الإسلام في تشيلي.. تعرف على سر انتشاره الواسع بين الأوساط الشعبية
رغم بعدها جغرافيا، غدت تشيلي الواقعة في أميركا الجنوبية، ويقارب تعدادها السكاني 20 مليون نسمة، من المواطن التي يشار إليها كمركز للإسلام والمسلمين في القارة اللاتينية، حيث شهد الوجود الإسلامي فيها حضورا ملحوظا، بحسب تقارير وأبحاث راصدة للجاليات هناك.
والمجتمع المسلم النشط في تشيلي، يتمركز بشكل كبير في العاصمة سانتياغو، لكن في ربوع البلاد توجد مساجد ومراكز متعددة تستقبل المسلمين والراغبين في التعرف على الدين الحنيف.
ورغم اختلافات القومية والاتجاهات داخل الجاليات الإسلامية، إلا أنهم وحدوا جهودهم؛ لإرساء حجر الأساس للإسلام في تشيلي، التي غدت نموذجا يحتذى لبقية المجتمعات الإسلامية في دول أميركا الجنوبية.
حاضنة للمسلمين
نشر موقع "ذا كونفرزيشن" الأسترالي، في 19 سبتمبر/ أيلول 2021، مقالة لباحثين اثنين متخصصين في علوم الشرق الأوسط، رصدا بوضوح ظاهرة تنامي عدد المسلمين في الدولة اللاتينية وزيادة تأثيرهم من خلال عدد من الأنشطة الدينية والاجتماعية.
وخصا بالذكر تشيلي، عندما وصفوها بأنها "أصبحت واحدة من أكثر الدول ازدهارا واستقرار في أميركا الجنوبية، وجزءا من العالم الإسلامي الآخذ في التوسع".
وذكر الموقع الأسترالي أن نحو 5 آلاف شخص يعتنقون الإسلام في تشيلي، يعيش أغلبهم بالعاصمة سانتياغو، ومدينة إكيكي.
وهناك عدد من المنظمات الإسلامية في تشيلي، القائمة على خدمة المجتمع المسلم منها "الجمعية الإسلامية" و"مسجد السلام" في سانتياغو، و"مسجد بلال" في إيكيكي، و"مركز محمد السادس الثقافي" في مدينة كوكيمبو.
المسلمون في تشيلي لم ينفردوا بأنفسهم بل انخرطوا بشكل كبير في المجتمع العام، وقاموا بأعمال خيرية، ونظموا احتفالات وفعاليات مرتبطة بالدين الإسلامي في المساجد لاسيما بسانتياغو.
وأشار الموقع إلى أن زيادة عدد المسلمين، نتيجة اعتناق غير المسلمين من شعب تشيلي للدين الإسلامي.
بدايات الإسلام
حسب المؤرخ الإسباني أوريليو دياز ميزا، فإن قصة الإسلام بدأت في تشيلي، حينما قدم المستكشف دييغو دي ألماغرو، وهو من أبناء الموريسكيين المسلمين الذين اضطهدوا بإسبانيا عقب سقوط الأندلس، حيث هاجر لأميركا الجنوبية رفقة عدد من المسلمين، وأصبح من الذين أثروا في بناء الحضارة التشيلية، لكن الوجود الإسلامي سرعان ما تلاشى مع الزمن.
وانعكست تأثيرات الحضارة الإسلامية القائمة في الأندلس، على الحضارة والبناء والثقافة الإسلامية في تشيلي، وعام 1856 عاد الإسلام مجددا إلى تشيلي، بوصول المهاجرين العرب من سوريا ولبنان وفلسطين، الذين أسسوا "اتحاد المجتمع المسلم".
أما عام 1926 شهد تأسيس "المراكز الإسلامية"، وهي المؤسسة التي استمرت مظلة رسمية للمسلمين حتى الآن، وفي عام 1989 أثمرت جهود المجتمع المسلم في سانتياغو عن وضع حجر الأساس لمسجد السلام الذي يتسع لنحو 1500 مصل.
وينظم هذا المسجد، المتميز بمئذنته العالية ومكبرات الصوت التي تصدح بالأذان، نشاطات عامة عدة، وله علاقات رسمية بالدولة التشيلية ومؤسسة الرئاسة.
لماذا تشيلي؟
وقال الباحث في شؤون أميركا اللاتينية، عمار مطاوع: "المسلمون والعرب في تشيلي لهم حضور فاعل وقوي، ويمثل الفلسطينيون وحدهم هناك قرابة 2 بالمئة من إجمالي السكان، وهذا عدد كبير نسبيا لجالية مسلمة في تلك الدولة".
وأوضح في حديث مع "الاستقلال" أنه "بنظرة أوسع فإن التمركز الإسلامي في لاتينا (أميركا الجنوبية) مقسم جغرافيا، اللبنانيون في البرازيل، والفلسطينيون في تشيلي".
