تأجيل الانتخابات أم سيناريو "الريتز".. ما نتائج الصراع بين عون ومصارف لبنان؟

12

طباعة

مشاركة

مع إقفال باب الترشيحات وبدء العد العكسي للانتخابات التشريعية في لبنان في 15 مايو/أيار 2022، بلغت معركة "لي الأذرع" في أزمة "المصارف" مرحلة بالغة الدقة والحساسية.

واندلعت الأزمة بين رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره من جهة، ومحافظ المصرف المركزي رياض سلامة وقطاع المصارف المدعومين من رئيسي مجلس النواب نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي من جهة أخرى.

وتساءل متابعون للشأن السياسي والاقتصادي في لبنان عن إمكانية تأجيل الانتخابات التشريعية في ظل الاتهامات التي توجه إلى رئيس الجمهورية بالسعي إلى ذلك.

موجة قلق

وفي خضم هذا الصراع، أصدرت القاضية غادة عون، النائب العام الاستئنافي في محافظة جبل لبنان، قرارا بالقبض على "رجا" شقيق رياض سلامة، في 17 مارس/آذار 2022، بعد التحقيق معه على خلفية دعاوى مرفوعة ضده وضد شقيقه بتهم "غسيل الأموال، والاختلاس، والإثراء غير المشروع".

كما طلبت عون، وهي تعد الذراع القضائي لرئيس الجمهورية الأكثر فعالية، مثول محافظ المصرف المركزي أمامها للتحقيق معه، لكن سلامة تغيب عن الحضور، ما يفسح المجال أمام عون لإصدار مذكرة جلب وإحضار بحقه. 

وهذا الإجراء سبق أن قامت به القاضية عون مع سلامة في قضية أخرى، حيث تم إرسال وحدات من جهاز أمن الدولة لإحضاره بالقوة في فبراير/شباط 2022، إلا أن قوى الأمن الداخلي منعت حصول ذلك، وكاد الأمر أن يتطور إلى مواجهة بين الأجهزة العسكرية.

بيد أن عون أحالت قضية سلامة هذه المرة إلى قضاة التحقيق المحسوبين أيضا على فريق رئيس الجمهورية، للتوسع في التحقيق.

وبالموازاة مع ذلك، أصدرت القاضية مريانا عناني، رئيس دائرة التنفيذ بالعاصمة بيروت، في 15 مارس/آذار 2022 قرارا بالحجز على موجودات مصرف "فرنسبنك"، وهو مصرف مملوك لوزير سابق، تنفيذا لحكم قضائي صادر إثر دعوى تقدم بها أحد المودعين المحتجزة ودائعه.

الأمر أثار موجة قلق لدى المواطنين، وخاصة موظفي الدولة الذين تتقاضى شرائح واسعة منهم رواتبها من هذا المصرف بالذات، في ظل توقف منافذ الصرف النقدي والإلكتروني بالكامل. 

وزاد منسوب الانزعاج لدى المواطنين مع تنفيذ قرار مماثل بحق مصرف "لبنان والمهجر" في اليوم التالي، حيث هرع كثر إلى فروع المصارف المختلفة في محاولات يائسة للحصول على بعض السيولة النقدية. 

وقد ردت المصارف باللجوء إلى الإضراب التحذيري لمدة يومين، مع التلويح بالإقفال التام ردا على ما رأت فيه "مؤامرة" على القطاع برمته.

وتحت تأثير هذه الأجواء المشحونة سجلت العملة المحلية تراجعا أمام الدولار بهامش يتراوح بين ألفين و3 آلاف ليرة (نحو 1.32 و1.98 دولار) للمرة الأولى منذ أسابيع. 

فما موقف الحكومة مما يجري؟ وهل يؤدي هذا الصراع إلى تأجيل الانتخابات التشريعية في ظل الاتهامات التي توجه إلى رئيس الجمهورية بالسعي إلى ذلك؟

صراع السلطات

على وقع هذه التطورات تحرك رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وهو رجل أعمال ومصرفي سابق، ودعا إلى جلسة طارئة لمجلس الوزراء في 19 مارس 2022، بعنوان وحيد معلن وهو "وضع آلية للتعاطي القضائي مع ملف المصارف" دعي إلى حضورها أركان السلطة القضائية، النائب العام الاستئنافي، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس هيئة التفتيش.

بيد أن أركان السلطة القضائية اتخذوا موفقا موحدا برفض المثول أمام مجلس الوزراء، لأن ذلك "يعد تدخلا في عمل القضاء"، وهو ما يضرب مبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في الدستور. 

وتلقى القضاة دعما من وزير العدل، هنري خوري، وهو قاض سابق ومن فريق رئيس الجمهورية.

