رغم زعمه احترام المحاكم.. هكذا نصّب السيسي نفسه "قاضي قضاة" مصر
على مدار سنوات طويلة، تعاني المؤسسة القضائية في مصر من انعدام الاستقلالية، وتدخل السلطة الحاكمة في مساراتها وتوجيهها، بالترهيب والترغيب، وفق إرادة الحاكم.
ومنذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز 2013، استفحلت الحالة من محاولات الاستقلال والإصلاح إلى "الانسحاق الكامل" أمام "تشكيلة" النظام الجديد بقيادة عبدالفتاح السيسي الذي تحول من وزير دفاع عقب انقلابه إلى رئيس منفرد بالدولة.
ومنذ تلك اللحظة، أخضع رئيس النظام الجديد كل شيء لإرادته وسياسته، وتحديدا المؤسسة القضائية، التي أصبحت رهن إشارته عبر قضاة تابعين وأحكام مسيسة، استخدم فيها النظام كل أدواته وأساليبه.
ووفق مؤسسات حقوقية دولية ومؤشرات رقابية على مدى نزاهة القضاء داخل الدول، فإن القضاء المصري "في أدنى الترتيب".
قاضي القضاة
خلال حضوره احتفالية عيد القضاء في مصر، في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وأمام جموع القضاة ووسائل الإعلام، ألقى السيسي بخطابه الذي أثار جدلا عارما على مواقع التواصل الاجتماعي.
وقال السيسي: "أنا مش بعيد عنكم، ولي الشرف أن شقيقي ضمن أعضاء القضاء"، في إشارة إلى المستشار أحمد السيسي.
ثم ذهب إلى النقطة الأكثر سجالا عندما أورد: "لما توليت المسؤولية كان ده امتداد لفهم واعتقاد أنا عشت عليه، احترام القضاء واستقلاله وعدم التدخل في شؤونه، ده كلام مش بنقوله في إطار السياسة، لا".
وتابع: "أنا لا أتدخل أبدا في عمل القضاء، وأنتم مش هتسمحولي أتدخل، وأنا احترم ده".
وما بين أبعاد الاحتفالية والكلمة، يلقى الضوء على حال المؤسسة القضائية خلال فترة حكم السيسي، المبنية في الأساس على انقلاب عسكري في 3 يوليو/تموز 2013، أطاح بكل مكتسبات "ثورة 25 يناير" (2011) الديمقراطية، وأدخل البلاد في أشد حقب الدولة الأحادية البوليسية.
وجاء الاحتفال بعيد القضاء -حسب وسائل إعلام محلية- بناء على قرار من السيسي، خلال اجتماع المجلس الأعلى للهيئات القضائية في 2 يونيو/حزيران 2021، بحضور وزير العدل، ورؤساء الهيئات، ويقضي القرار باعتبار 1 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام "يوما للقضاء المصري".
أما حديث رئيس النظام فقد "نكأ الجرح" ودفع الناشطين إلى التغريد، منهم السياسي حسام جبر، قائلا، "السيسي: أنا لست بعيدا عن القضاء.. شقيقي قاض وعرفت منه الدور والمكانة ومسار العدالة في مصر.. والله ما فقدت مصر عدالتها إلا في وجود أمثالك أنت وأخوك والمنتفعون معكم".
السيسي: أنا لست بعيدا عن القضاء.. شقيقي قاض وعرفت منه الدور والمكانة ومسار العدالة في مصر
— د. حسام فوزي جبر (@HOSAM_MOKBEL) October 2, 2021
والله ما فقدت مصر عدالتها إلا في وجود أمثالك أنت وأخوك والمنتفعون معكم
بدوره، غرد حساب باسم "يوسف": "العجيب أن عبد الفتاح الذي يقسم أنه لا يتدخل في عمل القضاء، ويحترم استقلال القضاء، هو نفسه الذي غير قانون تعيين رؤساء السلطة القضائية، ونسف استقلال القضاء وأصبح هو من يختار بعدما كان دوره في القانون القديم التصديق فقط.. الناس دي بتكدب وتصدق نفسها".
