أوروبا تدعو للإفراج عن سجناء الرأي وتونس ترفض "التدخل".. من يملك أوراق الضغط؟

"مؤسسات الاتحاد أدركت أن سعيد ظاهرة صوتية"
تقارير
ظاهرة صوتية
أوروبا تدعو للإفراج عن سجناء الرأي وتونس ترفض “التدخل”.. من يملك أوراق الضغط؟
https://mf.b37mrtl.ru/media/pics/2025.11/article/6926b20c4236043ef45f11f4.jpg
أمام تنامي استهداف المعارضين السياسيين والناشطين الحقوقيين في تونس، واستغلال القضاء في ذلك، وجد الرئيس قيس سعيد نفسه في مواجهة مباشرة مع البرلمان الأوروبي.
وصوّت البرلمان في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، بالأغلبية، على قرار يدعو إلى إطلاق سراح “جميع الذين احتجزوا لممارستهم حقهم في حرية التعبير بتونس، بمن فيهم السجناء السياسيون والمدافعون عن حقوق الإنسان”. بحسب موقع البرلمان الأوروبي.
ووصف سعيد، في 28 نوفمبر 2025، قرار البرلمان الأوروبي بأنه "تدخل سافر" في شؤون تونس، مكلفا وزير خارجيته محمد علي النفطي بـ"توجيه احتجاج شديد اللهجة (…) لإحدى ممثلات دولة أجنبية معتمدة بتونس".
وقال سعيد مخاطبا النفطي: "دعوتكم في هذه الساعة لتبلغوا كل من في آذانهم وقر أننا دولة مستقلة ذات سيادة، ولن نقبل أبدا بأي جهة تتدخل في شؤوننا الداخلية، وأن تونس دولة السيادة فيها للشعب".
وكان البرلمان قد أشار في إحاطة له بشكل خاص إلى المحامية والمعلقة سنية الدهماني التي أفرج عنها في نفس اليوم بـ"سراح شرطي"، بعد أن قضت أكثر من نصف العقوبة في قضيتين منذ إيقافها في 11 مايو/ أيار 2024.
تصويت وموقف
وصوت النواب الأوروبيون بأغلبية واسعة (464 صوتا مؤيدا مقابل 58 معارضا) على قرار يطالب السلطات التونسية بحماية حرية التجمع والتعبير واستقلال القضاء وإلغاء المرسوم 54 المثير للجدل.
وينظم هذا المرسوم الجرائم المرتبطة بأنظمة الاتصال والمعلومات؛ حيث اعتمد لتحريك دعاوى ضد منتقدين للسلطة بتهم مثل نشر أخبار غير صحيحة أو التشويه.
وطالب البرلمان المفوضية الأوروبية بالرد على الضغوط الاقتصادية التي تمارسها الحكومة التونسية على المدافعين عن حقوق الإنسان والمجتمع المدني.
كما دعا البرلمان مؤسسات الاتحاد الأوروبي إلى تأكيد اهتمامهم بتدهور وضع حقوق الإنسان في تونس، ومواصلة جهودها الدبلوماسية المنسقة لضمان الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
ويأتي موقف البرلمان الأوروبي بعد إعلان الرئاسة التونسية في 24 نوفمبر 2025، احتجاجها ضد ما عدته خرقا للضوابط الدبلوماسية من قبيل سفير الاتحاد الأوروبي في تونس جيوسيبي بيروني الذي التقى ممثلين للاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الأعراف، وهما من المنظمات المؤثرة.
ويأتي لقاء السفير بيرّوني في ظل توتر متزايد بين اتحاد الشغل والسلطة التنفيذية حول غلق قنوات الحوار ومحاولة الحد من دور المنظمة النقابية الاجتماعي.
وعلق الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، سامي الطاهري، على استدعاء سعيّد لسفير الاتحاد الأوروبي بتونس، بقوله: إن الاتحاد "يستغرب هذا الرد الانفعالي".
وأوضح الطاهري، لموقع "إلترا تونس"، 27 نوفمبر 2025، أن زيارة الوفود الأجنبية للاتحاد لا تُعد أمرا جديدا، فهي تتم بناء على طلب هذه الجهات سواء سفراء أو ممثلون عن بعثات دولية ومنظمات مدنية، بهدف الاطلاع على مواقف وآراء المجتمع المدني.
وأضاف: "بالاطلاع على الأعراف الدبلوماسية والدولية، فإنه لا شيء يمنع ذلك، والاتحاد لا يتآمر ولا يعقد هذه اللقاءات بصفة سرية، وإنما تتم في مقر الاتحاد وبصورة معلنة".
ونوّه الطاهري إلى أن السفير الأوروبي التقى سابقا منظمات أخرى دون أن يثير ذلك أي رد فعل رسمي، إلا أن الانفعال ظهر فقط بعد لقاء الوفد مع اتحاد الشغل.