ونقلت صحيفة "الأخبار" المحلية عن النائب العام الاستئنافي، غسان عويدات، قوله لميقاتي، في لقاء سابق بينهما، أنه "لن يقبل بأن يكون كبش فداء لأحد"، طالبا منه (أي ميقاتي) اتخاذ قرار واضح من الحكومة بتفويضه حتى يستطيع التحرك.

وعقب فشل الجلسة، قررت الحكومة تكليف وزير العدل وضع رؤية لمعالجة الأوضاع القضائية، ومكامن أي خلل قد يعتريها وعرضها على الحكومة قريبا، مع تشديد ميقاتي على أن الحكومة هي المسؤولة قانونا عن رسم السياسات العامة في البلاد، وطلبه من أركان السلطة القضائية تطبيق القوانين دون أي تمييز، مع تلويحه بإقالتهم وتعيين بدلاء عنهم.

من جانبها، أعلنت جمعية المصارف عن إضراب تحذيري لمدة يومين رفضا للتعسف في تطبيق السياسات المالية، وكذلك بعض القرارات القضائية، ولكي يتوقف المعنيون عن التهرب من مسؤولياتهم وإلقائها على عاتق المصارف، وذلك وفق البيان الصادر عنها في 18 مارس 2022.

وسرعان ما بدأت العملة المحلية بالتراجع أمام الدولار، والذي ناهز عتبة 24 ألف ليرة لكل دولار، بعد أن شهد استقرارا ملحوظا على عتبة 20 ألف ليرة لكل دولار لمدة أشهر.

وما يزيد الأمور تعقيدا هو الارتفاع الهائل في أسعار الوقود والقمح والزيت وسائر المواد الأساسية تحت وطأة تأثير الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، والأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت تلوح في الأفق.

بين الشعبوية والقانون

من جهته، اعتبر عضو جمعية المصارف، تنال الصباح، أنه "كان ينبغي على السلطة السياسية المسارعة إلى تشريع قانون الكبيتال كونترول (القيود المالية)، وإقرار خطة التعافي الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي". 

وأضاف الصباح في حديث لـ"الاستقلال" أن "السلطة السياسية تتهرب من مسؤولياتها وتقوم بإلقائها على عاتق المصارف". 

وأكد عضو جمعية المصارف، أن "إفلاس هذا القطاع سيؤدي إلى انهيار تام لجميع القطاعات الإنتاجية، فالمصارف هي الممول الأول لها، كما أن التعافي الاقتصادي مرتبط بالحفاظ على المصارف ومنع إفلاسها".

وقد فصل الصحفي إبراهيم ريحان كواليس استدعاء القضاة والذي كاد يفجر الحكومة، وذلك في مقالة له بموقع "أساس ميديا" في 22 مارس/آذار 2022، تحت عنوان "بين أحكام شعبوية وأخطاء السلطة: من يحمي المودعين؟". 

ونقل ريحان عن مصدر قضائي غضب القضاة من "الاستعلاء الحكومي" الذي شاب توجيه الدعوة إليهم لحضور الجلسة، بالإضافة إلى وجود إجماع قضائي على عدم التدخل، مباشرة أو غير مباشرة، في قضية أموال المودعين، طالبين من الحكومة ومجلس النواب إقرار القوانين اللازمة لتطبيقها.

من جانب آخر، طرح ريحان سؤالا مفاده هل حجز موجودات مصرف كامل هو الحل الأنسب لاسترجاع أموال مودع واحد، وماذا عن بقية المودعين؟ ليأتي الجواب على لسان مراجع قضائية "قطعا لا".

وهو الاتجاه نفسه الذي نحا إليه الكاتب المتخصص في الشؤون الاقتصادية، خالد أبو شقرا، في مقالة له بصحيفة "نداء الوطن" في 18 مارس 2022، حملت عنوان "المصارف أمام لحظة الحقيقة: تبويس لحى أم إفلاس وتصفية ذاتية؟".

ونقل أبو شقرا عن مرجع مصرفي رفض ذكر اسمه أن "المصارف تملك مبالغ نقدية لا تتجاوز خمسة مليارات دولار في حدها الأعلى ما بين داخل وخارج لبنان"، وأنه "إذا تم تصفية جميع موجوداتها لن يتجاوز الرقم 15 مليار دولار، وبالتالي فإن الحصيلة كلها لا تمكنها من تسديد كامل حقوق المودعين التي تقارب 103 مليارات دولار".

"ريتز مالي"

وفي تقرير نشره موقع "المركزية" في 22 مارس/آذار 2022، تحت عنوان "حرب العهد القضائية – المالية.. هل من ريتز لبناني؟"، تحدث فيه عن إستراتيجية يعتمدها رئيس الجمهورية وفريقه السياسي ترتكز على "مرتكزين رئيسين".

وأوضح أن المرتكز الأول، إلقاء تبعات الانهيار المالي والاقتصادي على القطاع المصرفي، وتحميله وزر الأزمات كلها، لينزع عنه التهم التي وجهتها إليه القوى المعارضة والثورية، باعتباره "المسؤول الأوحد عما حصل".

