على نهر السين.. كيف فضحت دماء الجزائريين تاريخ فرنسا الوحشي؟

أحمد يحيى | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

قبل 60 عاما وعلى ضفاف نهر السين بالعاصمة باريس، ارتكبت فرنسا واحدة من أبشع الجرائم الوحشية بحق الجالية الجزائرية المسلمة على أراضيها.

ففي أكتوبر/ تشرين الأول 1961، قتلت قوات الأمن الفرنسية وأعدمت عشرات الجزائريين الذين خرجوا في مظاهرات مطالبين بحقوقهم واحتجاجا على أوضاعهم الإنسانية المتردية.

بقيت المجزرة طي الكتمان من الحكومات الفرنسية المتعاقبة، وظلت حاضرة في مخيلة الشعب الجزائري، وأبناء وأحفاد الضحايا الذين ألقيت جثثهم في مجرى النهر، أمام شواهد عاصمة الحضارة والنور التي يروج لها الفرنسيون.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حاول على استحياء اختراق ملف الواقعة الدموية، عندما أقر في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2021، كأول زعيم لذلك البلد بالحادثة، وإن لم يقدم اعتذارا، حيث يخشى الإليزيه فتح تحقيق مفصل عن الواقعة. 

موقف ماكرون أثار العديد من التساؤلات عن كواليس المذبحة، ونتائج اعتراف ماكرون بها.

تاريخ دموي

عندما اندلعت ثورة التحرير الجزائرية عام 1954 ضد المحتل الفرنسي، وشارك فيها الشعب بمختلف فئاته، في واحدة من أعنف وأشرس حروب التحرير خلال القرن الماضي، لم يغب الجزائريون في المهجر وفرنسا تحديدا عن المشاركة في طلائع التحرير، ومحاولة الضغط على الحكومة الفرنسية لتخفيف القمع والقبضة الدموية ضد الشعب الجزائري. 

وفي سياق تلك الحالة، شهد 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961، أكبر مظاهرة جزائرية سلمية، مؤيدة للثورة، ومطالبة بالحريات والحقوق لأهل الجزائر في الداخل والخارج.

 وشارك في المظاهرة نحو 65 ألف جزائري، توافدوا على ضفاف نهر السين بالعاصمة الفرنسية باريس. 

كان رئيس شرطة باريس آنذاك هو موريس بابون، ذو السمعة السيئة، وهو ضابط فرنسي، انتمى سابقا إلى نظام "فيشي" المتعاون مع الاحتلال النازي الألماني، خلال الحرب العالمية الثانية.

وبابون الذي اشتهر بوحشيته ونزعته اللا إنسانية، قاد فرق الموت التي سحقت المظاهرات بلا هوادة، وبأمر مباشر منه. 

في ذلك اليوم خرج آلاف الجزائريين من الأحياء العشوائية إلى الشوارع وسط باريس، وفيهم النساء والأطفال، استجابة لنداء جبهة التحرير الوطني، على الرغم من منع السلطات الفرنسية، التي يبدو أنها أعطت التعليمات إلى أجهزة الأمن بقمع المتظاهرين بكل الوسائل.

وقد أشارت الوثائق الرسمية وروايات شهود العيان في قسم شرطة باريس إلى أن مذبحة 1961 كانت موجهة من قبل بابون نفسه.

وورد في سجلات الشرطة أن بابون دعا الضباط في أحد المراكز إلى الإبادة والتدمير أثناء قمع المظاهرات، مؤكدا لهم ضمان الحماية من الملاحقة إذا شاركوا.

وبالفعل نزلت كتائب الشرطة الفرنسية، مدعومة بمنظمة "الجيش السري"، وأعملت الضرب والقتل والاعتقال في المتظاهرين الجزائريين.

إذ قتلت المئات منهم عمدا في الشوارع ومحطات مترو الأنفاق، وألقت بعدد من المصابين من الجسور في نهر السين، ما أدى إلى مقتلهم جميعا، إضافة إلى اعتقال قرابة 11 ألف شخص، وهو ما بات يعرف بعد ذلك بمجزرة "باريس عام 1961".

