مناورات ضد أوكرانيا.. هكذا تحولت سوريا إلى ميدان تدريبات للقوات الروسية
شكلت قاعدة طرطوس الروسية المقامة على ساحل البحر المتوسط في سوريا، أول استثمار حقيقي لموسكو في توظيفها ضمن التصعيد الحاصل ضد أوكرانيا.
وفيما لا تزال مؤشرات الهواجس الغربية مرتفعة من احتمال شن روسيا هجوما واسع النطاق ضد جارتها أوكرانيا، تقصدت موسكو إجراء مناورات وتدريبات للبحرية الروسية، انطلاقا من القاعدة التي استأجرتها من النظام السوري لمدة 49 عاما.
وتأكيدا لأهمية القاعدة المذكورة في معادلة الضغط على حلفاء أوكرانيا، استعرضت روسيا قدراتها العسكرية في مواجهة حاملات الطائرات الأميركية.
مناورات في سوريا
وبشكل مفاجئ، وصل وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، في 15 فبراير/شباط 2022 إلى سوريا ليتفقد بنفسه سير مناورات وتدريبات البحرية الروسية في شرق المتوسط.
وذكرت وزارة الدفاع الروسية في ذات اليوم، أن الوزير شويغو تفقد في ميناء طرطوس السوري التدريبات البحرية في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، "واستمع إلى تقرير عن سير التدريبات على دحر سفن العدو المفترض".
وشاركت في التدريبات الروسية واسعة النطاق في المتوسط، 15 سفينة، من أساطيل المحيط الهادئ والشمال والبحر الأسود.
وركزت التدريبات على "رصد الغواصات المعادية، وفرض السيطرة على الملاحة في البحر، وتنظيم عبور الطائرات لأجواء المنطقة"، وفق وزارة الدفاع الروسية.
وذكرت الوزارة أن مقاتلات "ميغ-31 ك" حاملة صواريخ "كينجال" فرط الصوتية المضادة لحاملات الطائرات، وقاذفات "تو-22 م" وصلت إلى قاعدة حميميم الروسية في ريف اللاذقية بسوريا في إطار التدريبات البحرية.
وأوضحت أنه جرى نشر هذه القاذفات في حميميم على خلفية وجود مجموعات جوية تابعة لحلف شمال الأطلسي "الناتو" في منطقة البحر المتوسط.
وأشارت الوزارة إلى أن "الطائرات قطعت أكثر من 1.5 ألف كلم من قواعدها إلى حميميم".
كما التقى شويغو رئيس النظام السوري بشار الأسد، في مطار الباسل الدولي باللاذقية، وأطلعه على سير التدريبات البحرية التي يجريها الأسطول العسكري الروسي انطلاقا من ميناء طرطوس، وفق وكالة إعلام النظام "سانا".
ويعتبر ميناء طرطوس الأكبر في سوريا، ويمتلك المرفأ ميزات فنية فيه تؤهله ليكون ضمن المرافئ المتطورة.
إذ يشغل حاليا مساحة 3 ملايين متر مربع منها 1.2 مليون متر مربع مساحة الأحواض المائية و1.8 مليون متر مربع مساحة الساحات والمستودعات والأرصفة، التي تلبي حاجة عمليات الاستثمار.
وصممت المرفأ شركة "كامب ساكس" الدنماركية، وبدأ بناؤه في مايو/أيار 1960 من قبل مجموعة شركات عربية وأجنبية، وبات يمتلك تصاميم وخدمات وشبكات حديثة، تخدم البواخر في التحميل والتفريغ والتخزين.
أهمية طرطوس
ومنذ 18 يناير/كانون الثاني 2017، وقعت روسيا والنظام السوري اتفاقية قاعدة طرطوس البحرية، التي شملت توسيع مركز الإمداد المادي والتقني التابع للأسطول الحربي الروسي فيها.
وتسمح الاتفاقية بوجود 11 سفينة حربية، بما في ذلك النووية منها في آن واحد، لمدة 49 عاما، مع إمكانية التجديد التلقائي لفترات لمدة 25 عاما.
وبينما تسمح بأن تتولى روسيا حماية مركز الإمداد التابع لأسطولها، في البحر والجو، يتولى النظام السوري الدفاع عن المركز من البر.
وتنص الوثيقة، على أن يسلم النظام السوري لروسيا للاستخدام المجاني طوال مدة الاتفاق، الأراضي والمياه في منطقة ميناء طرطوس، فضلا عن العقارات التي لم يعلن عنها رسميا.
كما تسمح الاتفاقية لروسيا بالاحتفاظ بعشرات السفن الحربية، بما في ذلك تلك التي تعمل بالطاقة النووية، في طرطوس، وهي المنشأة البحرية الوحيدة التي يمتلكها الكرملين خارج النطاق الجغرافي للاتحاد السوفييتي سابقا.
وعقب ذلك، أخبر يوري بوريسوف نائب رئيس الوزراء الروسي، في 20 أبريل/نيسان 2019، الصحفيين بعد لقاء مع بشار الأسد، بأن ميناء طرطوس في سوريا سيؤجر إلى روسيا لمدة 49 عاما للنقل والاستخدام الاقتصادي، وبذلك تكون موسكو حصلت على المرفأ التجاري وعلى قاعدة بحرية قبالته قبل ذلك بسنوات.