وأرجع مطاوع سبب هذا التقسيم إلى أن "الفلسطينيين جاؤوا إلى لاتينا بعد اللبنانيين بعدة سنوات، فاختاروا التمركز في تشيلي هربا من مزاحمة اللبنانيين في البرازيل، كما أن الوضع الاقتصادي القوي نسبيا لتشيلي أغراهم بالاستقرار هناك".
وذكر أن "السبب الآخر لنشاط المسلمين هناك هو سياسي، بسبب سيطرة اليسار التشيلي لفترة طويلة على البلاد، وتضامنه مع الحق الفلسطيني ضد إسرائيل، بالإضافة أنها بلد مرحب بالمسلمين والجاليات المسلمة، ولا يوجد فيها عنصرية أو نزعة دينية مضادة".
وأردف: "لو أقيم مسجد أو مركز إسلامي في كل مكان، لن تكون هناك مشكلة، ولكن ما يعوق ذلك ليست تشيلي حكومة ولا شعبا، لكن ضعف الإمداد الإسلامي والاهتمام بالدعوة من الدول الإسلامية نفسها، حيث يندفعون إلى أوروبا أو إفريقيا، ويتجاهلون أميركا الجنوبية، ولو أنفق على الدعوة هناك معشار ما ينفق في أماكن أخرى، لكان المردود أوسع".
وبالعودة إلى تشيلي، قال مطاوع إن "تمركز الجنسية الفلسطينية المسلمة في تشيلي، ساهم في ازدهار الإسلام، خاصة وأنهم نشطوا على أكثر من صعيد، لا سيما الاقتصادي".
واستدرك قائلا: "بل إن أحد المسلمين الميسورين، أسس ناديا رياضيا هناك اسمه (بالستينا) وهي خطوة في غاية الذكاء، لأن هذه الشعوب مولعة بكرة القدم، والدخول إليهم من هذا الباب أساسي، حتى إنه بسبب فوز قطر بتنظيم كأس العالم، بدأت شعوب تهتم بالعرب وتلك المنطقة".
مع ذلك، وفق مطاوع، يجب التشديد أنه رغم التقدم الإسلامي في تشيلي، لكن الأمر يحتاج إلى مجهودات كبيرة، وأن الواقع ليس جيدا بما يكفي، فلا توجد منصة إسلامية إلكترونية أو قناة فضائية تتحدث عن الإسلام والعرب باللاتينية، فيما المراكز الإسلامية تستخدم طرقا كلاسيكية في التعريف بالإسلام عن طريق الكتيبات وما شابه، هذا إن وجدت من الأساس".
وأكد على ضرورة أن "تتحد مؤسسات العالم الإسلامي الكبرى للوجود أكثر في أميركا الجنوبية، وأن تقوم بدور فعال في هذه الدول التي يمكن أن تكون باكورة لعالم إسلامي جديد".
نسيج مختلف
من جانبه، قال الداعية اللبناني عبد الملك سماحة، إمام مسجد في ساو باولو، "لا بد وأن نعترف أن الوجود الإسلامي في أميركا الجنوبية عموما نشط منذ زمن، والبرازيل وتشيلي بشكل عام يشكلون نسيجا مختلفا للجاليات المسلمة، في هذه الدول صعبة المراس، غير أوروبا والولايات المتحدة وكندا، فهذا عالم آخر تماما، تحكمه قوانين مختلفة".
وأوضح سماحة أنه "عندما يتعلق الأمر بالإسلام في تشيلي فإنها تختلف عن بقية الدول، كونها صغيرة الحجم نسبيا، بالإضافة إلى أن المسلمين الذين هاجروا إليها في البداية لم يندمجوا بشكل كامل قبل تكوين كيانات اقتصادية وثقافية وروابط حقيقية، على عكس دولة مثل البرازيل، شاسعة المساحة ومحكومة بنظام فيدرالي، وبها عدد هائل من السكان، يتجاوز 200 مليون نسمة".
وأشار في حديث مع "الاستقلال" إلى "عدم وجود رابطة إسلامية كبرى في أميركا الجنوبية، تعرف الناس بالإسلام وفضائله، وترعى أحوال المسلمين، على غرار أوروبا، حتى دور المؤسسات الإسلامية مثل الأزهر، تضاءل بشكل ملحوظ، بعد أن كان يرسل الأئمة والوفود، انعدمت قوافله الدعوية وانتداب الإمام الراتب الذي يصلي بالناس ويقيم الشعائر".
واستدرك الداعية قائلا: "لولا أن هذا الدور تقوم به حاليا تركيا وباكستان، لانقطعت الصلة بالعالم الإسلامي البعيد".
وختم سماحة بالتأكيد على "ضرورة إيجاد هيئات دينية تكون هي واجهة الإسلام، تستطيع نشر الدعوة، وتعريف الشعوب اللاتينية بالإسلام، غير الجهود الفردية التي أحدثت فارقا كما حدث مؤخرا في تشيلي، التي لا بد أن تتخذ كنموذج لبقية الجاليات المسلمة في شعوب القارة اللاتينية".