والمرتكز الثاني تلميع صورة "حزب الله" أمام اللبنانيين، وخاصة مناصري تياره، لحثهم على انتخاب لوائحه، وتأمين الفوز بالأكثرية النيابية إلى جانب حركة "أمل" (شيعية).

ولفت التقرير إلى "وقوف فريق رئيس الجمهورية خلف ملاحقة رياض سلامة في الداخل والخارج وأيضا المصارف، وذلك لتأليب الرأي العام المحتقن جراء حجز ودائعه".

ونقل التقرير عن مصادر داخل "التيار الوطني الحر" (لم يسمها) إصرار رئيس الجمهورية على المضي في محاسبة حاكم مصرف لبنان والمصارف، ورغبته في تنفيذ سيناريو مشابه لما قام به ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، حينما احتجز عددا ضخما من أعضاء الأسرة المالكة ورجال الأعمال، وأجبرهم على "إعادة ما سلبوه من أموال الدولة".

في حين تحدث الكاتب السياسي، منير الربيع، أن "رئيس الجمهورية يخوض مواجهة مفتوحة مع محافظ المصرف المركزي والقطاع المصرفي على مشارف الانتخابات النيابية ونهاية عهده على بعد أشهر قليلة، لتحقيق هدف أراده منذ اليوم الأول لولايته: السعي إلى السيطرة على القطاع المصرفي والمالي في البلد". 

ولفت الربيع في مقالة بصحيفة "المدن" الإلكترونية، في 21 مارس/آذار 2022، إلى أن "الهدف الحقيقي لهذه الحملة هو إعادة إنتاج قطاع مختلف، يكون عون أساسيا في تركيبه إلى جانب حزب الله".

وأشار الربيع إلى أن "عون لم يعد يقيم وزنا لأي بعد سياسي أو إداري، ما قد يؤدي إلى الإطاحة بالاستحقاق الانتخابي، سواء كان هذا القصد من وراء الحملة أم لم يكن، فعون يعتبرها المعركة الأخيرة في عهده، وهي القادرة على رفع شعبيته، وتعزيز وضعيته من خلال الانتقال من الدفاع إلى الهجوم".

تشهير وابتزاز

وتأتي إجراءات الحجز على أملاك رؤساء وأعضاء مجالس الإدارة لبعض المصارف إنفاذا لقرارات القاضية غادة عون لتؤكد هذا المنحى.

ولم يتم تنفيذ جميع قرارات الحجز، بسبب وجود أخطاء في بعض الأسماء التي ألقي عليها الحجز، كما أن أعضاء مجالس إدارة في نفس المصارف لم يتم الحجز على أملاكهم. 

ومن بين هذه الأخطاء كان اسم صاحب مصرف بارز يعد من أشهر أصحاب المصارف، وأحد الناشطين الرئيسين في تركيب اللوائح الانتخابية في بيروت، و"هو ما يبدو أنها تصرفات غير بريئة وليست أخطاء تقنية فقط".

والهدف الأساسي ليس الحجز على أملاكهم بقدر ما هو التشهير الإعلامي بهم، من أجل وضعهم تحت ضغط الناس خاصة المودعين المحتجزة ودائعهم، من أجل ابتزازهم، وفق مراقبين.

وهو ما أكدت عليه وزيرة المال السابقة، ريا الحسن، رئيسة مجلس إدارة بنك "البحر المتوسط"، والتي صدر بحقها قرار حجز على أملاكها من قبل القاضية عون. 

وصرحت الحسن في برنامج "صار الوقت" أنها تبلغت بقرار الحجز من وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي هذا السياق، نشر موقع "لبنان الكبير" في 10 مارس 2022 خبرا قال فيه إن "مستشارا رفيع المستوى في رئاسة الجمهورية طلب من بعض رؤساء مجالس إدارات المصارف دفع أموال لتمويل حملة التيار الوطني الحر (حزب عون) الانتخابية، مقابل عدم استدعائهم والتحقيق معهم". 

وأغضب هذا الخبر رئيس الجمهورية، ورغم أن مكتبه الإعلامي أصدر بيانا كذب فيه الخبر، إلا أنه تم استدعاء ناشر الموقع، محمد نمر، للمثول أمام "المباحث الجنائية" بسببه، علما أن القانون يفرض محاكمة الصحافيين أمام "محكمة المطبوعات" حصرا. 

بالإضافة إلى التحريض من قبل رئاسة الجمهورية وفريقه السياسي على كل إعلامي يحاول التصدي للحملة على المصارف، حتى أن القاضية عون نفسها توعدت في بيان صادر في 24 مارس 2022 بمحاكمة الإعلامي الشهير مارسيل غانم، وذلك ردا على تهجمه الدائم عليها.