شهادات مفزعة 

في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أدلى الجزائري، رابح ساحيلي أحد المشاركين في تظاهرة 1961 في باريس، بشهادته لوكالة الأنباء الفرنسية، وقال إن "وحشية رجال الشرطة والدرك كانت مروعة".

ويسرد ذكرياته بحزن عن ذلك اليوم الذي قتل فيه الجزائريون في قمع وصفه بأنه "صفحة من أحلك الصفحات في تاريخ فرنسا".

وأردف: "انقضت عناصر الأمن الفرنسية على المتظاهرين السلميين، لتقمعهم بشتى السبل، فضربت المتظاهرين السلميين بعنف، ثم أعدمت قوات الأمن بـ(عاصمة الأنوار) الباريسية بعضهم، وألقت جثثهم في قنوات المياه القذرة وفي مجرى نهر السين". 

وأضاف: "خلال الاعتقالات رأيت نحو عشرين شخصا ينزفون دما على الأرض بالقرب من ساحة النجمة، وكان عدد رجال الشرطة كبيرا جدا، ويتصرفون مثل الوحوش الشرسة".

كما أورد موقع "بي بي سي" البريطاني، شهادة الكاتب الجزائري، عبد القادر ذهبي، الذي قال: إن "أجهزة الأمن الفرنسية، بقيادة موريس بابون كانت تعرف أن أغلب الجزائريين في فرنسا كانوا يناضلون، طوعا أو كرها، في صفوف جبهة التحرير الوطني، ولم يكونوا وقتها يسمون مهاجرين".

فهم كانوا فرنسيين بالنسبة للسلطات الفرنسية، وعلى هذا الأساس فرض عليهم وحدهم حظر للتجول، وفق ذهبي.

وأورد أن هذا "الحظر العنصري هو الذي دفع بالجزائريين إلى تحديه بالمسيرات السلمية، ولكن الواقع أن ما حدث هو فخ نصبته لهم الشرطة، لكي ترهب الجزائريين بقمع وحشي لم تقم به النازية، إذ قتل نحو 450 جزائريا، حسب شهادة بعض من عاصروا الأحداث وشاهدوها".

أما المؤرخ الفرنسي جاك لوك إينودي، فكان أول من أماط اللثام عن دور الشرطة الفرنسية في الأحداث، وأثار تساؤلات عديدة بشأن "التغييب الرسمي" لهذه الأحداث في وسائل الإعلام والجامعات والكتب التاريخية.

يرى إينودي أن السلطات الفرنسية والمسؤولين عن الأحداث تحديدا، مثل مدير الشرطة، موريس بابون، ورئيس الوزراء ميشيل دوبري، ووزير الداخلية روجي فراي في ذلك الوقت، سعوا إلى فرض الصمت بشأن القضية.

ويتابع: "لذلك سقطت جميع التحقيقات القضائية التي فتحت وقتها، وعددها نحو 60 تحقيقا، كما منع الصحفيون من زيارة المراكز التي كان يحتجز فيها الجزائريون".

ويصف المؤرخان البريطانيان جيم هاوس ونيل ماكماستر، هذه الواقعة الدموية باعتبارها "القمع الأكثر عنفا الذي مارسته دولة معاصرة على احتجاجات الشارع في تاريخ أوروبا الغربية".

ماكرون والمذبحة 

يعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أول رئيس للجمهورية يحضر مراسم تأبين الضحايا، وفي 16 أكتوبر/ تشرين الثاني 2021، وقف دقيقة صمت عند جسر بيزونز على نهر السين في ضواحي باريس حيث بدأت الاحتجاجات، وانطلقت أول شرارة لأعمال القتل ضد المجتمع الجزائري في فرنسا.

وأدان ماكرون، خلال الوقفة، حملة القمع المميتة التي شنتها شرطة باريس على احتجاج الجزائريين عام 1961، وكانت هذه الأحداث ممنوعة من التداول في فرنسا على مدار عقود طويلة. 

ووصف ماكرون عمل الشرطة في تلك الليلة بأنه لا يغتفر، ومع ذلك الإقرار والإدانة، فإنه لم يقدم أي اعتذار أو اتخاذ موقف رسمي يرقى إلى درجة رد الاعتبار.