وأكد أن الأمر "يظهر محاولة حصار المنظمة ومنعها من التعبير عن آرائها والدفاع عن حقوق العمال ومقترحاتها لحل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في تونس".
يُذكر أن تونس شريكة قوية للاتحاد الأوروبي الذي يحتكر نحو 75 بالمئة من معاملاتها الاقتصادية مع الخارج، كما وقع الجانبان مذكرة لمكافحة الهجرة غير النظامية منذ أكثر من عامين مكّنت من خفض تدفقات المهاجرين عبر السواحل التونسية.

رد برلماني
موقف البرلماني الأوروبي وجد ردا لدى برلمان سعيد أيضا؛ حيث أعلن رئيس مجلس نواب إبراهيم بودربالة، رفض البرلمان كل أشكال التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لبلاده.
جاء ذلك في كلمة ألقاها بودربالة، خلال جلسة عامة للبرلمان مخصصة لمناقشة مشروع قانون المالية لعام 2026، في 28 نوفمبر 2025.
وقال بودربالة: إن "البرلمان يرفض رفضا قاطعا أيّ شكل من أشكال التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لتونس".
وشدد على أن "سيادة تونس تمارس كاملة، وأن المشاكل الداخلية تُحل داخل مؤسسات الدولة دون أي إملاءات خارجية".
وانتقد رئيس البرلمان ما وصفه بـ"العقلية الاستعمارية" التي ما تزال بعض الأطراف في دول أجنبية (لم يسمّها) تتعامل بها مع بلاده.
وفي السياق ذاته، أكد على "احترام الحريات الفردية والعامة وحق التظاهر وحرية الإعلام والصحافة في البلاد". مقدرا أن ما صدر أخيرا من بعض الأطراف الأجنبية يُعدّ "تدخّلا مرفوضا ولا يمكن قبوله بأيّ صيغة".
بدوره، رأى النائب بمجلس نواب، علي زغدود، أن تجرؤ البرلمان الأوروبي على مناقشة الوضع الداخلي في تونس واتخاذ قرارات بشأنه يعد تدخلا سافرا في الشأن الوطني.
ووصف زغدود لإذاعة "ديوان إف إم" في 28 نوفمبر 2025، تصرف البرلمان الأوروبي بأنه “عدوان على سيادة تونس وكرامة شعبها”.
ودعا النائب إلى تعليق كل أشكال التعاون مع البرلمان الأوروبي إلى حين التوقف عن هذه الممارسات الاستعلائية، مؤكدا أن موقف تونس يجب أن يكون واضحا وحازما في مواجهة أي تدخل خارجي في شؤونها الداخلية.

تنامي الانتهاكات
تزامنت هذه التطورات مع إصدار محكمة استئناف في تونس أحكاما بالسجن تصل إلى 45 عاما في قضية "التآمر ضد أمن الدولة" التي يُحاكم فيها نحو 40 شخصا، بينهم شخصيات معارضة.
وغالبية المتهمين وعددهم 37 في هذه القضية محتجزون منذ توقيفهم في ربيع عام 2023 بتهمة "التآمر على أمن الدولة" والانتماء إلى تنظيم "إرهابي".
ومن أبرز المتهمين رجل الأعمال كمال لطيف، والقيادي في ائتلاف المعارضة الرئيس "جبهة الخلاص الوطني" جوهر بن مبارك، والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والنشطاء السياسيون غازي الشواشي وخيام التركي ورضا بلحاج.
ووصفهم سعيّد بأنهم "إرهابيون"، ومن بين التهم الموجهة إليهم لقاء دبلوماسيين أجانب.
وذكرت إذاعة "موزاييك إف إم" التونسية، نقلا عن مصدر قضائي، أن الأحكام بالسجن تراوح بين 10 و45 عاما، وتمت تبرئة أحد المتهمين المسجونين.
أما المتهمون الذين حوكموا في حال سراح، فصدرت بحقهم أحكام بالسجن لمدد تراوح بين 5 و35 عاما، وبُرِّئ من بينهم شخصان.
وطالبت "منظمة العفو الدولية" السلطات التونسية بالإلغاء الفوري لأحكام الإدانة والسجن التي صدرت ضد المتهمين في قضية "التآمر على أمن الدولة"، وإطلاق سراحهم "دون قيد أو شرط".
وقالت نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية، سارة حشاش: إن “قرار محكمة الاستئناف يعد إدانة صارخة للنظام القضائي التونسي”.
وأشارت إلى "تغاضيها عمدا عن سلسلة الانتهاكات لمعايير المحاكمة العادلة التي شابت هذه القضية الملفقة منذ يومها الأول".