وتعمل روسيا على توسيع قاعدتها البحرية في ميناء طرطوس السوري، ومنها بناء رصيف عائم لتعزيز مرافق إصلاح السفن في الميناء، وفقا لمسؤولين عسكريين روس.
وسيسمح تحديث مرافق الإصلاح المقرر الانتهاء منه في عام 2022، بتجنب إرسال سفن إلى منشآت بحرية في البحر الأسود للصيانة، وفقا لمسؤولين عسكريين غربيين.
وتحمي سفن الحراسة "رابتور" التابعة لأسطول البحر الأسود الروسي وخفر السواحل، القاعدة الروسية في طرطوس، إذ تجري الدوريات بشكل مستمر.
كما يسمح نظام التصوير الحراري الحديث للسفن بتنفيذ هذه المهمة. وتعتبر "رابتور" من أسرع قوارب القوات البحرية الروسية حيث تصل سرعتها إلى 50 عقدة ومزودة بأسلحة قوية.
قواعد الاشتباك
وتوجد قواعد عسكرية روسية في 10 دول في العالم، بما في ذلك أرمينيا وطاجيكستان وسوريا. وعلى وجه الخصوص، توجد في طرطوس "نقطة الدعم المادي والفني" للبحرية.
ولطالما حلمت روسيا تاريخيا في الوصول إلى "المياه الدافئة"، وهذا ما تحقق عبر قاعدة طرطوس، التي تعد منطقة الوجود الروسي الوحيدة في البحر المتوسط.
وبذلك منحت القاعدة الروس محطة ربط بين قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا، ما يعني وجودا لموسكو في قلب العالم.
وفي 30 سبتمبر/أيلول 2015، مكن التدخل العسكري الروسي لمنع سقوط بشار الأسد، ودعم قواته في استعادة مناطق شاسعة في سوريا، كانت بقبضة الفصائل المعارضة، من بناء موسكو إستراتيجية للبقاء الطويل في البلاد، وحماية مصالحها الجيوسياسية المستقبلية بالشرق الأوسط.
وفي عام 2017 وقعت روسيا مع النظام السوري عقد إيجار جديد طويل الأجل لقاعدة حميميم بريف محافظة اللاذقية المطلة على البحر المتوسط لمدة 49 عاما.
وتتمتع القاعدة بموقع متكامل وببنية تحتية متطورة، ويمكن بحسب وزارة الدفاع الروسية للجنود بداخلها الحياة لعدة أشهر من دون الحاجة إلى إمدادات من الخارج.
وتحولت قاعدة حميميم خلال ست سنوات إلى منطلق للطائرات الروسية، وتسببت بقتل الآلاف من المدنيين السوريين وتدمير كامل للبنى التحتية والمنازل، خاصة أن التدخل الروسي عسكريا في سوريا أظهر دور موسكو المخادع كـ"ضامن" لاتفاقيات خفض التصعيد المبرمة مع تركيا.
وفي أكثر من مناسبة، كرر بوتين قوله إن قاعدتي طرطوس وحميميم الروسيتين في سوريا، تشكلان عاملا مهما لحماية مصالح موسكو.
وكشف تأزم الموقف الروسي مع الغرب حول أوكرانيا، رغبة موسكو بإدخال قاعدتي حميميم وطرطوس في قواعد الاشتباك الدولي.
ويرى مراقبون أن لقاء شيوغو بالأسد، هو إعلان رسمي بأن سوريا باتت في خضم الصراع الروسي الغربي حول أوكرانيا، نظرا للعبها دورا في التأثير على معادلة الاشتباك بين موسكو وواشنطن عبر المتوسط.
استعراض القوة
ويرى الخبير العسكري والإستراتيجي السوري، فايز الأسمر، أن ترك وزير الدفاع الروسي جبهة ساخنة في أوكرانيا، تراقبها الولايات المتحدة ودول أوروبا وحلف "الناتو" ليحضر مناورات في طرطوس، "يعطي أهمية روسية للملف السوري".
وأضاف لـ "الاستقلال" أن "البوارج التي جاءت من أجل استعراض القوة، هي رسالة لواشنطن وللدول الغربية بأن روسيا تسيطر وتتحرك على أكثر من جبهة، أي جبهتي القرم وأوكرانيا، وكذلك إجراء مناورات في المتوسط بهدف تأمين كاريدورات جوية، والقضاء على الإنزالات الجوية أو الدفاع الساحلي، وضرب الغواصات بالسفن السطحية".
واستدرك قائلا: "هذا يبعث برسالة من روسيا بأنها دولة عظمى وتعمل في أكثر من بحر، ولا سيما مع وجود مناورات برية وبحرية مع بيلاروسيا بمشاركة آلاف الجنود الروس، فضلا عن مناورات في البلطيق والبحر الأسود".