العجيب ان عبد الفتاح اللي بيقسم انه لا يتدخل في عمل القضاء وبيحترم استقلال القضاء هو نفسه اللي غير قانون تعيين رؤساء السلطة القضائية اللي نسف استقلال القضاء واصبح هو اللي بيختار بعد ما كان دوره في القانون القديم التصديق فقط ..
— youssef (@YOUSSEF12965885) October 2, 2021
الناس دي بتكدب وبتصدق نفسها...#السيسى
دساتير مفصلة
لم يأل السيسي جهدا في تدشين عقد جديد بين رئيس الجمهورية والقضاء بعمومه وشموله وأدق تفاصيله، وبناء عليه أذيبت كل الفواصل والفوارق بين السلطات، لا سيما التنفيذية والقضائية.
وهو ما تجلى في استفتاء أبريل/نيسان 2019، الذي أقر تعديلات دستورية أعطت رئيس الجمهورية صلاحيات غير مسبوقة، بتعيين مسؤولي الهيئات القضائية بين أقدم سبعة قضاة لكل هيئة.
وبالفعل بعدها بأشهر معدودة في يوليو/تموز 2019، أقدم السيسي على تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا (أعلى هيئة قضائية في البلاد)، ورئيس محكمة النقض، ورئيس هيئة النيابة الإدارية.
وهي سلسلة التعيينات القضائية التي أثارت الحفيظة حول استقلالية القضاء، في دولة تتعرض لانتقادات بشأن الأداء القضائي واستقلاليته من منظمات حقوق الإنسان.
وبالفعل، أصدرت حينها منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية، بيانا قالت فيه إن "المواد المعدلة تمنح الرئيس صلاحيات إشراف واسعة، وهي غير خاضعة للرقابة على السلطة القضائية والنيابة العامة، في تعارض مع المبادئ الأساسية لسيادة القانون المتعلقة بفصل السلطات، واستقلالية القضاء، والحق في المحاكمة العادلة".
سيطرة بالرعب
أرعبت المنظومة الأمنية والاستخباراتية للسيسي، معظم أعضاء وعناصر السلطة القضائية في مصر.
وفي إطار سعي السيسي إلى تلك الهيمنة، استخدم سلاحا متداولا في يد السلطة، عبر إثارة العديد من قضايا الفساد التي لاحقت القضاة وأعضاء النيابة.
كان أبرزها في يناير/كانون الثاني 2016، عندما ضبطت هيئة الرقابة الإدارية (مصطفى نجل عبد الفتاح السيسي من أبرز قياداتها)، مدير مشتريات مجلس الدولة جمال اللبان، وبحوزته مبالغ مالية كبيرة، قدرت بـ24 مليون جنيه مصري، و4 ملايين دولار، ومليوني يورو، في واحدة من أكبر قضايا الفساد القضائي، التي هددت قيادات السلك القضائي بالكامل.
ولم يخل الأمر من إجراءات انتقامية بحق بعض القضاة، حدث هذا مع القاضي شريف حافظ (من أنصار تيار استقلال القضاء)، بعد تخفيفه حكما في قضية محلية، الأمر الذي أغضب قادة الانقلاب، ووضع تحت النظر، حتى تم اتهامه في قضية رشوة جنسية في يونيو/حزيران 2016، ورفعت عنه الحصانة القضائية، وأحيل لمجلس التأديب.
لكن تم الحكم ببراءة حافظ في يوليو/تموز 2016، بعد أن أصيب في سمعته.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، كانت المنظومة القضائية على موعد مع قضية فساد شغلت الرأي العام، حيث تم القبض على المستشار طارق محمد زكي مصطفى (رئيس محكمة جنح مستأنف ديرب نجم بمحافظة الشرقية)، بعد أن اكتشفت كميات من الحشيش داخل سيارته، وكان برفقته طالبة وسائق، في أحد الأمكنة بمحافظة السويس.
ولعل هذه القضية أثارت حفيظة القضاة، من خطورة "تشويه السمعة"، والكشف عن قضايا مماثلة، ما جعل معظمهم ينأى عن الدخول في معارك مباشرة مع السلطة، وهو ما حدث في صراع تعديلات قانون السلطة القضائية، والحكم في مصرية جزيرتي تيران وصنافير.
