت أن "تبريرات رجال الأعمال مثل ماسك لدوافعهم باستخدام كلمة الحرية، هدفها في الواقع التحرر من المساءلة"، مؤكدة أن "هدف ماسك الحقيقي لا علاقة له بحرية الآخرين، بل هدفه هو حريته غير المقيدة".
كذلك، قالت صحيفة "نيويورك تايمز" في 25 أبريل، إن "أسباب سيطرة ماسك على تويتر لا تتعلق بحرية التعبير، بل إن الأمر يتعلق بالتحكم في مكبر الصوت".
وهذه الاتهامات تتماشى مع سلوك ماسك الذي يتابعه نحو 83 مليون شخص على تويتر، وكثيرا ما استغل حسابه في إرباك أسواق المال والأعمال، عبر توجيه آراء متابعيه لدعم أو مهاجمة مواضيع معينة مثل، العملات المشفرة والمشروبات الغازية ومنصات التواصل الأخرى.
فضلا عن الترويج لأنشطة ومشاريع شركتيه الأشهر، "سبيس أكس" لإطلاق الصواريخ والأقمار الصناعية و"تيسلا" للسيارات الكهربائية.
مساءلة غائبة
وكل هذا يتعارض مع الأفكار الحديثة لحوكمة الشركات، التي ترى أن المساءلة الصارمة أمر جيد، حيث إنه دون هذه القيود، يكون قادة التكنولوجيا أحرارا في اتخاذ قرارات متقلبة، وفقا لما صرح به أستاذ القيادة في كلية هارفارد للأعمال، ديفيد يوفي، لبلومبيرغ في 28 أبريل.
وأضاف: في بعض الأحيان، يمكن أن تكون هذه القرارات مفيدة للأعمال، فمثلا عندما اشترى مارك زوكربيرغ تطبيق "إنستغرام" مقابل مليار دولار عام 2012، لم يكن للهدف الصغير أي إيرادات، ولم يطلب الإذن من مجلس إدارته لشرائه.
واستدرك يوفي: "لكن بعد سبع سنوات، ساهم إنستغرام بمبلغ 20 مليار دولار في مبيعات فيسبوك السنوية، ومع ذلك يجب النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى".
وشرح بالقول: إذ أظهرت دراسات متعددة أن إنستغرام تحت إشراف زوكربيرغ، ارتبط بارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق والانتحار بين المراهقين والمراهقات على وجه الخصوص.
وهو ما أكدته مهندسة البيانات السابقة في فيسبوك "فرانسيس هوغن"، عندما كشفت في برنامج "60 دقيقة" عبر محطة "سي بي إس" الأميركية في 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أن زوكربيرغ يختار الربح المادي على سلامة مستخدمي تطبيقاته.
“Facebook, over and over again, has shown it chooses profit over safety,” says Facebook whistleblower Frances Haugen. She believes the federal government should impose regulations and plans to testify before Congress this week. https://t.co/YoKIyorZzu pic.twitter.com/RWlk9QOwZu
— 60 Minutes (@60Minutes) October 3, 2021
وقبل استقالتها من فيسبوك في مايو/ أيار 2021، أخذت هوغن معها وثائق داخلية للشركة وسربتها إلى مشرعين أميركيين وصحيفة "وول ستريت جورنال".
وكشفت هذه الوثائق أن فيسبوك كانت تجري بحوثا حول إنستغرام لمدة 3 سنوات لتحديد تأثيراتها على المراهقين، وتأكدت أن 32 بالمئة من المراهقات شعرن بأن استخدام التطبيق منحهن صورة أكثر سلبية عن جسدهن، وسبب لهن ما يُعرف بـ"إدمان تقدير الذات"، لإظهار أنفسهن في أفضل صورة حتى لو كانت مزيفة.
ومع ذلك، أعطى فيسبوك الأولوية للأرباح دون الاهتمام بصحة وسلامة مستخدميه.
وبعيدا عن ذلك، يُتهم مليارديرات منصات التواصل أيضا باختراق وسرقة بيانات المستخدمين وإعادة تقييمها عبر الذكاء الصناعي لتحقيق أكبر قدر من الأرباح.
وتلك البيانات يعدها خبراء كثيرون "النفط الجديد" لكثير من المؤسسات السياسية والمالية والتجارية.
صراع الوعي
وعن هذه الأزمة، قال الخبير بالشؤون الإلكترونية عادل عبد الصادق، إنه على قدر ما أتاحت الثورة الرقمية للمجتمع البشري فرصا جديدة للقوة والمعرفة والثروة، فإنها جاءت كذلك بتهديدات غير مسبوقة فيما يتعلق بطبيعتها أو بمستويات مواجهتها.
وأضاف في مقال نشره "المركز العربي لأبحاث الفضاء الإلكتروني" في 12 فبراير/شباط 2022، أن شركات التقنية الكبري المسيطرة على المحتوى الرقمي بدأت تمارس سلطة المعرفة، وتوظف ذلك لتحقيق أهداف مالية أو توظيفها لخدمة سياسات خارجية وفرض قوتها الناعمة عبر الحدود.
وأوضح عبد الصادق أن الشركات المحتكرة لهذه الثورة توظف المؤثرات الصوتية والمرئية في معركة الاستحواذ على القلوب والعقول لزيادة عدد المشاهدات عبر استخدام تكتيكات دعائية للإقناع ولجعل التأثير أكثر عمقا في الوعي بشقيه الفردي والجماعي.
وزاد أنه في ظل تنامي بيئة عدم اليقين عبر المنصات الرقمية، يجرى افتقاد مقياس الانتقاء بين القيم المعوقة والأخرى المعززة للتنمية، وخروج عملية الفرز من بين أفواه المتخصصين من رجال الدين والعلم والثقافة إلى أناس آخرين لا يجمعهم إلا الرغبة في التأثير، لتحقيق مكاسب مادية، أو تصعيد ميول جديدة واتجاهات فكرية لا تعبر عن ثقافات المجتمعات المحلية.
ويبقي القول إن صناعة الوعي الفردي تعد اللبنة الأولى في بناء الوعي الجماعي، وهي عملية تراكمية ذات أبعاد قصيرة وطويلة الأمد، تجعل الإنسان ينطلق نحو المساهمة في بناء الحضارة الإنسانية أو العكس، يؤكد الخبير الرقمي.
من جانبها توقعت الخبيرة الأميركية بارمي أولسون، أن يأتي العلاج الأكثر فعالية لهذه الأزمة من المليارديرات الآخرين، مثلما جاء أكبر تأثير على ممارسات جمع البيانات "عديمة الضمير" التي تمارسها فيسبوك، من شركة "أبل" بقيادة الملياردير تيم كوك.
وذلك عندما وفرت خيارا يسمح للعملاء بمنع شركة زوكربيرغ من تتبعهم، بعدما كانت فيسبوك وتطبيقاتها تحصل عل كل ما تريده من بيانات دون إذن من المستخدم.
وأضافت: "ما من شكٍ أنه لا يجب أن تكون الأمور على هذا النحو، لكن في عالم تتشكل فيه وسائل التواصل الاجتماعي من قبل أصحاب المليارات الأحرار، فقد يكون خصومهم أملنا الوحيد".