سياسات السيسي التمييزية.. كيف دفعت قطاع الإسمنت في مصر إلى الهاوية؟

أحمد يحيى | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

استخدمت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المختصة بشؤون الاستخبارات تعبير "الإهانة السياسية" تعليقا على دعاوى قضائية رفعتها شركات إسمنت أجنبية عاملة في مصر ضد الحكومة أمام التحكيم الدولي، بسبب سياسات الجيش التعسفية الذي يحتكر الصناعة، ويخلق منافسة غير عادلة في السوق. 

ومنذ وصول  عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة عام 2014، بعد انقلابه العسكري، عمد نظامه إلى تطبيق سياسات بدت ظاهريا نيوليبرالية قاسية ضربت الطبقات الوسطى والدنيا بصفة خاصة.

بينما سمحت تلك السياسات للعسكريين الممسكين بزمام الحكم ببسط سيطرتهم على الاقتصاد على نحو غير مسبوق، وتقييد النشاط المدني بكافة أنواعه اقتصاديا وسياسيا، ما أدى إلى حالة من عدم التكافؤ مع تغول العسكرة في كافة أشكال الحياة العامة. 

لكن تلك السياسة أثبتت فشلها أمام الشركات الأجنبية العاملة في السوق المصري، بموجب عقود موقعة مع الدولة، ولم تقبل هذه الشركات السياسة الاحتكارية للجيش في المشروعات الكبرى، مثل إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة.

لتبدأ في منهجية رفع الدعاوى الدولية، وحصد الغرامات الكبرى ضد الحكومة المصرية لاحقا، وبسببب تلك المسألة أصبح قطاع صناعة الإسمنت في مصر أمام خطر محدق من جميع الجوانب، وينذر سقوطه بعواقب اقتصادية وخيمة على البلاد.

وافتتح الجيش المصري قبل 3 سنوات مصنع بني سويف للإسمنت، الأكبر في مصر والشرق الأوسط، ويواصل هذا المصنع قلب أوضاع السوق بالبلاد، وألحق ضررا كبيرا بمنافسيه من القطاعين الخاص والعام، سيما مع تواصل تداعيات جائحة فيروس كورونا.

وتراجعت مبيعات الإسمنت السنوية في مصر إلى 41.7 ‬‬‬مليون طن في عام 2020‬‬‬، وفقا لإحصاءات البنك المركزي المصري. وبلغت المبيعات 49.5‬‬‬ مليون طن في 2017‬‬‬ وهو العام الأخير قبل تشغيل مصنع بني سويف. 

انتكاسة كبيرة 

وخلال العقدين الأخيرين، ضخت شركات إسمنت أجنبية عديدة استثمارات كبيرة في مصر بعد إطلاق البلاد مبادرة الخصخصة. ومن أبرز هذه الشركات "هايدلبرغ" الألمانية، و"فيكات" الفرنسية، و"لافارج هولسيم" السويسرية، لكنها حاليا لم تعد قادرة على مواكبة الاحتكار العسكري وتداعيات أزمة كورونا في آن واحد.

وكشفت "إنتيليجنس أونلاين" في تقريرها الصادر في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، أن "قطاع الإسمنت يعد جزءا مهما من المشروع الضخم للعاصمة الإدارية للسيسي، وتعرض القطاع الذي يهيمن عليه الجيش المصري لانتكاسة جديدة، بعد قرار مجموعة (هايدلبرغ) الألمانية للإسمنت تقديم طلب إجراءات تحكيم لدى محكمة التحكيم التابعة للبنك الدولي".

وذكرت أن "مجموعة هايدلبرغ سجلت طلبا لإجراءات التحكيم مع المركز الدولي لتسوية منازعات المستثمرين ضد الدولة المصرية، الأمر الذي يشكل ضربة أخرى لصناعة الإسمنت المصرية التي هزها بالفعل إجراء شبيه لجأت إليه شركة (فيكات) الفرنسية للإسمنت في يوليو/ تموز 2021". 

وأضافت: "بالنسبة للقاهرة، يعتبر هذا التحدي القضائي الجديد إهانة سياسية، فشركة هايدلبرغ منخرطة بشكل كبير في المشاريع الضخمة التي يديرها الجيش المصري، مثل مشروع القاهرة الجديدة، حيث تعمل مع مجموعة طلعت مصطفى القابضة المطورة للعقارات".

ثم أوردت أن "الجيش المصري يسيطر على قطاع الإسمنت، ويساهم في خلق منافسة غير عادلة، حتى أن الشركات الأوروبية باتت تفضل رفع دعوى قضائية بعد فشلها في تسوية نزاعاتها عبر القنوات الدبلوماسية".

ولفتت إلى أنه "قد ثبت في قضية (Vicat) أن دعم الحكومة الفرنسية عديم الجدوى، لذا فضلت الدولة البقاء في وضع جيد مع نظام السيسي". 

 ودخلت هايدلبرغ الألمانية إلى السوق المصري عام 2016، عقب شرائها شركة (إيتالسيمنتي) الإيطالية، التي كانت مساهما في شركة "السويس للإسمنت" بعد أن بدأت الدولة المصرية خصخصتها عام 2001.

وواصلت هايدلبرغ والشركات الأذرع التابعة لها شراء المزيد من الأسهم في "السويس للإسمنت"، حتى امتلاكها بشكل كامل بعد شراء آخر حصة بلغت نسبتها 33 بالمئة بعد موافقة الهيئة المالية المصرية المختصة.