فمع اعترافه بمقتل العشرات من المتظاهرين وإلقاء جثثهم في نهر السين، أغفل فتح تحقيقات واسعة والاستماع الحكومي إلى شهادات الناجين من المجزرة. 

ودخل ماكرون في أزمة سياسية مع الجزائر مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2021، عندما اتهم السلطات الجزائرية بأنها "تكن ضغينة لفرنسا"، وطعن في وجود أمة جزائرية قبل استعمار بلاده للجزائر، الذي بدأ عام 1830، وانتهى بالتحرير عام 1962.

وردت الرئاسة الجزائرية، في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول، بإعلان استدعاء سفيرها لدى باريس "محمد عنتر داود" للتشاور، احتجاجا على هذه التصريحات، التي قالت إنها "مسيئة" وتمثل "مساسا غير مقبول" بذاكرة أكثر من 5 ملايين مقاوم قتلهم الاستعمار الفرنسي.

وفي هذا إشارة إلى التاريخ الدموي العريض لفرنسا في الجزائر، وما كانت حادثة 1961، إلا صفحة في كتاب أسود من القمع الوحشي للفرنسيين ضد الجزائريين. 

واقع أليم 

المحامي الجزائري، لطفي بوشاشي، أحد أفراد الجالية الجزائرية بفرنسا يؤكد أن "مجزرة باريس، أو مذبحة 1961، صفحة سوداء في التاريخ الفرنسي، وذكرى أليمة للشعب الجزائري لا تسقط بالتقادم".

وتابع في حديث لـ"الاستقلال" أن "مئات الآلاف من الجزائريين في فرنسا يحرصون على إحياء ذلك اليوم كل عام، مطالبين الحكومة الفرنسية بالاعتراف الكامل بالمذبحة وتقديم اعتذار رسمي".

وبين أن تلك العائلات "تطالب بصرف تعويضات مستحقة لأسر وعائلات الضحايا، على غرار ما حدث للعائلات اليهودية التي اضطهدت وأخرجت من فرنسا إبان الغزو الألماني، وقيام حكومة (فيشي) الفرنسية المتعاونة مع الاستعمار بالتنكيل بهم، فهل هناك فارق بين اليهود والمسلمين الجزائريين، على الصعيد الإنساني؟!".

وأضاف: "خطوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالاعتراف بالمذبحة، والمشاركة في ذكراها والوقوف دقيقة حداد على الأرواح، متقدمة وجيدة في إدارة هذا الملف الشائك والحرج، ولكنها لا تكفي ولا تعبر عن حجم الفاجعة، خاصة وأن سجلات الشرطة الفرنسية تؤكد دون أدلة مقتل قرابة 40 إنسانا".

بينما الحقيقة وشهود الواقعة والمنظمات الحقوقية الجزائرية التي عملت لسنوات طويلة في الملف، وثقت مقتل قرابة 800 مواطن، وهو عدد كبير لا يمكن تجاوزه، أو اعتباره حادثة عادية، يمكن أن تمر مرور الكرام، وفق قوله.

واستطرد: أن "وضع الجالية الجزائرية لا يقف على مذبحة باريس، بل هي مقدمة لتاريخ هذه الفئة العريضة في المجتمع الفرنسي، وهم مجرد نتاج لحقبة استعمارية طويلة ومأساوية، دفع الجزائر ثمنها بأكثر من مليون شهيد".

ويتابع: "أما جزائريو المهجر فما زالوا عرضة للتهميش والعنصرية، خاصة من أحزاب اليمين المتطرف، التي تسعى للوصول إلى الحكم تحت ذريعة التخويف من المهاجرين والأقليات، ويتغافلون عن حقوقهم والمجازر التي تعرضوا لها".

وواصل: "لذلك فإننا نناضل اليوم في هذه القضية، حتى يعيش أبناؤنا في سلام وأمان مستقبلا".

واختتم: "ستظل مذبحة باريس، حاضرة في المحاكم الإدارية والمحكمة الجنائية الفرنسية، وسيستمر العمل عليها في المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية في فرنسا، حتى تعتذر عنها الحكومة الأم، وتقدم تعويضات مادية واعتبارية مناسبة لأهالي الضحايا".