خدم العسكر
لم يكن غريبا أن يشيد السيسي في احتفاليته بأول عيد للقضاء المصري، برئيس المحكمة الدستورية العليا السابق، المستشار عدلي منصور، الذي وضعه العسكر في منصب رئاسة الجمهورية، عقب الإطاحة بالرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي.
السيسي الذي قال: "قيادة منصور للدولة كانت في وقت من أصعب الأوقات التي مرت على مصر"، تجاهل أن منصور لم يكن إلا أداة في يده استخدمت على مدار 11 شهرا، شهدت عدة مجازر ضد المعارضين أبرزها مذبحة رابعة والنهضة كما شهدت توسعا غير مسبوق في الإجراءات القمعية شملت اعتقال آلاف المواطنين ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم.
وتم حل أغلب الأحزاب السياسية والجمعيات الخيرية والمدنية وإغلاق صحف وفضائيات، ووقع على هذه القرارات المستشار منصور بصفته رئيسا، ونفذها السيسي بوصفه وزير الدفاع وقائد الانقلاب.
وفي 25 سبتمبر/ أيلول 2013، أصدر منصور "قانون الحبس الاحتياطي المفتوح" الذي "سيس" منظومة النيابة العامة والقضاء ككل، ومدد الاعتقالات بلا محاكمة.
كما أصدر "قانون (تنظيم – منع) التظاهر" في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، الذي يقيد الحق في التظاهر إلى أبعد الحدود ويضع عقوبات مغلظة على المخالفين، ويسمح للشرطة بالتعامل مع المتظاهرين بكل الوسائل بما فيها الرصاص الحي.
وفي هذا الإطار، توحدت وتوحشت السلطة القضائية تماما، مع منظومة السيسي، وفق حقوقيين.
ومن أبرز مخرجات هذه الوحدة ما حدث في ديسمبر/كانون الأول 2013، عندما قررت محكمة جنايات القاهرة تشكيل 6 دوائر متعلقة بالإرهاب، 4 دوائر منها في القاهرة، و2 في الجيزة، ومع الوقت تم استحداث دائرة جديدة وهي الدائرة (11 إرهاب) برئاسة المستشار محمد شيرين فهمي، ليصبح إجمالي عدد الدوائر 7.
كما أنشأت محكمة الاستئناف بعض دوائر الإرهاب من محاكم الجنح في القاهرة والمحافظات، وتعقد جميع جلسات دوائر الإرهاب في معهد أمناء الشرطة بطرة، وفي أكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس، في القاهرة.
تلك الدوائر تحديدا هي التي نظرت معظم القضايا السياسية الكبرى، ومن خلالها صدرت أحكام هائلة بالإعدام غير مسبوقة في تاريخ مصر، كلها كانت بمعزل عن قضاء مستقل نزيه.
وفي 20 أغسطس/ آب 2014، نشرت مؤسسة "مالكوم كير -كارنيغي للشرق الأوسط"، ورقة عن السلطة القضائية في مصر، للباحثة سحر عزيز، بعنوان "القضاء المصري تحت السيطرة"، قالت فيها: "تسببت الجهود المستمرة التي تبذلها السلطة التنفيذية لإحباط القضاة المستقلين ومعاقبتهم بإضعاف القضاء والسيطرة عليه".
وأضافت: "عندما أصدرت المحاكم المصرية حكما بالإعدام بحق ألف مدعى عليه في ربيع 2014، وعندما تمت تبرئة الرئيس المصري السابق حسني مبارك من انتهاكات حقوق الإنسان رغم التعذيب الموثق على امتداد عقود عدة، وهكذا طرحت تساؤلات جدية عن استقلال القضاء".
وختمت عزيز بحثها بالقول: "على ضوء الأدوات المختلفة المستعملة من أجل كبح استقلال القضاء، ليس مفاجئا أن أقساما من السلطة القضائية تتعاون في حملة القمع التي تستهدف حاليا المعارضين السياسيين، فالمناخ السياسي الراهن يفرض ثمنا باهظا جدا على القضاة الذين يجرؤون على تحدي المصالح الأساسية للسلطة التنفيذية".