وكانت تمتلك "السويس للإسمنت" 4 مصانع، في السويس والقطامية وحلوان وطره، وانتقلت جميها للمجموعة الألمانية.

غير أن هايدلبرغ باتت تعاني من تدخلات الجيش المصري، واحتكاره للقطاع، لكنها لم تنصع كما فعلت شركات ومصانع الإسمنت الوطنية المصرية، التي أغلقت سابقا تحت رحمة الأمر العسكري، بل لجأت إلى التحكيم الدولي، لكبح جماح شركات الجيش المسيطرة على السوق.

الجيش والإسمنت 

وبالعودة إلى المسارات التي قطعها السيسي حتى يدين له قطاع الإسمنت والبناء في مصر تحت مظلة الجيش، يتضح أنه قد وجه ضربات محكمة للمستثمرين الوطنيين، أبناء القطاع المدني. 

ففي 17 مايو/أيار 2018، أغلقت الشركة القومية للإسمنت أبوابها بسبب خسائر قدرت بـ971.3 مليون جنيه (نحو 62 مليون دولار) للسنة المالية 2017، نتيجة دخول الجيش بثقله إلى السوق، ما حطم آمال المنافسة. 

بعدها جاءت الضربة الأثقل والأكثر حسما في 15 أغسطس/آب 2018، مع افتتاح السيسي مصنع إسمنت بني سويف (عسكري)، الذي تبلغ قدرته الإنتاجية 12.8 مليون طن سنويا، وقد قلب أوضاع سوق الإسمنت بالبلاد لصالح الجيش فقط، وضد جميع المستثمرين والشركات الأخرى، بما فيها الأجنبية. 

حينها وجه تقرير لموقع "لوريان 21" الفرنسي انتقادات حادة للنظام المصري ورئيسه، بسبب هذا التوغل غير المحسوب من المؤسسة العسكرية على ذلك القطاع الحيوي. 

وذكر التقرير الصادر في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 أن "السيسي افتتح أكبر مصنع إسمنت بالعالم يخضع لسيطرة العسكريين"، وأضاف: "يبدو أنه لم يعد هدف عمليات التأميم في مصر، في ظل حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، تحقيق الاكتفاء الذاتي، بل تمكين كبار الضباط من بسط سيطرتهم على الاقتصاد وتحديدا قطاع الإسمنت". 

وأضاف الموقع الفرنسي: "أن ذلك المصنع قلب أوضاع سوق الإسمنت بالبلاد، بعد أن رفع الجيش كمية الإنتاج بمقدار 4 ملايين طن سنويا مما جعل إنتاجه الإجمالي يصل 22 مليونا، ملحقا بذلك الضرر الكبير بمنافسيه من القطاعين الخاص والعام، ما أدى إلى اختفاء مؤسسة صناعية كبرى تابعة للدولة". 

تبعات كارثية 

وأكد على ذلك بنك "سي أل كابيتال" في تقريره عن أوضاع قطاع الإسمنت المصري لعام 2018، عندما أورد أن الجيش أصبح المنتج الأول للإسمنت في مصر، في حين ستشهد السوق تقلبات شديدة لسنوات قادمة.

وأوضح أن الشركات تعاني من هذا الوضع، لا سيما الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات.

وأضاف أنه "سواء أكانت من القطاع العام أم الخاص، مصرية أم أجنبية، فإن الشركات تأثرت كلها سلبا، فهي محاصرة بين سوق محلية راكدة تشتري بأرخص الأسعار ومنتج كبير بالزي العسكري يستفيد من امتيازات جمة"

وفي 3 يونيو/ حزيران 2020، نشر مركز "مالكوم كير-كارنيغي" لدراسات الشرق الأوسط تقريرا عن "مسارات الهيمنة للشركات العسكرية المصرية"، شرح فيه آلية استخدام الشركات العسكرية المصرية للامتيازات المؤسسية الممنوحة لها للسيطرة على الاقتصاد.

وعن أسباب ذلك التوغل، أرجع التقرير الذي كتبته زينب أبو المجد، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في كلية أوبرلين الأمريكية، إلى أن الجيش المصري وسع مشاريعه الاقتصادية المدنية، بداية من عام 1992، لمنع تمرد محتمل للضباط، بعد أن لم تعد الدولة قادرة على الحفاظ على صناعة أسلحة كبيرة من دون استثمار رأسمالي مستدام. 

وذكر أنه مع وصول السيسي إلى السلطة عام 2013، كانت القوات المسلحة المصرية تمتلك شركات في كل قطاع تقريبا، خاصة مرافق تصنيع إنتاج الإسمنت والصلب والمركبات.

ولفت التقرير إلى أنه في سبيل تنفيذ سياساته الاقتصادية التوسعية بأذرع عسكرية، استعان السيسي بضباط متقاعدين على نطاق أكبر.

وعن تداعيات تلك السياسة عموما بما فيها صناعة الإسمنت المنتكسة، أوضح أن إدارة المشاريع العسكرية المصرية مشتتة للغاية، ويديرها ضباط من دون خبرة فنية، وغالبا ما يكون المجندون عمالة غير ماهرة وذات أجور منخفضة. 

وكان كتاب "ثلاثية الشر في مصر: الاحتكار، مافيا التجار، صندوق النقد الدولي"، للباحث حمدي الجمل، الصادر عام 2017 قد ذكر أن "الجيش يحتكر 65% من صناعة الإسمنت في مصر، ويسيطر على البقية الباقية بطريقة أو بأخرى، مما قضى على سائر أنواع المنافسة أو التطوير بالتبعية".