وقالت منظمة العفو الدولية: إن "محكمة الاستئناف وافقت على أن تستخدم الحكومة النظام القضائي للقضاء على المعارضة السياسية".
واستنكرت "منظمة هيومن رايتس ووتش" ما وصفته بأنه "مهزلة قضائية ومحاكمة سياسية غير عادلة ومن دون دليل".
وأدان المتحدث الإقليمي باسمها أحمد بن شمسي لوكالة “فرانس برس” في 28 نوفمبر 2025، "استغلالا معيبا للقضاء بهدف تصفية معارضين للرئيس سعيّد".
وندّد المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك بـ"انتهاكات" للقانون تثير "مخاوف جدية بشأن الدوافع السياسية" للمحاكمة.
قبل محاكمة الاستئناف التي عُقدت على ثلاث جلسات ابتداء من أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2025، دعت “هيومن رايتس ووتش" إلى "إلغاء الأحكام الجائرة" الصادرة عن محكمة الدرجة الأولى، مُنددة على وجه الخصوص بغياب "ضمانات المحاكمة العادلة".
ووصفت المنظمة المحاكمة بأنها جزء من حملة "قمع" أوسع نطاقا ضد "جميع أشكال النقد أو المعارضة".

قراءة سياسية
في تقييمه لكل هذه التفاعلات، قال المحلل السياسي التونسي نصر الدين سويلمي: إن الموقف الأوروبي هو انعكاس للعلاقات القوية التي لديه مع النخب العلمانية في تونس.
وأضاف سويلمي لـ"الاستقلال"، أن “الجمعيات والمؤسسات الأوروبية وخاصة الفرنسية شبه الرسمية هي التي تمول أغلب النسيج الجمعياتي في تونس، زيادة أن النخبة العلمانية التونسية تعد من أهم الأرصدة الفرنسية في المغرب العربي وربما في إفريقيا”.
ولذلك، يردف المحلل السياسي، هذا الغضب الأوروبي من سعيّد مرده أن الرئيس “أخطأ حين توسع في الاستهداف، من الخصم الإسلامي الذي تتفق على استهدافه أغلب القوى الأوروبية، إلى الحليف العلماني الخط الأحمر بالنسبة للنخب الأوروبية”.
وبخصوص تقييمه لرد فعل سعيّد تجاه ما صدر عن البرلمان الأوروبي، قال سويلمي: إن رد فعل سعيّد جاءت كما العادة؛ حيث يقول ما يريد ويفعل ما يريدون.
واستطرد: “إذ رأينا سعيّد قد هاج وماج، ثم أطلق سراح المحامية سنية الدهماني بأمر من الاتحاد الأوروبي”. ويرى أن “هذا دأبه في أغلب القضايا”.
وبالنسبة لعلاقة سعيّد مع الاتحاد الأوروبي في ظل هذه التطورات، أكد سويلمي أنها "لن تتأثر في الأفق القريب، خاصة أن مؤسسات الاتحاد أدركت أن سعيد ظاهرة صوتية".
وأردف، كما استوعبت أنه يجب عليها أن تُقدم التنازلات وتمنحه متعة التصعيد اللفظي، مقابل الالتزام العملي بمصالح دول الاتحاد على غرار ما يفعله من حراسة حدودهم البحرية.
وفي آخر تطورات الساحة التونسية، أعلنت قوى معارضة أن السياق السياسي الحالي يتّسم بإغلاق الفضاء العام واستهداف ممنهج لمختلف الأصوات المعارضة للسلطة الحاكمة.
وذكر بلاغ صدر في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2025 عن القوى السياسية والمدنية الرافضة لمسار السلطة الاستبدادي ولسياسة الاستهداف التي تطال كل صوت ناقد أو معارض، أن البلاد تشهد منحى خطيرا على مستوى الحقوق والحريات.
وأكدت القوى أن الإيقافات التي نالت سياسيين ونشطاء وصحفيين ومدونين وغيرهم من الأصوات تمثّل حملة ممنهجة هدفها غلق الفضاء العام وإسكات المعارضة، واستعمال أجهزة الأمن والقضاء والسجون لتركيز حكم فردي قائم على القمع، في استنساخ لممارسات الأنظمة الاستبدادية.
وشددت على الاتفاق على توحيد جهود المعارضة في مواجهة حملات الاعتقال التعسّفية التي تستهدف كل من يخالف السلطة أو ينتقد خياراتها، والمطالبة بالإفراج الفوري عن جميع معتقلي الرأي من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية.
كما دعت القوى إلى توحيد الجهود الميدانية وتكثيف التحركات الاحتجاجية السلمية تحت شعار جامع يرفض الظلم ويدافع عن مكاسب كابد من أجلها الشعب التونسي.
