ويتزامن توقيت المناورات في طرطوس، مع وجود مجموعة حاملات طائرات تابعة لحلف شمال الأطلسي في البحر المتوسط، مثل حاملة الطائرات الأميركية "هاري ترومان"، وكذلك حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول، والإيطالية "كونت إيدي كافور"، مع مجموعة سفن دعم ومدمرات.
وقرأ الخبير العسكري فايز الأسمر وجود حاملات الطائرات الروسية في طرطوس المشاركة في المناورات على أنه "رسالة تحد إلى تلك الدول".
ووصلت إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية في سوريا، في إطار هذه التدريبات البحرية، مقاتلات "ميغ 31 كا" وقاذفات "تو -22 إم3" التي تحمل صواريخ "الخنجر" التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
وتملك روسيا وسيلة مناسبة لإطلاق صواريخ "الخنجر" هي طائرة "ميغ-31"، التي تبقى الطائرة المقاتلة الاعتراضية بعيدة المدى الوحيدة في العالم.
وتزيد سرعة صاروخ "كينجال" على 5 ماخ (سرعة الصوت) ويستطيع صاروخ "كينجال" بفضل سرعته الهائلة أن يتخطى ببساطة جميع وسائط الدفاع الجوي الموجودة في حوزة حلف شمال الأطلسي، وفق الدفاع الروسية.
وفي هذا الإطار، أوضح العقيد فايز الأسمر أن أهمية صواريخ "الخنجر" وزجها في المناورات تنبع من "أن سرعة الصاروخ 5 ماخ أي 1700 متر في الثانية، أي 102 كيلومتر سرعته في الدقيقة، وفي الساعة 6120 كم، ويستطيع أن يصيب هدفا من مكان الإطلاق على بعد ألفي كيلومتر".
فضلا عن "كون الصاروخ يحمل ألف كيلو غرام من المتفجرات الحارقة، ويستطيع عندما يرمى هذا الصاروخ على قاعدة محصنة تحت الأرض بعشرة أمتار أن يدمرها تدميرا كاملا، وهو مخصص للتعامل مع المنشآت النووية أو مقرات القيادة والرصد العالمية"، وفق الخبير العسكري.
وذهب العقيد للقول: توجد رسائل من روسيا إلى الغرب بأن "سوريا حصتي"، منوها إلى أنه يخشى "أن يكون ما يجري في أوكرانيا فيه تنازل دولي عن الملف السوري وتعويم نظام الأسد في سبيل ذلك، لأن المعركة هي كسر عظام بين موسكو والناتو".
حرب صامتة
كثير من المراقبين اعتبروا أن زيارة شويغو تأتي ضمن مهمة عسكرية بتكليف من الرئيس فلاديمير بوتين، للإشراف على المناورات الموجهة للغرب تحمل مؤشرات كثيرة.
أولها، إبراز القدرات العسكرية الروسية، التي تتسق مع بحث موسكو عن ضمانات من "الناتو" بعدم الاقتراب من حدودها وبما يضمن الأمن القومي الروسي.
وأن هذه المناورات هي محاولة إثبات روسيا للغرب بأنها قوة كبيرة يجب أن يجري الاعتراف بها ضمن ضمانات مكتوبة.
كما أن ما يجري هو صراع على النفوذ بين روسيا والولايات المتحدة، إذ تحاول الأولى تعديل جغرافيته عبر وجودها في بيلاروسيا وكازاخستان ومحاولة الحصول على قاعدة عسكرية في السودان، وفق بعض التقديرات.
وفي الحالة السورية يعطي التحرك الروسي الجديد مؤشرا على أن حدوث أي صدام عسكري في أوكرانيا، سيجعل سوريا معنية بهذه الحرب، عبر مضايقة روسيا لإسرائيل من أجل ضغط الأخيرة على واشنطن.
بدوره، يرى الباحث في العلاقات الدولية، محمود إبراهيم، في حديث لـ "الاستقلال"، أن هدف المناورات الروسية في المتوسط في هذا التوقيت هو "رصد وتحليل وقياس ردات فعل الناتو جنوب مضيق البوسفور، إذ إنه يمكن وصف ما يحدث بأنه أشبه بحرب عالمية صامتة".
وأضاف أن "هناك هدفا غير مباشر هو تعزيز العمل في قاعدة سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم المحتلة من روسيا بقاعدة طرطوس".
والهدف من الربط بين القاعدتين هو تطويق خط العمليات الذي يصل اليونان بالبحر الأسود عبر تطويق مضيق البوسفور، ولا سيما أن الاتصال المائي بينهما هو عبر البوسفور، كما قال.
ومضى يقول: "إن العمليات الروسية التي تجري في أوكرانيا تحاول من خلالها تحويل البحر الأسود إلى بحيرة روسية من أجل تطويق مضيق البوسفور أيضا من الجهة الشمالية".
ولفت إلى أن "المضيق أساسا مطوق من الجنوب عبر قاعدة طرطوس الروسية، وهذا ما سيجعل تركيا في أزمة كبرى بعد عمليات أوكرانيا".
وسيفاستوبول هي إحدى مدن شبه جزيرة القرم المتنازع عليها بين موسكو وكييف، وحاليا هي مقر لأسطول البحر الأسود الروسي.